المناهج المعاصرة في
التعامل مع النَّص الشرعي
دكتور : أحمد عبد
المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ
الرَّحيم
يُمَثِّلُ النَّص
الشرعي (قرآنا وسنة) المصدر الأول لهذا الدين بعقائده وأخلاقه وأحكامه، وهو أصل
بقية المصادر، ولم يزل العلماء - حتى الذين عُرِفَ عنهم التوسع في الرأي - يعظمونه
ويحتجون به في الأصول والفروع، ويرون تقديمه على كل رأي، بعد فهمه وإدراك معناه،
فلا يوجد أحد من الأئمة المشهود لهم بالعلم والفضل يَتَعَمَّدُ مخالفة نص صحيح
صريح. وإذا وُجِدَ فلابد له من عُذْرٍ في تَرْكِهِ.
وفي ذلك يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) :
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ
ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يتعمد مخالفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في شيء مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ ولا جَلِيلٍ؛ فَإِنَّهُمْ
مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أنَّ كل أحد من
الناس يُؤخذ من قوله ويُتْرَك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وُجِدَ
لواحد منهم قول- قد جاء حديث صحيح بخلافه- فلا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي
تَرْكِهِ. وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم قاله. والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده
أن ذلك الحكم منسوخ([1]).
ومن المهم جدًا أن
نشير إلى بعض الاتجاهات والمواقف التي وقفها بعض المعاصرين من النص ؛ ليتنبه إليها
طالب العلم فيحذرها.
ولأن المقام هنا مقام
إجمال وليس مقام شرح وتحليل فلن أدخل في التفاصيل الجزئية، وسأكتفي بالحديث عن
اتجاهين لهما حضورهما القوي على الساحة، وتقف كل منهما في جهة مقابلة للأخرى:
الأولى: تجهل فقه النَّص. والأخرى: تجحد النَّص ذاته، كما سيقتصر حديثنا على نصوص
الأحكام، وهي: كل نصٍّ يمكن أن يستفاد منه حُكْم فقهي، بطريقٍ مباشرةٍ أو بطريق
الاستنباط.
الطائفة الأولى:
الذين يجهلون فقه النَّص:
أي يجهلون الأسس
المنهجية الصحيحة في التعامل معه استنباطًا وتنزيلاً، وهؤلاء فريقان:
- فريق يهتم بتحرير
المسألة وذكر تفريعاتها نقلاً عن كتب الفقهاء ، دون أن يعتني بالأدلة ، إمَّا بعدم
إيرادها أصلاً، وإما بإيرادها مع عدم التمييز بين الصحيح والضعيف.
- وفريق يهتم بإيراد
الأدلة ومدى ثبوتها لكنه يهمل تحرير المسألة فقهياً ، وغالباً لا يهتم بدلالة النص
على المسألة محل البحث ، فلا يعطي الدليل حقَّه مِن الفقه والفِكْر والتدبُّر
والاستنباط، بل يأخذ بالنظر الأول والفهم الحرفي للنص بِغَضِّ النظر عن موافقة هذا
الفهم أو مخالفته لقواعد الاستدلال المعروفة في أصول الفقه.
وهم
- بدعوى اتباع الدليل –
قد يبالغون في ذم مخالفيهم من العلماء والفقهاء، وقد أصاب الإمام أبو جعفر الطحاوي
(ت: 321هـ) في قوله: "لا ينبغي لأحد أن يأتي إلى خبر قد احتمل تأويلات فيعطفه
على أحدها بلا دليل يدله على ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع، ثم يزعم أن من خالف ذلك
مخالف لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكيف يكون مخالفًا لما قد روي عن
رسول الله وقد تأول ذلك على معنى يحتمل ما قال؟ بل ما خالف إلا تأويل مخالفه ولم
يخالف شيئًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"([2]).
الطائفة الثانية:
الذين يجحدون النَّص:
ويمثِّلهم الجهلة
والمستغربون وغلاة العلمانيين وغيرهم ممن أصبحت عقولهم مناطق نفوذ للشرق أو الغرب
في العالم الإسلامي.
فهؤلاء يتنكرون
للدِّين ويسعون للحيلولة بينه وبين الأمة، داعين إلى التحرر من سلطة النَّص الديني
وإقامة الحياة بعيدًا عنه وطرده من دوائر التشريع، وحصره بين جدران المساجد،
وإبقائه شأنًا شخصيًّا، مجاله فقط ضمير الإنسان، اللهم إلا في بعض مسائل الأحوال
الشخصية كالزواج والطلاق، ... ، حتى باتت المسلَّمات والثوابت وما هو معلومٌ
مِن الدين بالضرورة محلَّ نقاش وأَخْذٍ ورَدٍّ، تحت دعاوَى شتى!!
ولا شك أنَّ تعامُل
هؤلاء مع النَّص لا يُسمَّى فقهًا أو تفسيرًا.
