من صيد الخاطر
هل كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا؟
محمد أنور محمد رسال
بسم الله الرحمن الرحيم
(( هل كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا؟ ))
المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هل كان
اعتقادهم في الربوبية صحيحًا؟
(( أُغْلُوطَةٌ مشهورةٌ )):
هذه الأغلوطة يذكرها بعض طلبة العلم في الدروس
العَقَدِية، وربما ذكرها بعض المشايخ عندما يتكلمون عن توحيد الربوبية عند
المشركين، وهي:
(( كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا ))
ويستدلون على ذلك بآيات من كتاب الله، ومنها:
قال الله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } {الزخرف:87}.
قال الله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } {يونس:31}.
قال الله تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }{لقمان:25}.
والاستدلال بهذه الآيات على أنَّ (( توحيد الربوبية كان
عند المشركين صحيحًا مطلقًا ولا خلل فيه )) خطأٌ وليس بسديدٍ.
والصواب: المشركون يقِرُّون بتوحيد الربوبية في الجملة،
ولم يكن سليمًا، بل كان فيه خللٌ وشِرْكِياتٌ، ومنها:
أ ــ (( نسبة المطر للكواكب والأنواء )):
فقد كانوا ينسبون إنزال الغيث _الأمطار_ إلى الأنواء
(( برهان ذلك
)):
أ ــ قال الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } {الواقعة:82}.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } {الواقعة:
82} ثُمَّ قَالَ: (( مَا مُطِرَ النَّاسُ لَيْلَةً قَطُّ، إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُ النَّاسِ
مُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا )) قَالَ: وَقَالَ « وَتَجْعَلُونَ
شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
» ([1]).
ب ــ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ _رضي الله
عنه_ قَالَ:
صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ _صلى الله عليه وسلم_
صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ
اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:(( هَلْ
تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ )) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:(( أَصْبَحَ مِنْ
عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِر،ٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ:
فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بنَوْء
كَذَا وَكَذَا: فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ )) ([2]).
قال الإمام ابن عبد البر ::
(( وأمّا العربُ: فكانت تُضيفُ المطرَ إلى النَّوءِ،
وهذا عندهم معرُوفٌ مَشْهُورٌ في أخبارِهِم وأشْعارِهِم؛ فلمّا جاءَ الإسلامُ
نَهاهُم رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
عن ذلك، وأدَّبهُم وعرَّفهُم ما يقولُونَ عندَ نُزُولِ
الماءِ، وذلك أن يقولُوا: "مُطِرْنا بفَضلِ اللَّه ورحمتِهِ"، ونحوَ هذا
من الإيمانِ والتَّسليم لما نطقَ به القُرآنُ )) ([3]).
ب ـــ (( كانوا يأتون الكُهَّان )):
(( برهان ذلك
)):
أ ــ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ،
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ: كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ:(( فَلَا تَأْتُوا
الْكُهَّانَ )) ([4]).
وفي رواية: قال: إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ،
وقدْ جَاءَ اللَّهُ بالإِسْلَامِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ،
قالَ: (( فلا تَأْتِهِمْ )) ([5]).
ب ــ عَنْ عَائِشَةَ _رضي الله عنها_، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّ الْكُهَّانَ كَانُوا يُحَدِّثُونَنَا بِالشَّيْءِ فَنَجِدُهُ حَقًّا،
قَالَ: (( تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقُّ، يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقْذِفُهَا
فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ )) ([6]).
وفي رواية: قَالَتْ عَائِشَةُ _رضي الله عنها_: سَأَلَ
أُنَاسٌ رَسُولَ اللهِ ه عَنِ الْكُهَّانِ؟
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِه:(( لَيْسُوا بِشَيْءٍ ))
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ
يَكُونُ حَقًّا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ه: (( تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا
الْجِنِّيُّ،
فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ
فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ )) ([7]).
فدلت هذه الأحاديث أنهم في الجاهلية كانوا يأتون
الكُهَّان،وهذا شِرك في الربوبية ([8]).
ج ــ (( كانوا يتطيرون )):
( الطِّيَرَة ) - بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تُسَكَّن
-: وهي التشاؤم بالشيء ([9]).
فالطيرة هي: التشاؤم بمرئيٍّ، أو مسموعٍ، أو معلومٍ ([10]).
(( برهان ذلك
)):
حديث معاوية بن الحكم السلمي السابق ذِكره:
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ:(( فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ ))، قَالَ: قُلْتُ: كُنَّا
نَتَطَيَّرُ، قَالَ:(( ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا
يَصُدَّنَّكُمْ )) ([11]).
فثبت أنهم كانوا يتطيرون في الجاهلية، وقد سماها النبي
_صلى الله عليه وسلم_: شِركًا،وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ _صلى الله عليه وسلم_: (( الطِّيَرَةُ مِنَ الشِّرْكِ )) ([12])،
وفي رواية: (( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ )) ([13]).
والتطير يتعلق بعلم الغيب، وهو يتعلق بالربوبية.
د ــ (( ينسبون بعض الحوادث للدهر )):
(( برهان ذلك
)):
قال الله جل جلاله : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ }
{الجاثية:24}.
قال الإمام الطبري ::
(( وقوله: { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } يقول
تعالى ذِكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرُّ
الليالي والأيام وطول العمر، إنكارًا منهم أنْ يكون لهم ربٌّ يفنيهم ويهلكهم )) ([14]).
كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثِّر في
هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبْضَه الأرواح بإذن الله، وكانوا يضيفون كل حادثةٍ
تحدُثُ إلى الدهر والزمان ([15]).
هـ ــ (( إنكار البعث )):
قال الله جل جلاله :{ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن
لَّن يُبْعَثُواْ ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ
بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } {التغابن:7}
وأصل إنكار البعث: شكٌّ في قدرة الله جل جلاله ، وهذا
طعن في الربوبية.
(( خلاصة الكلام )):
قول من يقول: (( كان اعتقاد المشركين في الربوبية صحيحًا ))
والاستدلال ببعض الآيات على أنَّ (( توحيد الربوبية كان
عند المشركين صحيحًا مطلقًا ولا خلل فيه )) خطأٌ وليس بسديدٍ.
والصواب: المشركون يقِرُّون بتوحيد الربوبية في الجملة،
ولم يكن سليمًا، بل كان فيه خللٌ وشِرْكِياتٌ، مما سبق وذكرناه.
وبالله جل جلاله لتوفيق...
وكتبه: أبو عبد الله
محمد أنور محمد رسال
الاثنين / الثاني من جُمادى الأولى ( 1443 هـ )
الموافق: 6 / ديسمبر / 2021 م
----------------------------------------
([1]) ــ إسناده صحيح: رواه الطبري في تفسيره، ( 10 /
652 ) رقم: ( 33650 ) طـ ( دار الحديث ) القاهرة.
([2]) ــ رواه البخاري ( 1038 )، ومسلم ( 71 )، وأبو
داود ( 3906 )، والنسائي ( 1525
).
([3]) ــ التمهيد، ابن عبد البر ( 6 / 409: 410 ) طـ (
دار الكتب العلمية ) بيروت ـ لبنان.
([4]) ــ رواه مسلم ( 537 ).
([5]) ــ رواه مسلم ( 537 ) وأبو داود ( 390 ).
([6]) ــ رواه البخاري ( 3210 )، مسلم ( 2228 ).
([7]) ــ انظر: صحيح مسلم ( 2228 ).
([8]) ــ وهذا عند التصديق واعتقاد أنهم يعلمون الغيب،
وللمسألة تفاصيلُ من جهة أيٍّ منها يكون شركًا أو لا،
وأيٍّ منها يكون شركًا أكبر أو أصغر، ومتى يثبت الحكم
على المعين؛ إذ التكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين،
والغرض المقصود: أن للمسألة تفاصيلَ ليس هذا محل ذِكرها.
([9]) ــ النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير (
صـ 564 ) مادة: (طير) طـ ( بيت الأفكار الدولية ).
([10]) ــ التشاؤم بالمرئي: كالتشاؤم بالقطة السوداء،
والبُومة، وما شابه ذلك.
التشاؤم بالمسموع: كالتشاؤم من صوت الغراب، وصوت
البُومة، وما شابه ذلك.
التشاؤم بمعلوم: كالتشاؤم من رقم (13)، والزعم بأن يوم
الجمعة فيه ساعة نَحْسٍ - كما يقول جهلة العوام في زماننا _.
([11]) ــ رواه مسلم ( 537 ).
([12]) ــ صحيح: رواه أحمد ( 3687 )، الترمذي ( 1614 ).
([13]) ــ صحيح: رواه أبو داود ( 3910 )، وابن ماجه (
3538 ).
([14]) ــ تفسير الطبري ( 10 / 127 ) طـ ( دار الحديث )
القاهرة.
([15]) ــ تفسير النسفي ( 3 / 304 ) ح، إرشاد الساري
لشرح صحيح البخاري، القسطلاني ( 13 / 186 )
حديث رقم: ( 6181 ) طـ ( دار الكتب العلمية ) بيروت ـ
لبنان.
=====================
غُرَف الجَنَّةِ : وَصْفُهَا والطَّرِيق المُوَصِّلِ
إِلَيْها
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمدُ لله الذي يُجازي بالكثير على القليل، والصَّلاة
والسَّلام على نبينا مُحمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
" فإنَّ صاحب الهِمَّةِ العالية والنفس الشريفة
التواقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية، وإنما هِمَّتُهُ المسابقة إلى الدرجات
الباقية الزاكية التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه ولو تَلفَتْ نفسه في طلبه، ومن
كان في الله تَلَفه كان على الله خَلَفه.
فأما خسيس الهِمَّة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على
مجرد العفو، فيفوته- إنْ حصل له العفو- منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف:
هَبْ أنَّ المسيء عُفِي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين!!([1]).