أثر الطائفتين على
الدين:
وقد كثرت الطائفتان
في عصرنا ، وعَمَّتْ بِهم البَلِيَّةُ، وعَظُمَتْ بِسَبَبِهم الرَّزِيَّةُ، مما
يجعلنا نتذكَّر قول القائل:
فحَقٌّ لِأَهْلِ
الْعِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا -- بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ في كُلِّ مَجْلِسِ
لقد هُزِلَتْ حتى
بَدَا مِنْ هُزَالِهَا -- كُلَاهَا([3]) وحتى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ
وقول آخر:
فَلَوْ كان سَهْمًا
واحدًا لاَتَّقَيْتُهُ ... ولكنه سَهْمٌ وثانٍ وثالثُ
كما وصل الحال إلى حد
الاغتراب الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ
فَوْقَ غُرْبَتِنَا التي --- لها أَضْحَتِ الأَعَدَاءُ فينا تَحَكَّمُ
ولكل طائفة من
الطائفتين أثرها وخطرها على الدين، فالأمر كما يقول الإمام ابن قَيِّم الجوزية (ت:
751هـ): "وضَرَرُ الدِّين وما جاءت به الرسل بهؤلاء مِن أعظم الضرر، فهما
ضرران؛ ضررُ مَن يَطعن فيه، وضررُ مَن يَنصره بغير طريق، وقد قيل: إِنَّ العدو
العاقل أقل ضررًا مِن الصديق الجاهل!!"([4]).
ومن هذه الآثار:
تشويه حقيقة الدين والجرأة على ثوابته ورَدِّ محكماته، وتشكيك الناس فيه، وغلبة الجهل،
وتعميق واقع الفُرْقة والتخلُّف والاختلاف، وتقديم ما حَقُّه التأخير، وتأخير ما
حَقُّه التقديم، والخلط بين المُحْكَمات والمتشابهات، والإغراق في الجزئيات
والفروع على حساب الفروض والواجبات والأصول والمقاصد، وحرمان الأمة والبشرية من
تفجير طاقات الإبداع الإنسانية ومن فيض العطاء الإلهي المتجدد، وشيوع الأقوال
الضعيفة والمذاهب العَسِرَة، وترجيح ما كان مرجوحًا أيام الازدهار الثقافي للأمة،
حتى ظن الناس أن الإسلام إذا حكم عاد إلى الدنيا التَّزمُّتُ والجمود!!، ولعلَّ المطَّلِعَ
على الساحة العلمية والدعوية والإعلامية المعاصرة يَلمس كثيرًا مِن ذلك!!
ولا يعني هذا خلو
العصر من أصحاب المنهج الصحيح في التعامل مع النَّص الشرعي فقها واستنباطا،
فهؤلاء-بفضل الله- موجودون بكثرة في كل مكان وزمان- وهم يحرصون دائما على أن
يحفظوا على النَّص هَيْبته مِن جهة، ويضمنوا صحة استنباط وتنزيل الأحكام المستفادة
منه مِنْ جهة أخرى.
---------------------------------------
([1]) مجموع الفتاوى (20/
232) ، رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 9(.
([2]) شرح معاني الآثار (4/
146).
([3]) هُزِلَتْ : أَصَابَها
الهزال والضعف. الكُلا والكُلْوات والكُلًى : جمع كُلية بضم الكاف، عُضْو معروف في جسم الإنسان والحيوان.
([4]) مفتاح دار السعادة
ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 212).
=======
الوعي بخطر تأثير
منصة نتفلكس على عقول الشباب
د . عبدالله بن معيوف
الجعيد
ammg96@gmail.com
بسم الله الرحمن
الرحيم
تمتاز مرحلة الشباب
عن غيرها من المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان بالطاقة والعنفوان، وهذا ما
يولد الدافع لدى هذه الفئة المهمة في المجتمع إلى البحث عما ينفقون به طاقاتهم
ويفرغون به إبداعاتهم، وإذا لم يجد الشباب ما يشغلهم من العمل والفكر الصحيح فإنهم
يضيعون طاقاتهم وأثمن أوقات حياتهم فيما لا ينفع بل وربما صرفوا هذه الفترة المهمة
من حياتهم فيما يجلب لهم الضرر الجسمي أو الفكري.
ونرى في وقتنا الحالي
العديد من الملهيات التي تستهدف فئة الشباب والتي يخصصون لها الكثير من أوقاتهم
بشكل يومي، بداية من مواقع التواصل الاجتماعي ووصولاً إلى منصة نتفلكس التي تحظى
اليوم باهتمام الغالبية من فئة الشباب.
ونتفلكس هي شركة
متخصصة في إنتاج وعرض الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية من خلال شبكة
الانترنت، وجزء من الأعمال التي يتم عرضها على منصة نتفلكس هو من إنتاجها الخاص
والبعض الآخر من إنتاج شركات أخرى تقوم المنصة بشرائه وبثه لمتابعيها، وقد حظيت هذه
المنصة باهتمام ومتابعة شريحة كبيرة من المتابعين حول العالم وخاصة من فئة الشباب،
ويمكن أن نرى تحول المتابعين من الشباب وغيرهم نحو الاهتمام بأعمال نتفلكس مع
عزوفهم عن متابعة أعمال غيرها من الأعمال التلفزيونية .
وتكمن خطورة موقع
نتفلكس على مجتمعاتنا وبشكل خاص فئة الشباب والمراهقين فيها من أن هذه المنصة
تستخدم الأعمال الدرامية مثل الأفلام والمسلسلات لترويج ونشر الأفكار الغير
أخلاقية والدينية المنحرفة والشاذة، والتي لا تتناسب مع عادات وقيم وأخلاق
مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، فغالباً ما تحتوي أعمال نتفلكس من مسلسلات وأفلام
على العديد من اللقطات الإباحية الصريحة والكاملة بالإضافة إلى أنها تقوم بتقديم
الأفكار المنحرفة المرتبطة بالجنس وعلى رأسها الشذوذ الجنسي أو المثلية الجنسية،
ومثل هذه الأفكار وتعرض الشباب والمراهقين لها في مجتمعاتنا تساهم في جعل مثل هذه
الأفكار المنحرفة أمر طبيعي وشيء مألوف لا تنكره عقول وقلوب الشباب والمراهقين، بل
ومن الأخطر أنهم قد يقبلوا على التعاطف مع مثل هذه الأفكار الشاذة والمنحرفة
والتعاطي معها وقد يميل بعض المتابعين وخاصة من المراهقين الذين لا يملكون الوعي
الكافي للتعامل مع مثل هذه الأفكار المنحرفة الخطيرة إلى تبنيها وتحولهم إلى شواذ
جنسياً.
ولا يخفى على المتابع
أن القائمين على هذه الشركة يتعمدون وبشكل واضح إقحام المشاهد الجنسية وبخاصة
الشاذة منها في كل عمل يذيع صيته وينتشر بين المتابعين، حيث قامت الشركة بشراء
العديد من الأفلام والمسلسلات الرائجة وأعادت إنتاجها أو قامت بإنتاج أجزاء جديدة منها
لإضافة محتوى جنسي شاذ إليها، بالإضافة إلى تحويل أشهر الأعمال الروائية التي تهتم
بها شريحة واسعة من القراء إلى أعمال سينمائية من أجل تحقيق أكبر نسبة ممكنة لنجاح
الحملات الدعائية التي تروج لأعمال الشركة، بل وتقوم الشركة بالترويج لهذه الأعمال
من خلال حملات دعائية ضخمة، ومن الملاحظ أن مثل هذه المشاهد التي تتعمد المنصة
عرضها من خلال أعمالها لا تتناسب مع هدف العمل سواء كان مسلسل أو فيلم، بل إن
الهدف من مثل هذه المشاهد هو تطبيع مثل هذه الأفكار في عقول الشباب ونشرها بينهم
على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم.
وهناك العديد من
أعمال هذه الشركة التي تستهدف المجتمع الشرقي والمسلم بالتحديد والتي تصور وجود
الأفكار المنحرفة في مثل هذه المجتمع، ولا يخفى أن مثل هذه المنصات تمثل خطراً
يحدق بهذه الأمة وبشبابها، وهذا الخطر العظيم يهدد أمن مجتمعاتنا الشرقية وعاداتنا
وقيمنا الأخلاقية النابعة من تشريعات ديننا الحنيف، وهذا ما يوجب علينا وبخاصة الآباء
والعلماء والتربويين أن نقف سوياً أمام مثل هذه الأعمال والعمل على محاربتها
والتصدي لها من خلال تنمية الفكر الأخلاقي والوازع الديني في نفوس الشباب
والمراهقين من أبنائنا، فمن الواجب أن نكون حريصين على مستقبل أبنائنا وحمايتهم
مما يشاهدوه من محتوى لا تتناسب أفكاره مع طبيعتنا الإنسانية وفطرتنا السليمة.
ولا يقف خطر
المسلسلات والأفلام التي تبثها منصة نتفلكس عند هذا الحد، بل تعداه ليصل إلى بث
الرسائل العقائدية التي تشكك في المعتقدات الدينية وتحقر من هذه المعتقدات وما
يتبعها من مظاهر، فهذه الأعمال يستهدف كل ما هو مقدس من أخلاق ومعتقدات في
المجتمع، ولا يمكن أن تكون مثل هذه الأفكار في محتويات أعمال هذه الشركة
واستهدافها لفئات الشباب والمراهقين أمراً عشوائياً، بل هو منهجية مخططة من أجل
هدم المعتقدات والمقدسات الدينية والأخلاقية في المجتمعات المحافظة.
ومن الملاحظ أن شركة
نتفلكس من خلال طبيعة أعمالها وحملات الدعاية التي تقوم بتصميمها وبثها تستهدف فئة
الشباب وخاصة المراهقين منهم، وذلك لأنهم تربة خصبة وخاصة في حالة إهمالهم من قبل
المجتمع لزرع الأفكار المنحرفة التي من شأنها أن تعمل على زعزعة الأمن الفكري
والأخلاقي للمجتمع والتي ينتج عنها مجتمع فاسد لا علاقة له بالقيم ولا بالأخلاق
ولا يربطه بالدين رابط، وقد وصلت نسبة مشاهدي منصة نتفلكس حول العالم في العام
2020 إلى حوالي 170 مليون تشكل نسبة الشباب والمراهقين منهم حوالي 55%، أي أن
غالبية متابعي هذه المنصة هم من الشباب والمراهقين، وقد ازدادت هذه النسبة عنها في
العام 2015 حيث بلغت 34%، وهي مرشحة للزيادة أكثر في ظل الأوضاع التي نعيشها اليوم
بسبب جائحة كورونا، وهذا غير تسهيلات الاشتراك في هذه المنصة التي تتيح إمكانية
الاشتراك فيها لجميع الفئات العمرية والاقتصادية، وفي الآونة الأخيرة تزايدت نسب
المشاهدة على هذه المنصة، حيث بلغت نسبة من يشاهدون هذه الأعمال عدة مرات ولمدة
ساعات في الأسبوع 64% من المتابعين وهذا مؤشر خطير يجب أن يتم الانتباه له
والتعامل معه.