والجنَّة محلُّ خواص الله وأوليائه، فيها فوق ما يخطر
بالبال أو يدور في الخيال، وقد خَّصَّصَ علماء الحديث أبوابا في كتبهم لوصف الجنة
ونعيمها، كما خَصَّها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد كابن أبي الدنيا(ت: 281هـ)، و
أبي نعيم الأصبهاني(ت: 430هـ)، وضياء الدين المقدسي(ت: 643هـ)، وابن قيم الجوزية
(ت: 751هـ) في كتابه : حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
وها أنا أذكر في هذا المقام -بعون الله وتوفيقه- بعضَ ما
جاء في غُرَف الجنَّة والطرق المُوَصِّلة إِلَيْها، جعلنا الله من أهلها.
أولًا - وَصْفُ غُرَف الجنة:
كلمة (غُرْفة) مفرد، جمعها غُرُفات وغُرْفات وغُرَف.
وغُرَف الجنة: منازل عالية ودرجة رفيعة، وهي- مِنْ حسنها
وبهائها وصفائها- يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، فهي شفافة لا يحتجب
من فيها، ولا يخفى عنها من خارجها. كما أنها عالية، ومن علوها وارتفاعها، أنها
تُرَى كما يُرَى الكوكب الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وقد ورد ذكر الغُرَف في القران الكريم في قوله تعالى:
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}، وقوله: {وَهُمْ فِي
الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ}، وقوله سبحانه: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
غُرَفًا}، وقوله تعالى: { لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}.
قال ابن القيم(ت: 751هـ) تعليقا على هذه الآية الكريمة :
أخبر تعالى أنها غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناء حقيقة ، لئلا تتوهم النفوس أن ذلك
تمثيل، وأنه ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفا مبنية كالعلالي ، بعضها فوق بعض
، حتى كأنها يُنْظر إليها عيانا، ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل
مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها([2]).
ثانيًا- الطَّرِيق المُوَصِّلِ إِلى غُرَف الجنة :
الْأَسْبَاب الموصلة إِلى غُرَف الجنة كثيرة، أكتفي بما
ورد في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ في الجنة غُرَفاً تُرَى
ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ، فقام أعرابيٌّ فقال:
لمن هي يا رسول الله؟ قال: لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وصلى بالليل والناسُ
نيام»([3]).
وقد أشار الإمام المناوي إلى أنَّ العَطف بِالوَاو في
هذا الحديث يقتضي اشْتِرَاط اجتماع الأمور المذكورة ([4]).
أولا: إطعام الطعام:
اهتم أصحاب الكتب الصحاح والمسانيد بهذه المسألة ووضعوا
لها بابا في كتبهم، حيث بوب الإمام البخاري "باب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ"،
وذكر تحته حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ
خَيْرٌ(أي أعمال الإسلام أكثر نفعا) ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ
السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»([5]).
* وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة
ونعيمها، قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ في تفسير (على حُبِّهِ):
أي على قِلَّتِهِ وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ. وقيل: على حُبِّ
اللَّهِ. وقيل: على حُبِّ إِطْعَامِ الطَّعَامِ. وكان الرَّبِيعُ بن خُثَيْم
إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ قال: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ([6]).
وروي عَنِ الحَسَنِ البصري: أَنَّ يَتِيمًا كان يَحْضُرُ
طَعَامَ ابْنَ عُمَرَ، فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ بِطَعَامِهِ، وطَلَبَ الْيَتِيمَ
فَلَمْ يَجِدْهُ، وجاءه بعد ما فَرَغَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجِدِ
الطَّعَامَ، فَدَعَا لَهُ بِسَوِيقٍ وَعَسَلٍ، فَقَالَ: دُونَكَ هَذَا،
فَوَاللَّهِ مَا غُبِنْتَ"([7]).
يعني لم تفتك فرصة الأكل معي، فلك عندي ما هو خير منه.
والسَوِيقٍ : طعام يصنع من دقيق الحنطة أو الشَّعير،
سُمِّي بذلك لانسياقه في الحلْق.
* ويتأكد إطعام الطعام للجائع والمضطر وللجيران خصوصاً،
وأفضل أنواعه : الإيثار مع الحاجة كما وصفه الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله
عنهم فقال: (ويُؤثِرونَ على أَنْفُسِهم ولو كانَ بهمْ خَصَاصَةٌ) ، وكان بعض السلف لا يفطر
إلا مع اليتامى والمساكين، ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، ومنهم من كان يعمل
الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، واشتهى أحدهم حلواء، فلما صُنِعَتْ له
دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. فقال: ومن أكله غيري!.
وقال آخر منهم -وجرى له نحو من ذلك-: إذا أكلته كان في الحُشِّ (بيت الخلاء) ،
وإذا أطعمته كان عند الله مذخوراً.
"وقد جمع فيه بعض العلماء المحدثين أربعين حديثا في
شأن فضله، وفيه مع الأجر: شرف الذكر في الدنيا، ومحبة العباد له، فإن القلوب جبلت
على من أحسن إليها وعلى الثناء عليه ، ولذلك صار ذكر حاتم الطائي في كل مكان،
وضربت بجوده الأمثال كل لسان، فمطعم الطعام فائز بالأجر في الدنيا والآخرة، مع تعويض
له فيما ينفقه، ومغفرة الله له"([8]).
وقد يظن ظان أنَّ هناك تعارضا بين ما ورد في فضل إطعام
الطعام، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَاحِبْ إلا مُؤْمِناً،
ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إلا تَقيٌّ"([9]).
قال الإمام الخطابي (ت: 388هـ): هذا إنما جاء في طعام الدعوة
دون طعام الحاجة، وذلك أن الله سبحانه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]،
ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته
ومؤاكلته، فإن المُطاعمة توقعُ الألفةَ والمودةَ في القلوب. يقول: لا تُؤالف مَن
ليَس مِن أهل التقوى والورع، ولا تتخذه جليساً تُطاعمه وتُنادمه"([10]).
وقيل: هذا حث على الأولى والأرجح ، وإنْ جاز خلافه ،
فليس المراد من هذا الحديث حرمان غير التقي من الإحسان، فإطْعَام الطَّعَام لكل
أحد من برّ وَفَاجِر وصديق وعدّو مطلوب، لأنه بِرٌ للنفس يطفئ حرارة الحقد والحسد
وينفي مكامن الغل، والنبي أطعم المشركين وأعطى المؤلفة قلوبهم.
ثانيا: الكلام الطيب:
المقصود بأطاب (الكلام) أي تكلم بكلام طيب، ويدخل فيه :
مخاطبة الناس باللين، وملاطفتهم، وطلاقة الوجه معهم، وتجنب الغلظة والفظاظة ونحو
ذلك.
وفي رواية: " إفشاء السلام "، وهو داخل في لين
الكلام، وقد وردت نصوص كثيرة في فضل طيب الكلام ، منها : قوله تعالى: (ادفعْ بالتي
هيَ أحسنُ) ، وقوله: (ويدرَؤُن بالحسنةِ السيئةَ) ، وقوله : (وقل لعبادي يقولوا التي
هي أحسنُ) ، وقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسنُ) ،
وقوله سبحانه: (وقُولوا للناس حُسناً)
[البقرة: 83].
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ) : وهذا كله حض على مكارم الأخلاق،
فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر،
والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه،
لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر
ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. والقول اللين هو القول
الذي لا خشونة فيه، فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى
بأن يقتدي بذلك في خطابه و كلامه. والنصوص المذكورة دخل فيها اليهود والنصارى فكيف
بالمسلم! ([11]).
وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من
الإحسان بإعطاء المال، كما قال لقمان لابنه: يا بُنيّ! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك
منبسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يُعطيهم الذهب والفضة. وروي عن ابن عمر أنه كان
ينشد:
بُنَيَّ! إنّ البرَّ شيءٌ هيِّنٌ ... :وجهٌ طليقٌ وكلامٌ
ليِّنٌ.
ثالثا: الصلاة بالليل والناس نيام:
أي التهجد في جوف الليل حال غفلة الناس واستغراقهم في
لذة النوم، وذلك هو وقت الصفاء وتنزل الرحمات.
وقد مدح الله تعالى المتهجدين بالليل ، فقال تعالى:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17]
، وقال
تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، وقال سبحانه: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ،
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات: 17، 18]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]،
وقال جل شأنه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ
الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ
وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الانسان:26]
وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل: «لا تدَعْ قيام الليل،
فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- كان لا يَدَعُهُ، وكان إِذا مَرِض أو كَسِلَ
صلى قاعداً»([12]).
وفي قيام الليل من الفوائد أنه: يَحُطُّ الذنوب كما يَحُطُّ
الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة، وينور القبر، ويحسن الوجه، ويذهب الكسل،
وينشط البدن، وترى الملائكة موضعه من السماء كما يتراءى الكوكب الدري لنا من
السماء([13]).
* وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها:
- أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
- ولأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم
والراحة من التعب بالنهار فتركُ النوم مع ميل النفس إليه مجاهدةٌ عظيمة قال بعضهم:
أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس.
- ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه
تنقطع الشواغل بالليل ويحضر القلب ويتواطأ هو واللسان على الفَهم كما قال تعالى:
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]
إن ساعات الليل هي أشد موافقة للقلب مع القراءة وأصوب قولًا.
- ولأن وقت التهجد هو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء
واستعراض حوائج السائلين.
نسأل الله – بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ - أن يرزقنا الدرجات
العلى من الجنة ، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم آمين.
------------------------------------
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244).
([2]) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 142).
([3]) أخرجه أحمد (22905)، والترمذي (1984).
([4]) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 325).
([5]) أخرجه البخاري (12) ومسلم (39).
([6]) تفسير القرطبي (19/ 128).
([7]) تفسير القرطبي (19/ 129).
([8]) التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 538).
([9]) أخرجه أبو داود (4832) والترمذي (2395) وهو حديث
حسن.
([10]) معالم السنن(4/ 115).
([11]) تفسير القرطبي (2/ 16) ، (11/ 200).
([12]) أبو داود رقم (1307).
([13]) فيض القدير (4/ 351).
==============================
أسباب الفلاح كما بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّة
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من الأمور المشتركة بين بني الإنسان أن كل واحد منهم
يبحث عن السعادة، والمُصيب منهم حقاً مَنْ التمسها في نصوص الوحي واستوحاها منه،
فهو منبع الخير ومَطلعُ الهداية، ولأن الله عز وجل هو خالق الناس جميعاً فَمَن خَلَقَ
الخَلْق وأتقنه وأحسنه لا بد أن يعلم ما يُصْلِحه ويُسْعده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ}، ولأن اهتمام الوحي بالأساس مُنْصَبٌّ على تهذيب الإنسان والرقي بالنفس
البشرية إلى مدارج الكمال، ومن هداية الوحي حديثه عن المفلحين وبيان أهم صفاتهم
التي تؤهلهم للفوز والفلاح والطمأنينة والراحة النفسية.
معنى الفَلاَح :
فلَح الشَّخصُ ، يَفلَح، فَلاحًا، فهو فالِح: فاز، ظفِر
بما يريد.
وعَرَّفَه الإمام المناوي بأنه: الفوز بالبُغْية في
الدارين. كما عَرَّفَه الشيخ السعدي بأنه : اسم جامع لحصول كل مطلوب محبوب،
والسلامة من كل مخوف مرهوب.
وقسّمه العلماء الى نوعين: دنيوىّ، وأُخروىّ.
فالدّنيوى: نيل الأَسباب الَّتى بها تطِيب الحياة. وهى
البقاءُ (الصحة والعافية)، والغِنى، والعِزَّ.
والأُخروىّ: أَربعة أَشياءَ: بقاءٌ بلا فناءٍ، وغنى بى
فقرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ وعلم بلا جهل. لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم:
"اللهمّ لا عيش إِلا عيش الآخرة" ([1]).
أسُسُ الفلاح كما بَيَّنَهَا النبي الكريم:
أوصاف المفلحين مبثوثة في سور القرآن وآياته، كما اهتمت
السنة النبوية ببيان طرف من دعائم الفلاح، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن
العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «قد أفْلَحَ مَنْ
أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه».
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب
في الكفاف والقناعة، وقد أورده الإمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين، في
بابين متتابعين، الأول : باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول
والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
والثاني: باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة
والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
ورواه أيضا الإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، باب
ما جاء في الكفاف، بلفظ: «طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافاً
وَقنِعَ» .
ولفظ طُوبَى (مفرد): مؤنَّث أطيبُ. ومعناها غبطة وسعادة،
وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب، وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}: والمعنى : لهم كل مستطاب في الجنة من بقاء وعِزّ
وغنى، ويقال: طُوبَى لك و طوباك: لك الحظّ والعَيْش الطَّيِّب، وطُوبَى لكم: كونوا
سُعداءَ جدًّا.
وطُوبَى أيضا اسم عَلَم للجنّة أو لشجرة فيها.
وفيما يلي محاولة متواضعة لتوضيح معالم ودعائم طريق
السعادة والفلاح كما بينها هذا الحديث النبوي الشريف.
الأساس الأول : الهداية للإسلام.
لا شك أن الإسلام تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة،
فعلى قدر إسلام الوجه والقلب والجوارح واللسان لله -تبارك وتعالى- على قدر ما يحصل
للعبد من الفلاح؛ لأن النبي علقه بذلك في قوله (قد أفلح من أسلم)، والحُكْم المُعَلَّق
على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
ووجه كون الإسلام سبباً في الفلاح:
- أنه سبب لنجاة العبد من النار ودخوله الجنة، قال
تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) ، ولن يقبل الله
من أحدٍ ديناً غير الإسلام.
- أن الإسلام أكمل الشرائع وأفضلها، وأعلاها وأجلها، فهو
الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لجميع البشر منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة،
وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعًا.
- أنه دين الفطرة ، كما أنه حرر الإنسان من عبودية
العباد إلى عبودية رب العباد.
- أن من مقاصده الأساسية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل
والمال، ولا يمكن لإنسان أن يهنأ بعيش أو راحة في ظل انتقاص أو غياب واحد من هذه
المقاصد. فماذا سيكون حال الانسان لو غاب او انتقص جُلُّ هذه المقاصد.
- أن ما شرعه من أحكام وعبادات وأخلاق هدفها تنظيم حياة
الإنسان، وبث الراحة والطمأنينة والسعادة في نفسه، ولتجعل منه مخلوقاً مكرماً يعيش
لهدف، ليس كل هَمَّه أن يأكل ويشرب ويتمتع كما تفعل الأنعام.
وبشكلٍ عام يمكن القول أنَّ الحياة النافعة إنما تحصل
بالاستجابة لله ورسوله، وقد استفاض الإمام ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) في
بيان ذلك عند تفسيره لقول الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...} [الأنفال: 24]، فقال ما
ملخصه :
فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها:
أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن
لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين
أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنا،
فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان
أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه ففيه الحياة،
فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:
النوع الأول: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار
ويؤثر ما ينفعه على ما يضره.
النوع الثاني: حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق
والباطل، والغَيّ والرشاد، والهوى والضلال.
فكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو
رسول الله من روحه، فيصير حيًا بذلك النفخ، وإن كان قبل ذلك من جملة الأموات،
فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول البشري من الروح الذي أُلْقى إليه،
كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه
بهذا الروح فهو ميت...([2]).
الأساس الثاني : الكفاية من الرزق
قد يهدي الله العبد للإسلام، ولكنّه يُبْتَلى: إمّا
بفقرٍ يُنسِي، أو غِنَىً يطغي، وكل مِنهُمَا ملهاة تُورث الهمّ والغمّ
وَالْقَسْوَة أو المذلة، فمن أراد به الله الخير والفلاح كان رزقه كفافاً، لأنه
سلم من تَبِعَةِ الغنى وذُلّ سؤال الخلق.
وحَدُّ الكفاف : أن يجد الإنسان ما يدفع ضروراته وحاجاته
ويَكُفَّ قلبه ولسانه عن سؤال الناس والتطلع إلى ما في أيديهم.
وغني عن التنبيه أن المراد بالرزق الحلال؛ لأنه لا فلاح
مع رزق حرام .
وفي فضل الكفاية يروي لنا أبو الدّرداء- رضي الله عنه-
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا
بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا
الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا
قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى ،...([3]).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون رزق آل
محمد ما يقوتهم ويكفيهم فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: «اللهمّ ارزق آل محمّد قوتا»([4]). وفي رواية عند مسلم:
"كفافاً"
والقوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ويَكُفُّ عن الحاجة،
سُمِّيَ قوتا لحصول القوة منه، وهو بمعنى الكفاف. والمعنى: اكفهم من القوت ما لا
يرهقهم إلى ذُلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترف والتبسط في الدنيا.
قال العلامة المناوي (المتوفى: 1031هـ):
وقد احتج بهذا مَنْ فَضَّل الفقر على الغنى، وقد اتفق
الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة
متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أواسطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه
وسلم بقوله:( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال،
والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي، وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ
منهما، فهي أفضل منهما([5]).
الأساس الثالث : القناعة التامة بما قسم الله له.
قد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً،
ولكنه لا يقنع بما آتاه الله، بل يكون في قلق دائم وتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل
نهار، وقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة، فمثل هذا فقير القلب والنفس، من
هنا جاء الأساس الثالث ليكتمل بذلك مثلث الفلاح (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).
تعريف القناعة :
قنَعَ، يَقْنَع، قَناعةً، فهو قانِع وقَنوع وقَنِع،
وقنِع الشَّخْصُ بالشَّيء: رَضِيَ بما أُعْطِي وقَبِلَه، عَكْس (حَرَص)، والقانع:
الرّاضي بما قسم الله.
قال ابن عَلَّان الشافعي (المتوفى: 1057هـ):
(وَقَنَّعَهُ) أي صَيّره قانعاً، ولعل التضعيف (أي:
تشديد النون في قوله: وَقَنَّعَهُ) إيماء إلى بُعْد هذا الوصف عن طبع الإنسان، فمن
حاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من
الدنيا والحرص عليها إلَّا مَنْ عَصَم الله، وقليل ما هُم، وكأن المعنى: وجعله الله
بِخَفِيِّ ألطافه قانعاً بما أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث: أن من
حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين([6]).
ووجه كون القناعة سببًا للفلاح؛ أنها تمنع صاحبها من الوقوع
في الظلم، والتطاول على الأموال المحرمة، وبسبب ذلك يَهْلَكُ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ كما مشاهد في الواقع المُعَاش.
وجه ثان: أنَّ الطامع – وهو عكس القانع- كلما حصل على
شيء من أمور الدنيا طلب غيره، وهَلُمَّ جَرَّا، فنَفْسَهُ فقيرة أبدا حتى يقبض ملك
الموت روحه وهو على تلك الحالة الخبيثة، مِنْ غير استعداد للموت ولا تأهب له، وفي
ذلك خسران مبين.
وهناك وجه آخر : وهو أن الحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم
يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل
الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والقناعة أحد الأسباب لتحقيق ذلك،
فبسببها يكون المسلم راضياً برزقه، منشرح الصدر والبال، لذلك كان من دعاء النبي
صلّى الله عليه وسلّم: « اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي
فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ»([7]).
ومن أقوال الحكماء: أطول النّاس غمّا الحسود، وأهنأهم عيشا
القنوع، القناعة كنزٌ لا يَفْنَى، العبدُ حُرٌّ إذا قنَع، والحرُّ عبدٌ إذا طمِع،
خير الغنى القنوع وشرُّ الفقر الخضوع، من لزم القناعةَ نال عِزًّا، من لم يقنع
باليسير لم يكتفِ بالكثير.