وأخيراً فإنه من واجب
العلماء والدعاة والتربويين وأولياء الأمور القيام بالتعرف على الأخطار الفكرية التي
تمثلها متابعة مثل هذه المنصات على الشباب، والعمل على التصدي لها من خلال حملات
توعوية وإرشادية تستهدف تنمية الوازع الديني والأخلاقي لدى الشباب للحفاظ عليهم من
الضياع والتيه، ومن الضروري أن يتم تنظيم حملات على مختلف المستويات في المجتمع
لمقاطعة مثل هذه الأعمال والشركات التي تروج لها وبالإضافة إلى تدخل المسؤولين في
منع وجود مثل هذه الأفكار والشركات في مجتمعاتنا، كما أنه يجب أن تشتمل الحملات
التوعوية التي تستهدف الشباب على العديد من الأنشطة الفكرية والجسمية التي تستهدف
تفريغ طاقات الشباب واستثمارها بما يعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع بشكل عام.
من د. عبدالله الجعيد
==========
الناسُ سواسيةٌ في
دينِ الإسلام
د. عبدالله بن معيوف
الجعيد
@abdullahaljuaid
بسم الله الرحمن
الرحيم
لقد جاءت رسالة
الإسلام منذ ألفٍ وأربعمئة سنة حاملةً كل معاني الخير للبشرية جمعاء ولقد عبر القرآن
عن هذا المعنى بدقة ففي خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء 107، فدعوة الإسلام
جاءت مستهدفة الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألوانهم وغيرها من
المعايير التي يصنف على أساسها البشر، وتقر لهم كافة الحقوق على حد سواء فلا يتم
التعامل مع أي من الناس باعتبار شكله أو لونه أو عرقه أو حسبه ونسبه، بل إن معيار التفاضل
الوحيد الذي أقره الإسلام بين الناس هو التقوى، فكل الناس في الإسلام سواسية
فالإنسان هو الإنسان كان غني أم فقير قوي أم ضعيف حاكم أم محكوم، ويمكننا أن نلمس
وجود مبدأ المساواة بين الناس في الإسلام في كثير من المواضع في القرآن الكريم
والكثير من المواقف في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد جاء في القرآن الكريم
بيان أن الناس جميعاً يرجع نسبهم إلى أب واحد وأم واحدة فهم بذلك أخوة لا يجب أن
يتم التفريق في المعاملة بينهم بأي شكل من الأشكال فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات 13، كما أنه لا يمكننا أن نغض الطرف عن ما احتوت
عليه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أحداث ومواقف تأصل وتأكد على مبدأ المساواة
الذي يتم على أساسه التعامل مع كل الناس في الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم
يؤكد أنه لا يمكن لأحد مهما كانت مكانته أن يكون فوق القانون وأن يتم معاملته
بأسلوب مخالف لما يُعامَل به عامة الناس فيقر عقوبة السارق ولو كان واحدا أهل
بيته، فيقول في ضرر عدم المساواة في معاقبة المجرمين والتمييز بينهم بناءً على
مكانتهم وأنسابهم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه،
وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع
محمد يدها)، ولقد كانت حياة الصحابة في المدينة المنورة خير مثالٍ للتعايش
والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس فلا نرى بين الصحابة تمييزاً بين أبي بكر
العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جمعهم الإسلام جميعاً تحت عباءته
إخواننا متحابين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان المشط الواحد.
لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).
ولا ينكر الإسلام وجود
التفاوت بين الناس في أنسابهم وأعمالهم وأرزاقهم، بل يؤكد وجود ذلك إلا أنه لا يتم
التعامل على أساس هذا التفاوت مع الناس بل إن هذا التفاوت موجود لضمان استمرارية
الحياة البشرية وتكامل البشر في تقديم الخدمات المختلفة لبعضهم البعض، فقد قال
تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) سورة الزخرف 32.
والناظر إلى حضارة
المسلمين في مختلف مراحلها يلمس حقيقة المساواة بينهم وأن الحق في المساواة حقٌ
أصيل وليست وجهة نظر ولا يقوم على أهواء الناس، فها هم يصطفون في الصلاة جنباً إلى
جنب الحاكم والمحكوم والغني والفقير والقوي والضعيف والكبير والصغير خلف رجل واحد
مستقبلين قبلةً واحدة متذللين منكسرين لإله واحد.
ولعلنا نرى حقيقة
المساواة واضحةً جليةً في قصة الصحابي الجليل بلال الحبشي رضي الله عنه فها هو
يتحول من عبدٍ مملوك في الجاهلية إلى مؤذن النبي الصادح بأهم نداءٍ في الإسلام،
وعندما عيره أبو ذر الغفاري بلونه اشتاط النبي غضباً لما تحمله معايرة أبي ذر من
دعوى الجاهلية التي تتصف بالعنصرية في التعامل مع الناس والتمييز بينهم على أساس
أعراقهم واجناسهم وأحسابهم وأنسابهم وما يملكونه من متاع الدنيا فقال النبي لأبي
ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، أي أن ما صدر عنك من سلوك عنصري يتنافى مع أخلاقيات
الإسلام السمحة وإقرار المساواة بين الناس في الحقوق والاحترام.
ولقد تعدى مبدأ المساواة
في الإسلام التعامل بين المسلمين إلى تعامل المسلم مع غيره من الناس، فلقد جاء في
تشريع التعامل مع غير المسلمين في القرآن الكريم: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة 8، فقد أمرنا الله بالبر والقسط في التعامل معهم
وهما من أرقى مبادئ التعامل الإنساني، فحتى لو لم يكونوا مسلمين إلا أن لهم الحق
في احترام حقوقهم وحمايتها وعدم الاعتداء عليها، كما أننا نلمس الرقي في التعامل
الإنساني في وصية أبي بكر لجيش المسلمين حين أمرهم بحفظ حقوق الناس في الحياة
والدين وغيرها وعدم التعدي عليها.