ومن عيون الشعر العربي:
والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وفي الختام أود الاشارة الى أمرين هامين:
الأمر الاول: ليس معنى القناعة والكفاف أن يلازم الإنسان
بيته ويقعد عن طلب الرزق، ويقول: إنني راضٍ بحالي، بل عليه أن يسعى بِجِدٍّ
واجتهاد في طلب الرزق، استجابة لقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا
فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وكان أحد السلف إِذَا صَلَّى
الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ على بَابِ الْمَسْجِدِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنِّي
أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ([8]).
وكذلك استجابة لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وخوفاً من الإثم المشار إليه في قول النبي
صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)([9]).
الأمر الثاني: لا يُفهَم من الحديث ذم الغنى أو مدح
الفقر ، وقد أشار الإمام المناوي (المتوفى: 1031هـ) إلى أن صاحب الحالة- التي أشار
اليها الحديث الشريف- معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد
نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلَّا
السلامة من قهر الرجال وذُلِّ المسألة([10]).
نسأل الله أن ييسر لنا طريق الفلاح، وأن يجعلنا من
الفالحين المفلحين، اللهم آمين، وصلى اللهم على النبي الأمي وعلى آله وصحبه اجمعين.
--------------------------------------------
([1]) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 180).
([2]) الفوائد لابن القيم (ص: 88).
([3]) أخرجه احمد في المسند (21721) وقال المحقق: إسناده
حسن.
([4]) البخاري (6460) ومسلم (1055) .
([5]) فيض القدير (5/ 479).
([6]) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 468).
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 356) ، وابن خزيمة
(4/ 218)، وابن أبي شيبة(4/ 109)، والبيهقي في شعب الإيمان،(4/ 454).
([8]) تفسير ابن كثير (8/ 122).
([9]) أخرجه أحمد (6495)، وأبو داود (1692)، وابن حبان
(4240).
([10]) فيض القدير (4/ 508).
================
عِلْم أصول الفقه: تعريفه وأهميته ونشأته
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا: تعريف علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه علم مستقل، وضعه علماء الأصول وبنوه على
أصول لغوية وشرعية وعقلية، وعرفوه بأنه: مجموعة القواعد الكلية التي يتوصل بها إلى
استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
ويهتم هذا العلم بدراسة الأدلة الشرعية ومراتبها، الحكم
الشرعي وأقسامه ، دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، الناسخ والمنسوخ، التعارض
والترجيح ، مقاصد التشريع ، شروط الاجتهاد....الخ
وقد سُمِّيَ بهذا الاسم لأنه يتضمن القواعد والأسس التي
يُبْنى عليها علم الفقه، وفي المقابل سُمِّيَ علم الفقه بعلم الفروع لأنه يتفرع عن
علم الأصول. وقد أحسن جمال الدين الإسنوي الشافعيّ (ت: 772هـ) حين بدأ خطبة كتابه ( نهاية
السول شرح منهاج الوصول) بقوله : وبعد؛ فإنَّ أصول الفقه عِلْم عظيم قَدْره،
وبَيِّنٌ شَرَفه وفَخْره، إذ هو قاعدة الأحكام الشرعية، وأساس الفتاوى الفرعية،
التي بها صلاح المكلفين معاشًا ومعادًا.
ثانيًا: الفقه والأصول وجهان لعملة واحدة:
تجدر الإشارة إلى أنَّ الفقه وأصول الفقه وجهان لعملة
واحدة، فلا فقه على الحقيقة بغير أصول. فذكر الأول متضمن للثاني ضرورة ، ولا
يفترقان إلا في غرض الدراسة والتعليم.
وإذا كان علم النحو- بالنسبة للنطق العربي والكتابة-
ميزانًا يضبط القلم واللسان ويمنعهما من الخطأ؛ فإنَّ علم الاصول يضبط خط سير الفقيه
ويمنعه من الانحراف في الاستنباط او التنزيل.
ورغم أنَّ الناظر في كتاب المُحَلَّى للإمام أبو محمد
ابن حزم الظاهري (ت: 456هـ) لا يرى سوى نصوص من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة
والتابعين- وهذه كلها من مفردات الفقه والاجتهاد ومكوناته الأساسية- إلا أنَّ عدم
أخذه بأصول الاستدلال المتفق عليها جعلته يخرج علينا بأقوال شاذة، ومِنْ ثم
هَجَرَه علماء عَصْره ؛ بل وحَرَّقَ بعضهم كُتُبَه!
هذا يعني أنَّ علم أصول الفقه من العلوم الضرورية
والأساسية التي لا يمكن لطالب العلوم الشرعية الاستغناء عنها أبدًا؛ لأنَّ عليه
مدار الشرع، وبه تُعْرف مقاصده، ويُهتدى إلى أحكامه، وبدونه لا يمكن السير على
منهاج قويم في استنباط الأحكام.
ثالثًا: تأكيد العلماء على أهميته:
لا يجوز لأحد أن يتعرض لفقه النَّص وتنزيله، إلا إذا كان
على دراية بهذا العلم نظريًا وعمليًا؛ ولا تكفي فيه الثقافة العامة أو القراءة
المتعجلة، بل لابد من تمكن ورسوخ وتضلع؛ وقد أكد الأئمة قديمًا وحديثًا على أهمية
علم اصول الفقه ، والنقول عنهم في ذلك-مختصرة ومطولة- كثيرة ، فمن النقول المختصرة،
قولهم : "من حُرِمَ الأصول حُرِمَ الوصول"، وقولهم : "أَكْثَرُ مَا
يُفْسِدُ الدنيا: نِصْفٌ مُتَكَلِّمٌ، ونصف مُتَفَقِّهٌ ونِصْفٌ مُتَطَبِّبٌ
ونِصْفٌ نَحْوِيٌّ. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا
يفسد اللسان"([1]).
ومن التقريرات المطولة قول الإمام شهاب الدين
القَرَافِيّ (ت: 684 هـ): "ذهب قوم من الفقهاء الجُهَّال على ذمّه، والتقليل
من شأنه، وتحقيره في نفوس الطلبة، بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يُتَعَلَّم
للرياء، والسُّمعة، والتغالب، والجدال، لا لقصد صحيح، بل للمضاربة والمغالبة، وما
علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير... أو ما علموا أنه
أول مراتب المجتهدين، فلو عَدِمَه مجتهد لم يكن مجتهدًا قطعًا. غاية ما في الباب
أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما
المعاني فكانت عندهم قطعًا. ومن مناقب الشافعي - رضي الله عنه - أنه أول من صنف في
أصول الفقه... وإنما يُذَمُّ القصد الصارف له إلى الباطل، فما من شيء في العالم
إلا هو كذلك، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}
[الأنبياء: 35]، فجعل الجميع فتنة إشارة لما ذكرته، وأصول الفقه وأصول الدين من
الفروض المتعين إقامتها وضبطها، لوجوب الحُجَّة لله تعالى على خلقه، وإيضاح أحكام
شريعته"([2]).
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "لابد أن يكون مع الإنسان
أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إليها الجزئيات؛ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ،
ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ. وإلا فيبقى في كذب وجهل في
الجزئيات، وجهل وظلم في الْكُلِّيَّاتِ، فَيَتَوَلَّدُ فساد عظيم"([3]).
رابعًا : أصول الفقه من حيث النشأة والتدوين :
يمكن إجمال المراحل التي مر بها تدوين أصول الفقه في
النقاط التالية:
مرحلة النشأة:
يُعَد الإمام الشافعي أول مَن صنَّف في هذا العِلم ، حيث
ألف كتابه "الرسالة"، وهو وإن لم يستوف كل أبواب الأصول وقواعده،
لكنه أرسى مبادءها الأساسية، وتميزت كتاباته بالمنهجية وبالتجرد والموضوعية بعيدًا
عن الهوى والنزعات الشخصية والمطالب الدنيوية. وتوالى التأليف بعد ذلك.
مرحلة الازدهار والنضج:
وتبدأ من أواخر القرن الثالث إلى القرن السابع، حيث
تبلور عِلم أصول الفقه ونضجت مباحثه وتقسيماته وتوسَّعتِ البحوث فيه، ومن أبرز
مؤلفات هذه المرحلة: كتاب الأحكام في أصول الأحكام لأبي محمـد بن حزم الأندلسي
الظاهري (ت: 456هـ)، وأصول السرخسي (ت: 483هـ)، والبرهان للإمام الجويني الملقب بإمام
الحرمين (ت: 478هـ)، وقواطع الأدلة في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني (المتوفى:
489هـ)، والمستصفى لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) ،
والمحصول لفخر الدين الرازي (ت: 606هـ)، وروضة الناظر لابن قدامة المقدسي (ت: 620هـ)،
الأحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي (ت: 631هـ).
مرحلة التقليد والفتور:
وقد امتدت من القرن السابع وحتى القرن الثالث عشر
الهجري؛ حيث كانت المصنفات تكرارًا لجهود السابقين شرحًا وتلخيصًا مع إضافات
يسيرة، بالإضافة إلى كثرة الاختصارات والشروح والحواشي، حتى غدا بعض ألفاظها على
شكل ألغاز وأحاجي، لا تفيد قارئا ولا سامعًا.
ولأنَّ الأرض لا تخلو مِنْ قائم لله بِحُجَجِهِ، فقد كان
- وما زال - يبرز بين الفَيْنة والأخرى علماء في مختلف الأمصار، تحرَّروا مِنْ
قيود التَّقليد، وبلغوا رُتْبة الاجتهاد، واستكملوا أدواته وحملوا رايته، فلم
تخْلُ هذه الفترة من بعض الكتابات المبتكرة والجادة كمؤلفات ابن تيمية وابن القيم
والشاطبي.
فقد نهج هؤلاء الأعلام نهجًا متميِّزًا في عِلم الأصول،
يقوم على العناية بأسرار التشريع ومقاصده العامَّة ومصالحه الكُليَّة.