ونرى بما لا يدع
مجالاً للشك أن الإسلام كان سباقاً في إقرار الحقوق المختلفة للناس والدعوة إلى
احترامها والحفاظ عليها وتحريم الاعتداء عليها وسلبها من الناس ومن بينها الحق في
المساواة، والشواهد التشريعية والعملية كثيرة في باب المساواة، أما اليوم فيرى
العالم أجمع الكثير من الحملات العنصرية التي تهدف إلى التمييز والتفضيل بين الناس
على أساس أعراقهم وأجناسهم وألوانهم في الكثير من دول العالم التي تُظهر للناس
التزامها ودفاعها عن حقوق الإنسان، فنرى الاعتداءات على الطوائف والأقليات
والأعراق في الكثير الدول حول العالم، ولقد شاهدنا في الأيام الأخيرة الكثير من
الأحداث المؤسفة التي تعرض لها أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة
الأمريكية، وليست هذه الأحداث الأولى من نوعها فغالباً ما يتم التعامل مع أصحاب
البشرة السوداء بالقوة وبشكل عنيف، ويرجع ذلك إلى عدم اتخاذ الحكومات للإجراءات
الجزائية المناسبة لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات من أفراد الشرطة والأمن التي أدت إلى
مقتل مواطن وخلفت الكثير من أعمال العنف انتقاماً لما يتعرضون له من عدم مساواة مع
غيرهم وانتهاك لحقوقهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم.
========================
خلاصة في مبحث التشبه
بالكفار
صابر دياب
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ
الرَّحيم
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) المائدة/51.(مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ
مِنْهُمْ)
قال شيخ الإسلام :
وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر
المُتَشَبِّه بهم ...فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر....وبكل حال
يقتضي تحريم التشبه" "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/270
).
## المقصود بالتشبه : ((
هو محاكاتهم في شيء من عقائدهم أو عباداتهم أو عاداتهم المختصة، أو غير ذلك من
أنماط سلوكهم التي تكون من خصائصهم، والتي يتفردون بها دون غيرهم، والتي عرفوا بها
وصارت شعاراً عليهم ))
## ضابط التشبه
:
1- كل ما كان من خصائص
الكفار الدينية والعادية فإنه يحرم التشبه بهم فيه مطلقاً دون الالتفات إلى القصد
2- المخالفة للكفار تكون
في أصل الفعل أو في وصفه .!
مثال في أصله : كعيد
الميلاد عند الكفار أو ما يسمى بعيد رأس السنة فهذا ليس مشروعاً من أصله، فعندئذٍ
لا يجوز لنا أن نفعله أصلاً.
مثال في وصفه : الصوم
عموما : نحن نصوم واليهود يصومون لكن الفرق بين صومنا وبين صوم أهل الكتاب أكلة
السَّحَر.
مثال آخر : صوم
عاشورا نحن نصومه ويهود يصومونه لكنَّه في أصله مشروع لنا , فعندئذٍ نخالفهم في
وصفه بصوم يوم التاسع
3- كل ما زال اختصاصه
بالكفار من العادات فإنه ليس من التشبه
مثاله : أمور الدنيا
من الصناعات - التجارات - الطبخ والأكل على الطاولات - اللباس وغير ذلك
..
مالم يكن من عاداتهم
الخاصة بدينهم
## الحكمة من النهي عن
التشبة:
1- أعمال الكفار الدينية
باطلة فالتشبه بها ضرر وفساد
2- أن التشبه بهم يأدي
إلى تبعية وخضوع المسلمين لهم فالتشبه بالغير دليل على الضعف النفسي ، والهزيمة
النفسية والشريعة لا تقبل من المسلمين أن يعلنوا تلك الهزيمة ، حتى وإن كانت
واقعاً .
3- التشبه بهم إعلان بالاعتراف
بالهزيمة وإعلانها يزيد الضعيف ضعفاً ، ويزيد القوي قوة ، وهذا قد يكون من أكبر
العوائق على نهوض الضعيف وتصحيحه لمساره.!!
4- التشبه بهم يورث
الاختلاط وارتفاع التمييز بين المسلمين والكفار وإضعاف هذا الأصل من أصول الدين
يضيع معه أص عظيم وهو البراءة من الكفار وبغضهم
5- المشابهة في الأمور
الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي وقد يصل
الأمر إلى أن يعتقد اعتقادهم ، أو يرى تصحيح مذاهبهم وآرائهم ، فبين الظاهر
والباطن ارتباط وثيق ، ويؤثر أحدهما على الآخر.
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة ، توجب مشابهة ومشاكلة في
الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي ، وقد رأينا اليهود والنصارى
الذين عاشروا المسلمين ، هم أقل كفراً من غيرهم ، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا
من معاشرة اليهود والنصارى ، هم أقل إيماناً من غيرهم" ا. اقتضاء الصراط
المستقيم (1/548)
وقال ابن القيم رحمه
الله تعالى : "لأن المشابهة في الزي الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهدي
الباطن كما دل عليه الشرع والعقل والحس ؛ ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه
بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب" الفروسية ص(122)
6- المشاركة في الهدي
الظاهر تورث تناسبا وتشابكا في الأعمال والأخلاق..!!
7- التشبه بهم يورث
المودة والمحبة لهم ولدينهم فالتشبه في المظهر الخارجي ملازم للمحبة والولاء
القلبي ، فلا يتشبه الإنسان إلا بمن يحبه ، والمسلمون مأمورون بالبراءة من الكفار
بشتى أنواعهم .
قال شيخ الإسلام ابن
تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/549) : "المشابهة في الظاهر
تورث نوع مودة ومحبة ، وموالاة في الباطن ، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة
في الظاهر ، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة" انتهى
## مظاهر التشبه بالكفار
1- انتشار التعطيل :
تعطيل الكون عن خالقه ومنه (( الإلحاد ))
2- تعطيل الرب عن أفعاله
وصفاته
( الوجودية - الحلولية
- الإتحادية - الجهمية - المعتزلة - - الرافضة - الصوفية - فرق الباطنية -
الأشاعرة)
3- انتشار بدعة التشبيه
4- الرضا بالتحاكم لغير
الله
5- تحريف النصوص لفظا
ومعنى
6- اعتقاد جواز الاستغاثة
البدعية بالمخلوق
7- ادعاء النبوة (
البهائية - القاديانية )
8- ظهور الرهبنة الصوفية
وادعاء رفع التكاليف
9- انتشار البدع والتعبد
بما لم يشرع كالأعياد المحدثة المكانية والزمانية .
## أسباب التشبه بالكفار
1- الجهل بالشرع والدين
عند عموم المسلمين
2- الانحراف العقدي عند
العامة وبعض الخاصة
3- التعصب المذهبي
الأعمى
4- الركود العلمي
والفكري في الأمة
5- التنازع السياسي
المؤدي إلي ضعف حكام المسلمين
6- سوء الحالة
الاقتصادية مما يؤدي الى الانبهار بالكفار
7- سيطرة الكفار على
المناهج الدراسية في البلاد الإسلامية
8- سيطرة الكفار على
الإعلام بكافة أنواعه
9- سيطرة الكفار على
الحُكَّام في كافة بلاد المسلمين..!!
## آثار التشبه بالكفار
1- انحسار المفهوم
الشامل للدين وجعله في العبادات البدنية فقط بدلا أن يكون منهج حياة
..!
2- ضعف الايمان بالله
وبرسوله وبدين الإسلام
3- انتشار فكر التشكيك
في الثوابت الدينية
4- انتشار دعوات فصل
الدين عن الدولة خوفا مما صنعته الكنائس سابقا
5- التحاكم إلى القوانين
الوضعية لدورأهل الكتاب في تنحية التحاكم للشريعة الإسلامية
6- زيادة غربة الاسلام
في بلاد المسلمين بضياع تميز المسلم
7- صعوبة الدعوة الى
الله تعالى بسبب الغربة
8 - نسف عقيدة الولاء
والبراء التى هي أصل من أصول الدين
9- فساد المناهج
التعليمية - مراعاة لخاطر الكفار- بإهمال المواد الدينية والتقليل من شأن اللغة
العربية ومدرسيها وصبغ العلوم بالصبغة الإلحادية
## العلاج
1- نشر الوعي الديني بين
المسلمين عموما
2- نشر مثل هذه المسائل
العقدية في المحاضرات والخطب والمقالات والكتب خصوصا
3- تقوية الوازع
الإيماني و إحياء روح المسئولية وترك الدِّعة واللا مبالاة
4- إحيا مبادئ الكرامة
والعزة عند المسلمين وترك الذل والتبعية واذلال النفس لغير الله
5- تقوية رابط الأخوة
الدينية بين المسلمين
6- إحيا فريضة
إنكارالمنكر على قدر الاستطاعة ولو بهجرالمنكروترك أماكن المنكرات
7-هجر قرناء السوء وترك
البطالين وعدم مصاحبة ركيك الدين
8- بيان أهمية العزة في
حياة المسلم كالاعتزاز بالله وبالدين وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم
9- بيان خطورة التشبه
بالكفار ووجوب البراء منهم ومن دينهم بنشر الفتاوى والخطب والكتب والكتيبات
والمقالات في ذلك
كتبه : الفقير إلى
الله صابر دياب
============
عبرة الأندلس
أ.محمد عبد الله عنان
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ
الرَّحيم
سلسلة مقالات أعجبتني
من مجلة (الرسالة)
عبرة الأندلس
للأستاذ محمد عبد
الله عنان
مجلة الرسالة العدد
93ص585 القاهرة
يوم الاثنين 12 محرم
1354هـ
الموافق 15 ابريل
1935م السنة الثالثة
ليس في تاريخ الإسلام
كله صفحة أدعى إلى الشجن والأسى من تاريخ الأندلس، ففي الأندلس وحدها بادت أمة
إسلامية عظيمة، ومحيت حضارة إسلامية زاهرة، ولم تبق ثمة من تلك الصفحة الباهرة سوى
أطلال وذكريات دارسة.
وقد زالت دولة
الإسلام في الأندلس ومحيت صفحته وأبيد أبناؤه منذ أربعة قرون، وقام فوق الأرض شعب
غير الشعب، ودين غير الدين، وحضارة غير الحضارة، ولكن المأساة ما تزال حية في صدر
كل مسلم يستعرض هذه الصفحة، وما زالت تثير في النفس بالغ الحسرات.
عاشت دولة الإسلام في
الأندلس زهاء ثمانية قرون، ولم يكن غريباً أن تغيض في هذا القطر النائي المنعزل عن
باقي الأقطار الإسلامية، بعد أن لبثت قروناً تمزق بعضها بعضاً، ولكن الغريب هو
انها استطاعت رغم جراحها الدامية أن تصمد للعدو الخالد المتربص بها مدى قرون.