ومن المراجع التي أجادت في بيان الأصول وآراء الأصوليين،
كتاب البحر المحيط في أصول الفقه للإمام الزركشي (المتوفى: 794هـ)، إرشاد الفحول
في تحقيق الحق من علم الأصول، للقاضي الشوكاني (المتوفى: 1250هـ).
مرحلة النهضة الحديثة:
أدخل المتأخرون في علم أصول الفقه من الكلاميات والجدليات
ما جعله عسيرا على كثير من طلاب العلم ، وقد أدرك الفقهاء المعاصرون ذلك ، فحاولوا
تبسيط هذا العلم وتقديمه بعبارات واضحة وسهلة، تجمع بين التراث والمعاصرة وتراعي قضايا
العصر، ومشكلاته وروحه، مع الاستعانة بالأمثلة والشواهد من الواقع المعاش ، وفي
النقطة التالية إشارة لبعض هذه المؤلَّفات.
خامسًا: مؤلفات مُقْترحة :
هناك عدة مؤلفات مُقْترحة ، ينصح بمدارستها دراسة
منهجية– مؤلف واحد على الأقل في كل مستوى - ، يُدْرس على شيخ متقن ليتجنب مزالق
سوء الفهم وهفوات اللحن، والتحريف، والتصحيف، فإذا أتقنه انتقل إلى المستوى
الأعلى، وهكذا، منها:
للطلبة المبتدئين: الواضح في أصول الفقه ، لمحمـد سليمان
الأشقر، تيسيرُ علم أصول الفقه، لعبدالله بن يوسف الجديع، الوجيز في أصول الفقه لعبدالكريم
زيدان، الوجيز في أصول الفقه لوهبة الزحيلي.
وللطلبة المتوسطين: أصول الفقه لعبدالوهاب خلاف، وأصول
الفقه للشيخ أبو زهرة، أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، إرشاد الفحول للشوكاني.
وللمتقدمين:
البحر المحيط للزركشي، المستصفى في أصول الفقه للغزالي،
إحكام الأحكام للآمدي، الأحكام في أصول الأحكام للإمام أبو محمـد بن حزم،
الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ لعبد الكريم النملة.
هذا بالاضافة إلى موسوعتين لا غنى للمتفقه عنهما : إعلام
الموقعين لابن القيم، والموافقات للشاطبي.
وبالنسبة لكتاب التراث- كالمحلى والموافقات وغيرهما- فمن
المستحسن أن يقرأ عنها قبل القراءة فيها؛ حتى يقف على مناهج مؤلفيها ومصطلحاتهم.
والله تعالى أعلى وأعلم.
-----------------------------------
([1]) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 119(.
([2]) نفائس الأصول في شرح المحصول (1/ 100).
([3]) مجموع الفتاوى (19/ 203).
============
حديث "خَيْرُ أَجْنَادِ الأرْضِ"... رواية
ودراية
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
مصادر التشريع الإسلامي - بحمد الله - معروفة محفوظة،
والسُنَّة المُطَهَّرَة هي ثانية هذه المصادر، بَيْدَ أَنَّها تعرضت في القديم
لهجمات بعض المغرضين والجاهلين الذين اندفعوا وراء ميول نفسية وشبهات فكرية، واستجابوا
لهَوًى كامن في نفوسهم، فصدق فيهم قول القائل :
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى ...
فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَمَكَّنَا
إلا أنَّ الله عز وجل خَيَّبَ سعيهم، فَقَيَّضَ للسنة
جهابذة نُّقَّادا عملوا على تمييز صحيحها من سقيمها، و بذلوا في ذلك جهدا تتفاخر
به الأجيال، وسلكوا طُرُقًا هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى ليستطيع
الباحث المنصف أَنْ يجزم بأنهم أول من وضعوا قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات
بين أمم الأرض كلها، يقول الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في حقهم:
" وليس لأهل الكتاب من الحُفَّاظ المتقنين الذين
ينفون عن شريعتهم تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة
والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النُّقَّادِ ،
والحُفَّاظ الْجِيَادِ ، الذين دَوَّنوا الحديث وحَرَّرُوه ، وبيَّنوا صحيحه من
حسنه، من ضعيفه، مِنْ مُنْكَرِهِ وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعَرَفُوا الوضَّاعِين
والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي
والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر، أَنْ يُنْسَب إِلَيْهِ كذبٌ أَوْ
يُحَدَّثَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ ، فَرَضِيَ اللَّهُ عنهم وأرضاهم، وجعل جنات
الفردوس مأواهم"([1]).
- ومن الخطوات التي ساروها في سبيل النقد حتى أنقذوا
السُنَّةَ مِمَّا لحق بها : الاهتمام بإسناد الحديث، وبيان حال رواته، ووضع قواعد
عامة لتقسيم الحديث وتمييزه، وتأليف الكتب التي تُسَهّل التعرف على درجة الحديث،
وقد انتشرت هذه الكتب بين القاصي والداني بحيث أصبح ﻣﻦ السهل ﻋﻠﻰ كل طالب علم
وواعظ وخطيب وباحث أَنْ يرجع اليها إذا أراد أَنْ ينسب حديثا إلى المعصوم صلى الله
عليه وسلم، و يُخْشَى على من أهمل ذلك أو قصر فيه أَنْ يكون له حظ وافر من الوعيد الثابت
في تحريم الكذب على الله ورسوله.
يقول شيخ الْإِسْلَامِ ابن تيمية (ت: 728هـ) «وكذلك
مِمَّا حَرَّمَهُ الله تعالى أن يقول الرجل على الله ما لا يَعْلَمُ ؛ مثل: أن
يَرْوِيَ عن الله ورسوله أحاديث يَجْزِمُ بها وهو لا يَعْلَمُ صِحَّتَهَا»([2]).
ويرى العَلَّامَةُ ابن القَيِّم (ت: 751هـ) أَنَّ هذا
الْمَسْلَكَ فيه من الخطورة مافيه ، فيقول:« وهكذا لا يَسُوغُ أَنْ يقول: قال رسول
الله، لما لا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ ولا ثِقَةَ رُوَاتِهِ ، بل إذا رأي أي حديث كان
في أي كتاب؛ يقول: « لقوله صلى الله عليه وسلم »، أو: «لنا قوله صلى الله عليه
وسلم»، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول بما لا يعلم الشاهد»([3]).
وكثيرا ما يَطْرُقُ أسماعنا استشهاد بعضهم بحديث :( إذا
فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جُنْدًا كَثِيفًا، فذلك الجند خَيْرُ أَجْنَادِ
الأرْضِ. فقال له أبو بكر: ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : لأنهم في رباط إلى يوم القيامة )
، لذا كان من الضروري أن نقف مع هذا الحديث -رواية ودراية- في النقاط التالية:
أَوَّلًا: لَمْ يَرِدْ في كُتُب السُّنَّة :
هذا النص جزء من خطبة طويلة يقال أن عمرو بن العاص- رضي
الله عنهما- خطبها في أهل مصر ، فكان مما قال لهم: حدثني عمر أمير المؤمنين أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثم ذكره.
وهذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب الحديث التسعة
المشهورة لدى علماء السنة النبوية الشريفة، والتي تعتبر أهم المراجع وأوفاها
وأشملها للحديث وهي: الصحيحان (البخاري ومسلم)
والسنن الأربعة ( سنن الترمذي والنسائي وأبي داوود وابن
ماجه) ومسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي.
و إِنَّمَا جاء في بعض كتب التاريخ ، ومنها: كتاب فتوح
مصر لابن عبد الحكم (المتوفى: 257هـ) ، و تاريخ دمشق لابن عساكر (المتوفى: 571هـ)،
وقد ورد بِإِسْنَادَيْنِ تالفين، يَعْلم من له أدنى صلة بعلم الجرح والتعديل أَنَّ
رجالهما مابين ضعيف ومجهول، و مِنْ ثَمَّ لم يصححه مُعْتَبَرٌ من أهل الصَّنْعَةِ،
بل حَكَمَ عليه بعضهم بالضعف الشديد، ومنهم من حَكَمَ عليه بالوضع.
ثَانِيًا : هل عدم صحته تمنع الاحتجاج به؟
على فرض أَنَّ هذا الأثر ضعيف فقط وليس بموضوع، فهل يصح
الاحتجاج به- على رأي من يرى أنَّ الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الاعمال-؟
والجواب : لا ، لأنَّه فاقد للشروط التي اشترطها من يأخذ
بهذا الرأي من العلماء ، وهذه الشروط هي:
- أن يكون الضعف غير شديد.
- أن يكون مندرجاً تحت أصل عام.
- أَلَّا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي
ما لم يقله.
- و أضاف بعضهم: أَلَّا يتضمن تقديراً وتحديداً؛ مثل
صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة؛ فإذا تضمن شيئا من ذلك لم يجز
العمل بها.
وبتدقيق النظر في هذه الشروط نجد أَنَّهَا كلها- أو
معظمها- لا ينطبق على النَّصِّ المذكور، هذا إذا افترضنا أنه يندرج أصلًا تحت
" فضائل الاعمال"!
ثَالِثًا : حديث صحيح في فضائل مصر:
ثبت في فضائل مصر حديث رواه مسلم في صحيحه ، كتاب الفضائل
، بَابُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ مِصْرَ وفيه:
«إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا
بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا) ،
والقيراط معيار فِي الْوَزْن وَفِي المقياس اخْتلفت مقاديره باخْتلَاف الْأَزْمِنَة،
وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به ، والمقصود بقوله (فَإِنَّ لَهُمْ
ذِمَّةً) أي :حرمة وأمانا من جهة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ
أُمَّه مارية منهم ، ومن العلماء من قال بأنَّه أراد بالذمة :العهد الذي دخلوا به
في الإسلام زمن عمر فَإِنَّ مصر فتحت صُلْحًا ، وأَمَّا قوله (وَرَحِمًا) ، أي
قرابة لأنَّ هاجر أُمَّ إسماعيل منهم ، والحديث - كما ترى أخي الكريم- ليس فيه
إِشَارَةٌ من قريب أو بعيد لجيش مصر او جندها.
رَابِعًا: أفضلية مقيدة :
الحديث -كما أَشَرْتُ قبل قليل - لم يصححه أحد ممن
يُعْتَدُّ بقوله من علماء الحديث ، لكن لو سلمنا جدلا بإِنَّه صالح للاحتجاج به ،
تكون الأفضلية ثابتة حال قيام هؤلاء الجند بأمر الله على نور من الله رَجَاءً
لثوابه، لا لأنهم فقط جنود المكان الفلاني، بمعنى أنَّ الأفضلية هنا مقيدة و ليست
مطلقة، إِذْ لَيْسَ بين الله عز وجل وبين أحد من خلقه نَسَب، فمن بذل جهده لتكون
كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر، و ائْتَمَنَهُ المسلمون على أنفسهم وأموالهم وأولادهم
وأعراضهم - لا لغير ذلك من أغراض النفس وحظوظها- فحقيق به أن يكون من خير أجناد
الأرض أَيًّا كان موطنه أو نَسَبُهُ، وقد وردت نصوص كثيرة تفيد هذا المعنى وتحذر
كل عاقل مِنَ الاتكال على شرف نَسَبه وفضيلة آبائه، أكتفي منها بما يأتي:
- قوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
«سورة البقرة: 134، 141».
والمعنى: إِنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ مِنْ آبَائِكُمْ
مِنَ الأنبياء والصالحين لا يَنْفَعُكُمُ انْتِسَابُكُمْ إِلَيْهِمْ إِذَا لَمْ
تَفْعَلُوا خيرًا يعود نفعهُ عليكم، فَإِنَّ لهم أَعْمَالَهُمُ التي عَمِلُوهَا
ولكم أعمالكم، فاشتغالكم بهم وادعاؤكم أنكم على ملتهم، والرضا بمجرد القول، أمر
فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم، أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها، هل تصلح للنجاة
أم لا؟
وهذه الآية -أخي القاريء - وردت مرتين متقاربتين في سورة
البقرة: برقم (134) و برقم ( 141)، وفي تعليل هذا التكرار يقول الإِمَامُ القرطبي
(ت: 671هـ) : كَرَّرَهَا لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ
والتَّخْوِيفِ، أَيْ إِذا كان أُولَئِكَ الأنبياء على إِمَامَتِهِمْ وفَضْلِهِمْ
يُجَازَوْنَ بِكَسْبِهِمْ فَأَنْتُمْ أَحْرَى، فوجب التأكيد، فلذلك كَرَّرَهَا([4]).
ويرى الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت: 1376هـ) أنَّها كُرِّرَتْ لقطع
التعلق بالمخلوقين، وأنَّ الْمُعَوَّل عليه ما اتصف به الإنسان، لا عمل أسلافه
وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال، لا بالانتساب المجرد للرجال([5]).
- ومن صحيح السنة أذكر قوله صلى الله عليه وسلم: « يَا
مَعْشَرَ قرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ([6])، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئًا ( وقال مثل ذلك لنسوته، وقرابته،. ثم قال :) يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي،
لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا»([7]).
و قوله: «مَنْ أَبْطَأَ به عَملُهُ لم يُسْرِعْ بِهِ
نَسبُهُ »([8]).
فهذه النصوص ومافي معناها تجتمع على إفادة معنى واحد
وهو: أنَّ مَنْ أَخَّرَه عمله السَّيِّئُ ، أو تفريطه في العمل الصالح، لم ينفعه
في الآخرة شرف النَّسَبِ.
وختاما : في الصحيح غُنْيَةٌ وكفاية عَنْ كُلِّ ما عَدَاهُ
، فعلى المسلم ﺃﻥ
ﻳﺘﺜﺒّﺖ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻨﻘﻠﻪ عن الشرع ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻨﺴﺐ ﺇليه
ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻣﻨﻪ.
نسأل الله أن يرزقنا الْإِخْلَاص في القول والعمل و
الصِّدْقَ في السِّرِّ و الْعَلَنِ ، آمين
-------------------------
([1]) تفسير ابن كثير(5/ 169) عنده تفسيره للآية (50) من
سورة الكهف.
([2]) «مجموع الفتاوى» (3/425).
([3]) «أحكام أهل الذمة» (1/115).
([4]) «تفسير القرطبي» (2/147).
([5]) «تفسير السعدي» ص (70).
([6]) أي باعتبار تخليصها من العذاب ليكون ذلك كالشراء،
كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة.
([7]) رواه البخاري (4771) ، ومسلم (351).
([8]) رواه مسلم رقم (2699).
===========
آيات وأحاديث الأحكام ، عددها والمؤلفات فيها
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولاً: المقصود بنصوص الأحكام:
قسَّم العلماء محتوى الدين الإسلامي إلى ثلاثة أقسام،
تمثل كل منها جانبًا من جوانب الشمول والتكامل في هذا الدين العظيم:
أ - العقيدة الإسلامية: وأصل التسمية مأخوذ من عَقَد
الحبل إذا ربطه، ثم استعمل في عقيدة القلب وتصميمه الجازم، وموضوعها أركان الإيمان
الستة، وما ألحق بها من مسائل، ولهذا العلم الشريف أسماء أخرى، منها: الإيمان
والتوحيد وأصول الدين.
ب - الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام الوجدانية التي تتعلق
بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل، وما يجب أن يتخلى عنه من الرذائل.
وتدرس هذه الأحكام في علم الأخلاق.
جـ - الأحكام العملية (الفقهية): وتتعلق بما يصدر عن المكلف من
أقوال وأفعال، وتشمل أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه، كالفروض
الخمسة، وأحكام المعاملات التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا
أم جماعات. وأحكام الأسرة والمعاملات المالية والجرائم والعقوبات... إلخ.
ويلاحظ أن هذا التقسيم تقسيم اصطلاحي تعارف عليه
العلماء، للتوضيح، والتبيين. ولا يعني أن كل قسم مبتوت الصلة عن الآخر بل هي
مترابطة ومتداخلة؛ فالمسائل الاعتقادية لابد أن ينبني عليها عمل وسلوك، وهذا
السلوك هو الأخلاق بمعناها الشامل، كما أن المسائل العملية الفقهية، لابد أن تصدر
عن اعتقاد، ونيّة.
وعلى هذا يكون المراد بنصوص الأحكام عند الإطلاق: كل
نصٍّ يمكن أن يستفاد منه حُكْم فقهي، بطريقٍ مباشرةٍ أو بطريق الاستنباط.
ثانيًا: عدد آيات الأحكام:
القرآن الكريم شامل لأحكام الدين؛ إما تفصيلاً وإما تأصيلاً.
ويوضح ذلك قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [النحل: 89]، وقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
"أَيْ لِيُبَيِّنَ لكم أَمْرَ دِينِكُمْ ومَصَالِحَ أَمْرِكُمْ، وما يَحِلُّ
لكم وما يَحْرُمُ عليكم. وذلك يَدُلُّ على امْتِنَاعِ خُلُوِّ وَاقِعَةٍ عَنْ
حُكْمِ اللَّهِ تعالى"([1]).
وقد اختلف أهل العلم في عدد آيات الأحكام على قولين:
القول الأول: "أنَّها محصورة بعدد معيَّن، ثم اختلف
هؤلاء في عددها، فقيل: هي خمسمائة آية. وقيل: بل مائتا آية فقط. وقيل: هي مائة وخمسون
آية فقط"([2]).
وقيل: إن سبب هذا الحصر هو التيسير على طالب العلم، والمجتهد؛
حتى لا يكون طريق الطلب والاجتهاد عسيرًا، فينقطع سالكه عن الاستمرار أو تحصيل
المراد.
القول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين؛ أنَّ آيات
الأحكام غير محصورة في عددٍ، فكلُّ آية في القرآن قد يُستنبَط منها حُكْمٌ معينٌ،
وَمَرَدُّ ذلك إلى ما يَفتحه الله على العَالِمِ مِنْ معاني القرآن ودلالاته، وما
يَتميَّز به مِنْ صفاء الروح، وقُوَّة الاستنباط، وجَوْدة الذِّهْن وسَيَلانه،
فأحكام الشرع كما تُستنبط مِن الأوامر والنواهي؛ كذلك تُستنبط مِن القصص والمواعظ
والأمثال ونحوها، على نحو ما نجده عند الإمام القرطبي في تفسيره؛ فلا يكاد يَمرُّ
على آية مِن آي القرآن إلا ويتعرَّض لِمَا فيها مِن أحكام.
ويبدو لي أنَّ هذا القول هو الرَّاجح وذلك لأسباب، منها:
السبب الأول: أنَّ دلالة النَّصوص على الأحكام على قسمين:
أ- ما هو صريح في الأحكام؛ كتلك الواردة في سورة البقرة
والنساء والمائدة والأنعام وغير ذلك.
ب- ما يؤخذ بطريق الاستنباط، وهذا على قسمين:
1- ما يُستنبط مِن الآية نفسها من غير أن يضم إليها آية
أخرى؛ كاستنباط الشافعي صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ}
[القصص: 9]، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
[المسد: 4] ونحوه.
2- ما يُستنبط من الآية بعد أن يضم إليها آية أخرى ،
كاستنباط عليّ وابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله
تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله:
{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
ومثله استنباط الأصوليين أنَّ تارك الأمر يستحق العقاب
من قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن:
23]([3]).
السبب الثاني: أنَّ دعوى الحصر تُفضي إلى مآلات غير
محمودة، منها:
أ- تعطيل الغالب الأعم من النَّصوص، وجَعْلُها غير
ملزمة، وإنما هي فقط للتلاوة والتبرُّك.
ب- الفصل بين عمل القلب وعمل الجوارح؛ لاستبعادها
النَّصوص المتعلقة بالاعتقاد والأخلاق والآداب، مع أنَّها مِن صميم الحكم الشرعي
ومرتكزاته.
ثالثًا: المؤلفات في آيات الأحكام:
تناول عدد من العلماء آيات الأحكام بالشرح والتحليل، ومن
أشهر مؤلفاتهم: أحكام القرآن للجصاص الحنفي (ت: 370هـ)، أحكام القرآن للقاضي
أبي بكر بن العربي المالكي (ت: 543هـ)، تفسير القرطبي(ت: 671هـ)، المُسَمَّى
الجامع لأحكام القرآن، نيل المرام من تفسير آيات الأحكام لصِدِّيق حسن خان (ت: 1307هـ).
ومن المؤلفات المعاصرة التي تميزت بسهولة العرض وحسن
الترتيب مع الاهتمام بالدراسة الفقهية المقارنة: كتاب تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد
علي السايس (ت: 1396هـ)، تفسير آيات الأحكام للشيخ مناع بن خليل القطان (ت:
1420هـ)، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمـد علي الصابوني.
وهناك مؤلفات معاصرة اقتصر أصحابها على جمع آيات الأحكام
في القرآن، وترتيبها على حسب الموضوعات والأبواب الفقهية دون التعرض للشرح والتحليل،
ومِن الكتب التي عُنيت بهذا الجانب:
فتح العلام في ترتيب آيات الأحكام، لصباح عبدالكريم
العنزي، نيل المرام من أدلة الأحكام، لطارق الخويطر. بلوغ المرام من آيات الأحكام،
لعبدالرحمن بن علي الحطاب.
رابعًا: عدد أحاديث الأحكام:
لم تسلم أحاديث الأحكام هي الأخرى من الاختلاف من حيث
العدد: "فقد سُئِلَ الشافعي رحمه الله: كم أصول الأحكام؟ فقال: خمسمائة حديث.
قيل له: فكم أصول السُّنن؟ قال: خمسمائة"([4]).
أي إن أحاديث الأحكام بفرائضها وسننها التي هي حجة وأصل
لا تتجاوز بنظر الشافعي ألف حديث.
وإذا نظرنا إلى أشهر المؤلَّفات فيها نجد هذا الاختلاف
واضحًا للعيان:
فبينما يقتصر الحافظ عبدالغني المقدسي (ت: 600هـ) في
كتابه عُمْدَةُ الأحكام من كلامِ خيرِ الأَنامِ على ما يقارب الـ(430) حديثًا،
نجدها عند الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ) في كتابه المشهور بُلوغِ المَرَامِ
من أدلة الأحكام (1570) حديثًا ([5]).
ومما تجدر الإشارة إليه في الفروق بين الكتابين أن
أحاديث عُمْدَة الأحكام كلها مأخوذة من الصحيحين البخاري ومسلم، وقليل منها ما هو
في أحدهما دون الآخر.
أما أحاديث بلوغ المَرَام فمأخوذة من الصحيحين وغيرهما،
فليست كلها صحيحة، بل فيها بعض الضعيف، وهو كتاب مشهور ومتداول، وعناية أهل العلم
به فائقة.
خامسًا: المؤلفات في أحاديث الأحكام:
للكتابين المشار إليهما شروح كثيرة، فمن شروح العُمْدَة:
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (ت: 702هـ)، ومن شروح البلوغ:
سُبُل السلام، لمحمـد بن إسماعيل الصنعاني (ت: 1182هـ)، ومن الشروح المعاصرة على الكتابين
والمشهورة والمتداولة بكثرة، والنافعة جدًا لا سيما للمبتدئين والمتوسطين: تيسير
العلام شرح عُمْدَة الأحكام (في مجلد واحد كبير، أو مجلدين)، وتوضيح الأحكام من
بلوغ المرام (سبعة مجلدات) كلاهما للشيخ عبدالله البَسَّام ( ت: 1423هـ). وقد طبعا
عدة طبعات، ويتميز الشارح بالاهتمام بذكر الأمثلة العصرية وما يحتاجه الناس،
والبعد عن المسائل المهجورة والتي لم يعد لها وجود في الواقع المعاصر.
"نسأل الله أن يجعَلَ صُدُورَنَا أَوْعِيَةَ
كِتَابِهِ، وآذَانَنَا مَوَارِدَ سُنَنِ نَبِيِّهِ، وهِمَمَنَا مَصْرُوفَةً إِلى
تَعَلُّمِهِمَا والبَحْثِ عَنْ معانيهما وغَرَائِبِهِمَا، طالِبِينَ بذلك رضا
رَبِّ العالمين، ومُتَدَرِّجِينَ به إِلى عِلْمِ المِلَّةِ والدِّينِ"([6]).
اللهم آمين.
---------------------------------------
([1]) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 147).
([2]) ينظر: المستصفى (4/6)، المحصول، للرازي (6/ 23).
([3]) ينظر: البرهان في علوم القرآن، للزَّرْكَشي (2/ 3).
([4]) مناقب الشافعي، للبيهقي (1/ 519).
([5]) قد يزيد العدد أو يقل على حسب الطبعة.
([6]) اقتباس من مقدمة تفسير القرطبي (1/ 2).
======
حديث (هل تُنصَرون وتُرزَقون إِلا بضعفائكم)... رواية
ودراية
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا : روايات الحديث :
الرواية الأولى : أخرجها الإمام البخاري في كِتَاب
الجِهَادِ وَالسِّيَرِ من صحيحه - بَاب: مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ
وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْب - عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ بن
أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا
بِضُعَفَائِكُمْ»([1]).
أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حضَّ سعد على التواضع ونفي
الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: ما المنزلة التي أراد
سعد أَنْ يتميز بها عن إِخوانه؟
نجد الجواب شافياً وتتضح لنا الصورة كاملة في الرواية
التالية.
الرواية الثانية : وهي عند الإمام أحمد: قال سعد يا رسول
الله: أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه، أيكون نصيبه كنصيب غيره؟
فقال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ، وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ
إِلا بِضُعَفَائِكُمْ([2]).
وعلى هذا فالمراد بالفضل - كما يقول الحافظ ابن حجر - إرادة
الزيادة من الغنيمة، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أَنَّ سهام المقاتلة سواء، فإنْ
كان القوي يترجح بفضل شجاعته، فإِنَّ الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه([3]).
والاستفهام في الحديث للتقرير، أي ليس النصر وإدرار
الرزق إلا ببركتهم، فأبرزه في صورة الاستفهام ليدل على مزيد التقرير والتوبيخ.
الرواية الثالثة : رواية الترمذي وأبي داود عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»([4]).
ومعنى «أَبْغُونِي» أي اطْلُبُوا رِضَايَ فِي ضُعَفَائِكُمْ،
وتقرّبوا إِلَيَّ بالتقرب إليهم وتفقد حالهم وحفظ حقوقهم والإحسان إليهم قولاً
وفعلاً واستنصاراً بهم، فهم الأحَقُّ بمجالستي وبالقرب مني.
الرواية الرابعة: وهي عند النسائي بزيادة تبين معنى الروايات
السابقة، ولفظه: « إِنما يَنْصُر الله هذه الأمةَ بضعيفها: بدعوتِهم، وصلاتِهم، وإِخلاصهم»([5]).
ثانيًا: فوائد الحديث:
الفائدة الأولى : للضعفاء عِنْد الله من الشّرف ما
لَيْسَ لغيرهم:
معنى إِنَّما تنصرون وترزقون بضعفائكم: أي إِنَّما
تُمَكَّنون من الانتفاع بما أخرجنا لكم، وتعانون على عدوكم، ويُدْفع عنكم البلاء
والأذى، بسبب وجود ضعفائكم بين أظهركم، أو بسبب رعايتكم لهم أو ببركة دعائهم، فما السِّرُّ
في ذلك؟
السِّرُّ في ذلك أن الضعفاء أشد إخلاصاً في الدعاء وأكثر
خضوعاً في العبادة لجلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا ؛ فالضعيف إذا رأى عجزه
وعدم قوته تبرّأ عن الحول والقوة بإخلاص، ورقّ قلبه واستكان لربه وتضرع إليه،
فيستجيب الله دعاءه ويحقق له رجاءه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله،
بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته، فيكله الله إلى نفسه على قدر
عجبه، ويكون ذلك سَبَباً للخذلان.
ومن هنا استدل بعض العلماء على استحباب إخراج الشيوخ
والصبيان في صلاة الاستسقاء.
والمقصود بالضعفاء: مَنْ يكون ضعفه في بدنه (المرض
الجسماني)، أو في نفسه (المرض الذهني والنفسي)، أو في حاله (الفقر وقلة ذات اليد)؛
والنصوص تشمل الأنواع الثلاثة.
فإِنْ قيل بأَنَّ المقصود بالضعفاء هم من يستضعفهم الناس
لفقرهم ورثاثتهم، لأنهم هم الذين يستطيعون الدعاء والصلاة، كما في رواية النسائي
التي أشرت إليها قبل قليل.
فالجواب أَنَّ الدعاء والصلاة والإخلاص قد تتحقق في
النوعين الآخرين ليس من المريض نفسه، وإِنَّمَا مِمَّنْ يقوم على رعايته، فكم من
مريض يتضرع أهله إلى الله، وتنكسر له قلوبهم أكثر من صاحب المرض ذاته.
الفائدة الثانية : لايتحقق النصر إلا باستجماع أسبابه
المادية والمعنوية:
الأسباب التي يحصل بها النصر نوعان:
النوع الأول : أسباب مادية ملموسة، كالقوة العقلية
والبدنية وأنواع الأسلحة والآلات ونحو ذلك مما يعين على قتال الأعداء.
ويلاحظ أَنَّ هذا النوع هو الذي يغلب على قلوب أكثر
الخلق، ويعلّقون به وحده حصول النصر والرزق، وفي هذا من قِصَرَ النظر وضعف الإيمان
وقلّة الثقة بوعد الله وكفايته ما الله به عليم. فالنصر ليس بكثرة عَدَدٍ ولا
عُدَدٍ، وإِنَّما هو من عند الله.
ولهذا أدب الله عز وجل صحابة نَبِيِّهِ - وهم خيار الخلق
- حين أُعْجِبَ بعضهم بكثرتهم في غزوة حنين حتى قال قائلهم: «لَنْ نُغْلَبَ اليوم عَنْ قِلَّةٍ»،
فَوُكِلُوا إِلَى هذه الكلمة، فَكَانت الْهَزِيمَة فِي الِابْتِدَاءِ، وفرّ معظم
المسلمين من الميدان، واشتدت عليهم الأزمة حتى ضاقت عليهم الأرض - على رحبها
وسعتها -، ثم ولوا منهزمين، إِلَّا رسول الله؛ فإِنَّه ثبت ولم يَفِرّ، وصمد ولم
يتخاذل، بل كان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلاً: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي
وَأَنْتَ نَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أقاتل».. فلما زال
الْعُجْبُ عن الصحابة وعرفوا ضعفهم، أنزل الله السكينة عليهم، وأنزل جنوداً من
عنده يثبتونهم ويبشرونهم حتى تحقق النصر.
وأمّا النوع الثاني: فهو الأسباب المعنويّة، وهي قوّة
التوكل على الله، وكمال الثقة به، وقوّة التوجّه إليه والطلب منه. وهذه الأمور
تقوى جدّاً من الضعفاء العاجزين الذين ألجأتهم الضرورة إلى أن يعلموا حقّ العلم
أنّ كفايتهم ورزقهم ونصرهم من عند الله، وأنّهم في غاية العجز، فتنكسر بذلك
قلوبهم، وتتوجّه إلى الله ثقة به وطمعاً في فضله وبرّه ورجاء لما في يديه
الكريمتين.
فيُنْزِل الله لهم من نصره ورزقه ما لا يدركه القادرون،
بل ييسّر للقادرين بسببهم من أسباب النصر والرزق ما لم يخطر لهم ببال، ولا دار لهم
يوماً في خيال، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } [المدثر: 31].
الفائدة الثالثة : قلب العبد وجوارحه في حالة استنفار
تام في ذات الله:
قد يظن القارئ الكريم أَنَّ هناك تعارضاً بين النصوص
السابقة والنصوص التي تمدح المؤمن القوي وتأمره بالأخذ بالقوة والاستعداد للأعداء.
وعند التأمّل نجد أَنَّه لا تعارض، إذ المراد أَنَّه متى تمكّن المسلم من الأخذ
بأسباب القوة المادية وتيسَّرت له، فعليه أنْ يسارع ولا يفرط ولا يقصر.
وقد ورد الجمع بين الأمرين في قول الله عز وجل لنبيه:
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩].
والمعنى: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله
بأنواع العبادات البدنية والقلبية، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك، وقد امتثل أمرَ
ربه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل دائباً في العبادة بجميع أنواعها
حتى أتاه اليقين.
كما جمع النبي الكريم بين الأمرين في قوله: « احْرِصْ
على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجَز.....» ([6]).
أَمَّا إِذا لم يتمكَّن المسلم من الجمع بين الأمرين -
كأن حبسه المرض في نفسه أو غيره -، فعليه رقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال الجبار.
والخلاصة أَنَّ قلب العبد وجوارحه في حالة استنفار تام
في ذات الله؛ فالجوارح تستفرغ الوسع في الأسباب حتى يحس صاحبها من نفسه أنَّه لا
مزيد، والقلب يستجلب رضا الله وعونه وثقته ورجاءه والطمع فيه، فإِنْ حدث وقعدت به الأسباب
فليتحرك بقلبه إلى الله، فإِنَّ الله منجز له ما وعد، وليس هذا فحسب، بل ربما
تَفَجَّرَتْ ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وأخيرًا
:
فلنحرص على رعاية الضعفاء والاهتمام بهم وتأدية حقوقهم،
وألَّا نستصغر أو نستقل دعاءهم، فدعاؤهم لا يقل تأثيراً في الأعداء عن تأثير
المدافع والدبابات.
اللهم أَصْلِحْ لنا شَأْنَنَا كُلَّهُ، ولا تَكِلْنَا
إِلى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا إِلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ.
--------------------------------
([1]) أخرجه البخاري (2896).
([2]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1493). وقال
المحققون : حسن لغيره. وهو في مصنف عبد الرزاق برقم (9691).
([3]) فتح الباري ( 6/89).
([4]) أخرجه الإمام أحمد برقم (21731). وقال محققوا
المسند : صحيح. وأخرجه أبو داود (2594) والترمذي (1702) ، وابن حبان (4767).
([5]) أخرجه النسائي (3178) في الجهاد، باب الاستنصار
بالضعيف.
([6]) أخرجه مسلم رقم (2664) في القدر، باب في الأمر
بالقوة وترك العجز.
=== ====
تاريخ الفقه الاسلامي: أهميته وأهم المؤلفات فيه /دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولاً: أهمية علم تاريخ الفقه:
للتاريخ بشكل عام أهمية كبيرة في حياة الأفراد والأمم،
لخصها ابن حميد النجدي (ت: 1295 هـ) في قوله: التاريخ فنّ طريف، يشتاقه كلّ ذي طبع
لطيف، وقد قال الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه: «من حفظ التّاريخ زاد عقله»، وفيه فوائد
عظيمة ومنافع جسيمة، أجلّها الاعتبار بمن مضى، والاقتداء بمن سار على منهاج
الرّضى، وتنشيط الهمّة في طلب العلم عند الاطّلاع على كيفيّة أحوال العلماء،
واجتهادهم، وصبرهم، وقناعتهم، إلى غير ذلك من الفوائد، الّتي هي بالخير إن شاء
الله عوائد([1]).
وعلم تاريخ الفقه الإسلامي من صميم الدراسات والتخصصات
الفقهية، لذا فمن الضروري والمتعيِّن على طالب العلم أن يكون على دراية بهذا
العلم، وأن يتضلع منه، فهو علمٌ جليل، عظيم النَّفع، وهو جزء لا يتجزّأ من علم
الفقه ذاته، وله أهميته، فمن فوائده للمتفقه ما يلي:
- الصبر على التفقه وعدم الملل أوالانقطاع، ومن دقيق
الفوائد المستنبطة من قصة نبي الله موسى مع الخضر : أن السبب الكبير لحصول الصبر: إحاطة الإنسان
علمًا وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه. وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري
غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر ، لقوله: {وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}،
فجعل الموجب لعدم صبره : عدم إحاطته خبرا بالأمر([2]). أو كما يقول الفخر الرازي
(ت: 606هـ) : استبعد الخضر حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته([3]).
- إثراء الملَكة وتوسيع المدارك ، فمما لا شك فيه أن المطلع
على تاريخ علم من العلوم يزداد به بصيرة، ويتسع أُفُقُه، ويعلم ما طرأ عليه في
مختلف العصور، وقد مَرَّ قول الإمام الشافعي (ت: 204هـ) : من حفظ التاريخ زاد عقله.
- الثقة والاطمئنان لما توصل إليه من أحكام ، وفي ذلك
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ): "إن معرفة أصول الأشياء ومبادئها
ومعرفة الدين وأصله وأصل ما توَلَّد فيه من أعظم العلوم نفعًا، إذ المرء ما لم
يُحِطْ علمًا بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حَسَكَة"([4]).
والحَسَك: الشوك، وحَسَكُ الصَّدْر: الحِقْد والعداوة، والمقصود هنا : القلق
والتردد.
- معرفة أقدار الفقهاء ومراتبهم، وفي ذلك يقول الفخر
الرازي (ت: 606هـ) : "فكل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر ؛ كان علمه بما فيها
من البهجة والسعادة أكثر ، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل
وأشد"([5]).
ثانيًا : موضوع علم تاريخ الفقه:
يعنى هذا العلم بمصادر التشريع وبدء تدوينها وتاريخ
تشريع بعض الأحكام، وأدوار التشريع ومراحله، وأصول مدارس الصَّحابة في الفقه
والفتيا ، وأهم القضايا التي اختلفوا فيها، وما نشأ بعد ذلك من مذاهب متبوعة
ومندثرة، والتعريف بأئمة الفقه ومناهجهم في الاجتهاد والاستنباط والترجيح؛ وأسباب اتِّفاقهم
واختلافهم، وطريقة تعاملهم مع المستجدات والقدرة على فهم طبيعة هذه الاجتهادات ضمن
ظروفها وبيئتها، وغير ذلك.
ثالثًا : المؤلفات فيه :
مفردات هذا العلم ومباحثه مبثوثة في علوم شتى كعلوم
القرآن والحديث وأصول الفقه وكتب الفتاوى، ولـم يظهر التأليف فيه- كعلم ومادة
مستقلة- إلا في أواسط القرن الرابع عشر الهجري، وبالأخص بعد نشأة الكليات الشرعية،
حيث وُضِعَت مادة (تاريخ الفقه) لتكون مدخلًا ومقدمة لدراسة الفقه، من هذه المؤلفات:
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، للشيخ محمـد بن الحسن الحجوي ، تاريخ
التشريع الإسلامي، للخضري، وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، لعبدالوهاب خلاف،
المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، للدكتور محمـد يوسف موسى، تاريخ المذاهب الإسلامية،
للشيخ محمـد أبو زهرة، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للدكتور عبدالكريم زيدان،
تاريخ التشريع الإسلامي، للشيخ مناع القطان، المدخل لدراسة الشريعة والفقه
الإسلامي، للدكتور عمر سليمان الأشقر، ويتميز الكتابان الأخيران، بسهولة العبارة
وحسن الترتيب.
--------------------------------
([1]) السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (1/ 4(.
([2]) تفسير السعدي (ص: 484(.
([3]) تفسير الرازي (21/ 485(.
([4]) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/368).
([5]) تفسير الرازي (21/ 484(.