على أن تاريخ الأندلس
نفسه يقدم إلينا سر هذا الفناء البطيء الذي سرى إلى الدولة الإسلامية منذ قيامها،
سنحاول أن نستعرض في هذه اللمحة السريعة بعض العلل الجوهرية التي أصابت المجتمع
الإسلامي في الأندلس منذ تكوينه، وغدت بمضي الزمن داء ذريعاً يقضم أسسه ويقوض
دعائمه، وما زالت به حتى استنفدت قواه وحملته إلى هاوية الانحلال والعدم.
كان فتح العرب
لأسبانيا فاتحة عصر جديد وبدء تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية.
ومع أن العرب شغلوا
حيناً بتوطيد الفتح الجديد ودفع حدوده، فأنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا
عناصر الشر والفوضى وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحاً
جديداً من الأمل والحياة.
وقد قضى الفتح على
سلطان الطبقات الممتازة، وتنفس الشعب نسيم الحرية، وفرض المسلمون الضرائب
بالمساواة والعدل بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم
وحرياتهم وأموالهم، وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق أتباع قوانينهم وتقاليدهم،
والخضوع لقضائهم. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر فقد كانت السياسة الإسلامية
مثلاً أعلى للتسامح، فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين والاعتقاد، وكانت تأدية
الجزية هي كل ما يفرض على الذميين من النصارى واليهود لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية
شعائرهم، ومن دخل الإسلام سقطت عنه الجزية وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع
الحقوق والواجبات. وفي ذلك يقول العلامة دوزي: (لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي
مما يدعو إلى الكثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن
العرب كانوا يتصفون بكثير من التسامح، فلم يرهقوا أحد في شئون الدين. . . ولم يغمط
النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم وآثروا حكمهم على حكم
الجرمان والفرج) ثم يقول دوزي عن آثار الفتح الاجتماعية: (كان الفتح العربي من بعض
الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء
التي كانت تعاينها البلاد منذ قرون. . .).
غير أن هذه الدولة
الجديدة التي بعثها الإسلام في أسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف
والخطر، وكان المجتمع الجديد، الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره يضطرم بمختلف
الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم
بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش يبغضون
قادتهم ورؤساءهم من العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطة والمغانم الكبيرة،
وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الأسبان، - وهم المولدون أو
البلديون - محدثون في الإسلام يشعرون دائماً بأنه، رغم إسلامهم أحط من الوجهة
الاجتماعية من سادتهم العرب. ذلك أن العرب، رغم كون الإسلام، يسوي بين جميع
المسلمين في الحقوق والواجبات ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء
المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار
القاصية التي افتتحها بالسيف لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس التي كانت دائماً
من خواص طبيعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة. على أن الخلاف
بين العرب أنفسهم كان أخطر ما في المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال؛ فقد
كانت عصبية القبائل والبطون ما تزال حية في الصدور، وكان التنافس بين الزعماء
والقادة يمزق الصفوف ويجعلها شيعاً وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل
عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار الخلاف والتنافس
بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام، منها أن
الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتبًع أعظم القبائل اليمنية، وكانت
لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدواً خشنين يخضعون لحمير ويؤدون لهم
الجزية؛ وكان بينهما خصومات وحروب مستعرة طويلة الأمد؛ ولنا في (أيام) العرب
ووقائعها المشهورة أمثلة رائعة من هذا النضال. قال ابن خلدون (واستمرت الرياسة
والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء
مصر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في
بني جفنة ويثرب، وكذلك في الأوس والخزرج، وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ضواعن
بادية، وأحياء ناجعة، وكانت في بعضهم رياسة بدوية، وراجعة في الغالب إلى أحد
هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز؛ فاستحالت صبغة الملك
اليهم، وعادت الدول لمضر إلى بينهم، واختصت كرامة الملك بالنبوة منهم، فكانت فيهم
الدولة الإسلامية كلها إلا بعضاً من دولها، قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً
للدعوة). وهكذا أسفر، النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، وانقلبت الآية
فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها.
وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان الحمير كان أصل اللغة
العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات باهر من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن
الكريم على النبي القرشي المضري، فكانت اللغة من مفاخر مضر تغار عليها، وتحافظ على
سلامتها ونقائها، بينما فسدت لهجات القبائل الأخرى بالاختلاط وضعف بيانها ، أضف
إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد في الطبائع والخلال مما كان يذكي
بينهما أسباب التنافس والتباعد، وقد كان الإسلام مدى حين عاملاً قوياً في جمع
الكلمة، ولكن العصر الأول ما كاد ينقضي حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها
وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية
التي افتتحها الإسلام بالسيف، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة التي تعمل تحت
لوائه مجالاً واسعاً للتنافس والتطاحن؛ وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرب
الذي قام بأسبانيا.
وكان البربر الذين
اشتركوا في فتح الأندلس واستعماره عنصراً خالداً في إذكاء هذا الخلاف؛ فكانت هذه
المعركة المزدوجة: العرب فيما بين أنفسهم، ثم العرب والبربر، هي قوام المجتمع الأندلسي.
كان هذا الخلاف يقضم
أسس المجتمع الأندلسي الفتي، ولم يمضي على قيامه أربعون عاماً حتى تحولت الأندلس
إلى بركان مضطرم من الحروب الأهلية؛ واستمرت هذه المعارك الداخلية زهاء قرن ونصف،
ولم يقف تيارها قيام دولة أموية جديدة، ولم تتخللها في ظل هذه الدولة سوى فترة
يسيرة من السكينة والتوطد، منذ الناصر إلى المنصور. بيد أن خطراً جديداً كان يتربص
بهذه الدولة الاسلامية التي يمزقها الخلاف الداخلي ، وهو خطر المملكة النصرانية
الأسبانية، التي نشأت صغيرة متواضعة ونمت بسرعة مدهشة، وأخذت تنافس المملكة
الإسلامية، وتتحين فرص الإيقاع بها، ولم تفطن الأندلس إلى هذا الخطر الداهم؛ وما
كاد صرح الدولة الأموية ينهار، حتى وثب المتغلبون على أشلاء الأندلس يقتسمونها،
وقامت دويلات الطوائف في المقاطعات والمدن، تنافس بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن
تنتزع ما بيد الأخرى، وألفى عدو الأندلس الخالد - أسبانيا النصرانية - فرصته
السانحة، فأخذت تؤلب دويلات الطوائف بعضها على بعض؛ وملوك الطوائف يرتمون في أحضان
النصارى، ويلتمس كل محالفتهم على خصمه ومنافسه. وكادت الأندلس يومئذ تسير مسرعة
إلى قدرها المحتوم، وانتزع النصارى كثيراً من قواعدها وأراضيها، لولا أن ظهر في الميدان
عامل جديد، هو قيام الدولة المرابطية فيما وراء البحر، ومقدم أميرها يوسف بن
تاشفين إلى الأندلس على رأس جنوده البربر، ملبياً داعي الغوث من جانب ملوك
الطوائف؛ فهنا استطاعت الدولة الإسلامية أن تنسى خلافها مدى لحظة، وأن تلقي على
النصرانية بمؤازرة المرابطين هزيمة حاسمة في سهول الزلافة؛ ثم افتتح المرابطون
الأندلس، وأقاموا بها دولة جديدة، ولكن الصرح القوي الباذخ كان قد أخذ ينهار؛ ولم
يدم تماسك الدولة المرباطية طويلاً، فقامت بالأندلس ملوك طوائف بربرية جديدة،
وعادت الأندلس تسير إلى فنائها، وجاء الموحدون بعد المرابطين، فوصلوا دولة البربر
بالأندلس مدى حين.
ثم كانت دولة بني
الأحمر بغرناطة، وكانت أندلس جديدة، ولكن صغيرة لا تعدو القطر الجنوبي المسمى بهذا
الاسم؛ وكانت أسبانيا النصرانية قد نمت واتسع نطاقها، واستولت على قواعد الأندلس
وثغوره العظيمة: قرطبة مهد الإسلام، وطليطلة، وأشبيلية، ومرسية، وبلنسية، وسرقسطة
وغيرها، وسطعت في مملكة غرناطة، مدى حين، لمحة من عظمة الأندلس الذاهبة وحضارتها
الزاهرة، واجتمعت أشلاء الدولة الأندلسية العظيمة في هذه المملكة الصغيرة
المتواضعة، وشغلت الممالك النصرانية الشمالية مدى حين بخلافها الداخلي. ولكن
الأندلس كانت تشعر بمصيرها شعوراً قوياً، واستطاع رجال مثل ابن الخطيب وابن خلدون
أن يستشفوا ببصرهم الثاقب ذلك المصير المروع الذي تسير إليه مملكة غرناطة. ذلك أن
نفس الخلاف الداخلي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية منذ البداية، واستمر يدفع
الأندلس إلى مصيرها خلال القرون، كان يعصف أيضاً بهذه المملكة الصغيرة، ولم يمض
بعيد حتى أخذت تمزقها المعارك الداخلية، ويثب أمراؤها بعضهم ببعض، ويستعدون خلال
هذه المعركة الخطرة، العدو الرابض المتربص بهم جميعاً.
وكان مصرع الأندلس
خلال إحدى هذه المعارك الداخلية، وما زالت قصة السلطان أبي الحسن، وأخيه الزغل،
وابنه عبد الله أبي محمد، وانشقاق المملكة الصغيرة في أدق ساعات الخطر إلى شطرين،
والتجاء أبي عبد الله إلى ملك النصارى لينصره على أبيه وعمه، ثم انتهاز النصارى
هذه الفرصة لإيقاع ضربتهم الأخيرة بتلك المملكة التي مهدت لهم سبل الظفر بتمزيق
بعضها بعضاً، وتلك الأمة المسلمة التي لم تعرف قط أن تواجه الخطر متحدة الكلمة
والقوى - ما زالت هذه كلها عبرة العبر، وكان مصرع الأندلس هذه المرة يسيراً
محققاً، فسقطت قواعدها الباقية تباعاً في يد النصارى، وسلمت غرناطة أخيراً، ووقعت النتيجة
المحتومة، وطويت صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولم يمض جيل أو اثنان حتى طويت
صفحة الإسلام كله، وكل آثاره وذكرياته من أسبانيا.
وقد كانت مأساة
الأندلس وما زالت عبرة بالغة ودروساً خالداً للعالم الإسلامي كله. ولكن العالم
الإسلامي لم يعتبر بهذه العبرة، ولم يع هذا الدرس، وما زال التفرق يمزق أوصاله حتى
التهم الغرب الجشع معظم أشلائه، وأضحى الإسلام ذليلاً في أرضه تخفق عليها أعلام
النصرانية.
فإنى يسير الإسلام؟
ومتى يدرك العالم الإسلامي قوة الاتحاد؟
محمد عبد الله عنان
المحامي
من صيد الخاطر مجموعة مقالات جيدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق