ج1.كتاب : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار أبي إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد المعروف بالأمير الصنعاني
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
المؤلف.حمدا لك يا من صح سند كل كمال إليه فلا يحوم حوله قدح ولا إعلال
وشكرا لك على أياديك الحسان المنزهة عن الضعف والإعضال والصلاة والسلام على
رسولك المرسل الموصول بشرائف الخلال وعلى آله الذين أحاديث شرفهم مرفوعة
غير موضوعة وعلوم حديثهم لمن أرادها غير مقطوعة ولا ممنوعة الموقوف على
حبهم الفوز في المعاد الموضوع من ناوأهم عن الاعتماد وعلى أصحابه الذين
عليهم يدور فلك الإسناد.
وبعد فهذا شرح كتبته على "تنقيح الأنظار" تأليف
الإمام الحافظ العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير أسكنه الله جنات
تجري من تحتها الأنهار! فإنه جمع فيه نفائس تحقيقات أئمة الآثار وأضاف إليه
من أنظاره ما هو نور للبصائر ولما أخذ علينا فيه بعض من لا يقنعه من
التحقيق إلا أقصاه ولا يشفيه من الأبحاث إلا ما بلغ غايته ومنتهاه أمليت
عليه من المعاني عند حل المباني ما يجب أن يدخره الأول للثاني فطلب كتب
لفظه وإبرازه في الوجود الخطي إبقاء لحفظه فكتبت عليه ما هو قرة لعين طالب
التوفيق ولا يستغني عنه إلا من يستغني التصور عن التصديق وسميته "توضيح
الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار" والله أسأله أن ينفع به كاتبه وقارئه
والناظر بعين الإنصاف في ألفاظه ومعانيه.
واعلم أن المصنف رحمه الله
تعالى لم يجعل لمسائل كتابه عنوانا بمسألة ولا فصل ولا نوع ولا باب وفي
عنوان المسائل بذلك مالا يخفى على ذوي الألباب، وقد عنون ابن الصلاح1 كتابه
بالأنواع والمصنف رحمه الله جعل اسم كل نوع ترجمته كقوله
ـــــــــــــــــــ
1
ابن الصلاح هو: الإمام الحافظ، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن
صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوى الشافعي. أحد فضلاء عصره
في "التفسير" و "الحديث" و "الفقه". مات سنة "643" له ترجمة في: البداية
والنهاية "13/168"، والعبر "5/177"،
"أصح الأسانيد" وقوله "المراد
بالصحيح" إلا أنه عنوان خفي فرأيت أن اجعل عنوان كل بحث لفظ مسألة إذ قد لا
يتنبه الناظر لجعله أسماء الأنواع عنوانا وقد قال جار الله1 إنه بوب
المصنفون في كل من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم ومن فوائده أن الجنس
إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون
بيانا2 واحدا ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في
آخر كان أنشط له وأهز لعطفه وأبعث على الدروس والتحصيل منه لو استمر على
الكتاب بطوله إلى آخر كلامه.
وقد أضبط من أجوز خفاء ضبط لفظه من الرجال
أو أذكر من حاله بعض ماله من الخلال ولا أتعرض لمن هو مشهود الصفات يعرفه
طلبه الفن والإثبات كأهل الأمهات ومن شاركهم في الشهرة من الرواة أو أئمة
المصنفات.
ـــــــــــــــــــ
= ووفيات الأعيان "1/312".
1 جار
الله هو: محمود بن عمر بن محمد بن أحمد العلامة أبو القاسم الزمخشري
الخوارزمي. كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة القريحة،
علامة في الأدب والنحو. مات سنة "538". له ترجمة في: البداية والنهاية
"12/219". وتذكرة الحفاظ "4/1238"، ووفيات الأعيان "4/254".
2 ببانا واحدا: أي طريقة واحدة ومنهج واحد. قاله شيخ شيخنا في "التعليقة السابقة".
بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد
لله الذي رفع أعلام" جمع علم وهو كما في القاموس العلم محركة الجبل الطويل
والراية وله معان آخر وأنسبها هنا الراية إذ رفع العلم هنا كتابه عن علو
الشأن بالنصر ونحوه "علوم الحديث" 1 شبه علوم الحديث بالجيش ثم أثبت لها
لازمه وهو العلم فهو من باب أظفار المنية2 "وفضل العلم النبوي" هو كل ما
صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ويدخل القرآن في العلم
النبوي إلا أن يحمل العلم على أن اللام فيه لعلم الحديث بقرينة سبق ذكره
وأن كان قوله "بالإجماع" يناسب أن يراد به ما يشمل القرآن والسنة لأنه من
المتفق "على شرفه في قديم الزمان والحديث" ولا ضير في إرادة الأعم وإن كان
التدوين للأخص إذا الحديث شعبة من القرآن في معانيه وبيان ما فيه.
وقوله
"اشترك في الحاجة إليه والحث عليه بالقرابة" وهم آله صلى الله عليه وسلم
"والصحابة" يأتي تفسير الصحابي "والسلف" سلف الأمة فيشمل الصحابة ومن بعدهم
إذ السلف كل متقدم كما يفيده القاموس "والخلف" هو من ذهب من الحي ومن حضر
منه كما فيه أيضا والمراد هنا الآخر "فهو علم قديم الفضل" لحاجة السلف إليه
وحثهم عليه "شريف الأصل" لأنه نبع من بحر النبوة، وتفرع من دوحة الرسالة
فلا غرو ولأنه.
"دل على شرفه العقل" لأنه علم دل على كل ما يقرب إلى
الله ويبعد عما سواه وأرشد إلى مصالح الدين والدنيا ودعا العباد إلى نيل
الذروة العليا وما كان بهذه
ـــــــــــــــــــ
1 هذا العلم يقال
له: علوم الحديث، أو مصطلح الحديث، أو علم أصول الحديث، أو علم الحديث
دراية: "أصول الحديث" ص "11".و علم الحديث دراية. "أصول الحديث" ص "11".
2
من باب أظفار المنية: قال شيخ شيخنا: يريد أنه استعار بالكناية؛ لأنه شبه
علوم الحديث بالجيش، أو طوى أركانه التشبيه كلها ما عدا المشبه، ثم أثبت
للمشبه ما هو من لوازم المشبه به وهو الأعلام، وإضافة الأعلام إلى "علوم
الحديث" تخييل كإضافة أظفار إلى المنية في قولنا: أظفار المنية نشبت
بفلان". اهـ.
الصفات دل العقل على أن له الشرف الذي تقصر عن وصفه
العبارات "و" كذلك دل على شرفه "النقل" عنه صلى الله عليه وسلم فإنه ورد
مالا يدخل تحت الحصر من بيان شرف علم الحديث.
أخرج البيهقي من حديث ابن
عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تمسك بسنتي عنه فساد
أمتي فله أجر مائة شهيد" وأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال الحافظ المنذري بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "أجر شهيد" 1.
وكفى
فيه بحديث معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه
جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال
والحرام ومنار سبيل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث
في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند
الأخلاء يرفع الله أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي
بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم
فيستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن
العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم
منازل الأخبار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتنكر فيه يعدل الصيام،
ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام
العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء".
رواه ابن عبد البر في كتاب العلم2 قال:وهو حديث حسن جدا وليس له إسناد قوي. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر3: راد بالحسن حسن اللفظ قطعا فإنه من رواية موسى بن
ـــــــــــــــــــ
1 "ضعيف جدا". السلسلة الضعيفة "326".
2 "1/54- 55".
3
الحافظ ابن حجر هو: شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ في زمانه أبو الفضل أحمد بن
علي بن محمد الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي. برع في الحديث، في جميع
فنونه. مات سنة "852". له ترجمة في: شذرات الذهب "7/270". والضوء اللامع
"2/36".
محمد البلقاوي عن عبد الرحيم بن زيد العمي والبلقاوي هذا
كذاب كذبه أبو زرعة وأبو حاتم ونسبه ابن حبان والعقيلي إلى وضع الحديث
والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه1 وعبد الرحيم بن زيد العمي متروك
أيضا2 انتهى ذكره استدلالا بأن أئمة الحديث قد يطلقون الحسن على الحديث
الضعيف ويريدون حسن لفظه وسيأتي هذا في بحث الحسن وقال الحافظ المنذري
وإسناده ليس بالقوي وقد رويناه من طرق شتى موقوفا انتهى.و
لا يخفي أن
عليه حلاوة الكلام النبوي وطلاوته ولفصوله شواهد في شرف العلم والأحاديث
كثيرة وكل حديث في الحث على العلم وفضله فإنه صادق على علم الحديث بل هو
العلم الحقيقي والفرد الكامل عند إطلاق لفظ العلم:
العلم قال الله قال رسوله إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة بين النبي وبين قول فقيه وقال المصنف رحمه الله تعالى:
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء هم ورائه
فإذا أردت حقيقة تدري بمن ورائه فكرت ما ميراثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
فلنا
الحديث ورائه نبوية ولكل محدث بدعة أحداثه "واعتضد" من عضده كنصره أعانه
"الإجماعان" إجماع السلف والخلف "عليه" أي على فضل العلم النبوي "من بعد"
أي من بعد إجماع السلف وهو إجماع الخلف "ومن قبل" أي من قبل إجماع الخلف
وهو إجماع السلف ويحتمل إجماع الصحابة والقرابة أو إجماع أهل العقل والنقل.
ولا
ريب أن علم الحديث من أشرف العلوم وأفضلها لأنه ثاني أدلة علوم الإسلام
ومادة علوم الأصول والأحكام لا يرغب في نشره إلا كل صادق تقي ولا يزهد في
نصره إلا كل منافق شقي قال أبو نصر بن سلام وليس شيء أثقل على أهل الإلحاد
ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده.
ـــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في: الميزان "4/211"، والمجروحين "2/242".
2 انظر ترجمته في: المجروحين "2/161"، والتاريخ الكبير "2/600".
"والصلاة
والسلام على خاتم الرسل" لما كانت هذه الصفة معينة للموصوف وهو محمد صلى
الله عليه وسلم اكتفى بها عن تعيين اسمه "وعلى أهله" هم آله1 "خير أهل" له
أو خير أهل لكل ذي أهل "وعلى أصحابه كنوز الفضل" في القاموس الكنز المال
المدفون فقد جعل الفضل كالمال المدفون وجعل الصحابة محله الذي يستخرج منه
"وسيوف الفصل" أي السيوف التي تفصل الحق من الباطل والمؤمن من الكافر.
"وبعد"
أي بعد حمد الله والصلاة "فهذا" أي المعاني المخزونة في النفس بعد تزيلها
المحسوس لكمال ظهورها لديه "مختصر يشتمل على مهمات علوم الحديث" وهو علم
دراية لا رواية رسمه الشيخ عطا في مختصره المسمى "بالقول المعتبر في مصطلح
أهل الأثر" بقوله علم يعرف به حال الراوي والمروي من جهة القبول والرد
وموضوعه الراوي والمروي عنه من هذه الجهة وغايته معرفة ما يقبل وما يرد
وأما الحديث فهو علم رواية ورسمه أيضا بأنه علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: قيل أو إلى صحابي فمن دونه قولا أو فعلا أو هما
أو تقريرا أو صفة وقيل ما جاء عن النبي صلى عليه وآله وسلم والخبر ما جاء
عن غيره وعلم درايته اصطلاحي كما قال المصنف "واصطلاحات أهله ولا غنى لطالب
هذا العلم" أي علم الحديث "عن معرفته" المختصر "أو" معرفة "مثله" وقد جعل
ابن الصلاح أنواع علوم الحديث خمسة وستين نوعا وجعل النوع الأول معرفة
الصحيح كما جعل المصنف أقسام الحديث أول أبحاثه.
ـــــــــــــــــــ
1 هم آله: عند الإمام الشافعي أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطلب؛ لحديث مسلم في الصدقة: "إنها لاتحل لمحمد ولا لآل محمد".
وقال
في حديث رواه الطبراني: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم - أو يغنيكم- "
وقد قسم صلى الله عليه وسلم الخمس على بين هاشم والمطلب تاركا أخويهم بني
نوفل وعبد شمس مع سؤالهم له، كما رواه البخاري. "تدريب الراوي" "1/60- 61".
مسألة1
[في أقسام الحديث]قال "أقسام الحديث" أي في اصطلاحات أئمة الحديث "قسمه
الخطابي" هو الحافظ حمد بفتح الميم بغير همزة كما رواه الحاكم أبو عبد الله
أنه سئل الخطابي عن اسمه قال اسمي حمد ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه
والخطابي فقيه أديب محدث له مؤلفات منها "معالم السنين" على أبى داود وله
أعلام السنن في شرح البخاري وغير ذلك وفاته سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
بمدينة بست بضم الموحدة وسكون السين المهملة ومثناه فوقية مدينة من بلاد
كابل والخطابي بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف موحدة
نسبة إلى جده وقيل إنه ذوية زيد بن الخطاب1 "في المعالم" أي معالم السنن
جمع معلم بفتح الميم وسكون المهملة في القاموس معلم الشيء كمقعد مظنته وما
يستدل به عليها كالعلامة كرمانة والمراد مظنة السنن وما يستدل به عليها
وبهذا سمى البغوي2 تفسيره "معالم التنزيل" "إلى صحيح وحسن وسقيم" وقال ابن
الصلاح: في كتابه علوم الحديث3 اعلم أن الحديث عند أهله ينقسم إلى صحيح
وحسن وضعيف."
"وعرف الصحيح" 4 أي رسمه "بأنه عندهم: ما اتصل سنده" السند هو الإخبار عن
ـــــــــــــــــــ
1 انظر ترجمته في: وفيات الأعيان "2/214"، وتذكة الحفاظ "1019"، والعبر "3/39". ومرآة الجنان "2/435".
2
البغوي هو: الإمام الفقيه الحافظ أبو محمد الحسين بم مسعود بن محمد الفراء
الشافعي. بورك له في تصانيفه لقصده الصالح؛ فإنه كان من العلماء
الربانيين. مات سنة "516". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/193". وشذرات
الذهب "4/48". ووفيات الأعيان "1/145".
3 ص "18".
4 وعرف الصحيح:
قدم لاستحقاقه التقديم رتبة ووضعا، وترك تعريفه لغة بأنه ضد المكسور
والسقيم، وهو حقيقة في الأجسام بخلافه في الحديث والعبادة والمعاملة وسائر
المعاني فمجاز، أو من باب الاستعارة بالتبعية لكونه خروجا عن الغرض. "فتح
المغيث للسخاوي". "1/14".
طريق المتن1 من قولهم "فلان سند" أي معتمد
سمي سندا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعه عليه وأما الإسناد فهو رفع
الحديث إلى قائله وقد يستعمل كل منهما في مكان الآخر فقوله "ما اتصل سنده"
احتراز عن المتقطع وهو الذي لم يتصل سنده بأقسامه2 ويأتي بيان أقسامه في
كلام المصنف "وعدلت نقلت" احتراز عن المستور ومن قيه نوع جرح والعدل عندهم
من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ويأتي لنا بحث في رسم العدل
بهذا.
"ولم يشترط" الخطابي في رسم الصحيح "الضبط" كما اشترط غيره من
أئمة الحديث قال السيوطي في شرح ألفيته قال الحافظ ابن حجر قول الخطابي
"وعدلت نقلته" مغن عن التصريح باشتراط الضبط لأن المعدل من عدلة النقاد أي
وثقوه وإنما يوثقون من اجتمع فيه العدالة والضبط بخلاف من عرفه بلفظ العدل
فيحتاج إلى زيادة قيد الضبط فلا اعتراض عليه [ويؤخذ من هذا أنه إذا قيل
فلان ثقة يخطئ ففيه مناقضة] نعم يبقى الاعتراض عيه بعد زيادة قيد السلامة
عن الشذوذ كما يأتي والضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه
ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا.
واعلم
أن الضبط قسمان ضبط صدر بأن يثبت الراوي ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره
متى شاء وضبط كتاب بأن يصونه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه لأن الناقل
إن كان فيه نوع قصور عن درجة الإتقان دخل حديثه في حد الحسن وإذا نزلت
درجته عن ذلك ضعف حديثه3.
ـــــــــــــــــــ
1 قوله: "طريق المتن"
يعنون بالطريق سلسلة الرواة الناقلين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
سموا طريقا على سبيا المجاز؛ لأنهم يوصلون إلى المتن كما يوصل الطريق إلى
المكان المقصود. "المصباح". ص "9".
2 لم يتصل سنده بأقسامه: يدخل فيه
المنقطع والمرسل بقسميه والمعضل والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة
كالبخاري؛ لأن تعليقه المجزومة المستجمعة للشروط فيمن بعد المعلق عنه لها
حكم الاتصال، وإن لم نقف عليها من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا وتقصيرنا.
"فتح المغيث". "114".
3 انظر "فتح المغيث". "1/15".
"ولا" اشترط
الخطابي "سلامة الحديث من الشذوذ" احترازا عن الحديث الشاذ وسيأتي بيانه
"و" لا اشترط سلامته من "العلة" والذي لم يسلم منها يقال له المعل أي الذي
لم يسلم عن أسباب حفية قادحة كما ستعرفه في تعريف العلة في كلام المصنف فإن
قيل هذا قيد مستدرك فإنه لا يخفى على الضابط الحازم مثل تلك القادحة قيل
يقال الصارم قد ينبو والحازم قد يسهو.
"ولا بد من اشتراط الضبط" أي لا
فراق ولا محالة كما في القاموس أي لا بد من اشتراط تمام الضبط ولا مطلقه
كما ستعرفه من عبارات أئمة هذا الشأن وكأن المصنف أطلقه بناء على أن الضبط
التام هو الفرد الكامل المتبادر كما هو الواقع في رسوم الصحيح عند علماء
الفن.
قال ابن الصلاح: أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل
إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه1 وقال الحافظ ابن حجر
في "لنخبة"2بنقل عدل تام الضبط ومثله عبارة المصنف في مختصره في هذا الفن.
ووجه
الاحتياج إلى هذا القيد في الرسم قوله "لأن من كثر خطؤه عند المحدثين"
الظاهر تعلقه بقوله "استحق الترك" فلو أخره كان أولى فإن المعنى استحقاق
كثير الخطأ الترك عند أئمة الحديث لا أن كثرة أخطائه عند المحدثين كما هو
واضح ترشد إليه عبارته الآتية قريبا "وإن كان عدلا" إذا العدالة لا تنافي
كثرة الخطأ في الرواية إذ مدرك ذلك عدم تمام الضبط ومدرك العدالة غيره وهذا
في كثرة الخطأ وأما خفته فإنه يكون الراوي معه مقبولا ويصير حديثه حسنا
كما قال الحافظ فإن حف الضبط فهو الحسن لذاته.
وقال المصنف في مختصره فإن خف الضبط وكان له من جنسه تابع أو شاهد فالحسن ويأتي تحقيق ذلك في بحثه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
"وكذلك"
أي يستحق الترك "عند الأصوليين" أي أهل أصول الفقه ولكن بشرط غير شرط
الأولين وهو "إذا كان خطؤه أكثر من صوابه واختلفوا" أي الأصوليون لا أهل
الحديث فإنه يعلم أنهم إذا تركوا من كثر خطؤه فتركهم من تساوي خطؤه وصوابه
بالأولى والفرق بين كثيرا وأكثر ظاهر فهذان قسمان و الثالث: أشار إليه
بقوله "إذا
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "20".
2 ص "29".
استويا
فالأكثر منهم" أي الأصوليين "على رده" لعدم الظن بصدقه "لأنه لا يحصل الظن
بصدقه" ولا يقبل إلا ما يظن صدقه وإلا كان تحكما وهذا ثالث الأقسام
ورابعها أن يخف ضبطه وهذا لم يذكره المصنف وقد أشرنا إليه وخامسها من صوابه
أكثر من أخطائه وهو مفهوم كلام المصنف حيث قال لأن من كثر خطؤه عند
المحدثين واستحق الترك كما سلف وهذا يحتمل أنه الخفيف الضبط فهو مقبول عند
المحدثين لكن حديثه حسن لا صحيح عندهم ويكون مقبولا عند الأصوليين.
"ومنع
رده جماعة منهم المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "ولكنه قال طريق قبوله
الاجتهاد" ولا يخفي أن هذه كلها أخبار آحاد وطريق قبولها الاجتهاد وهو
النظر في أدلة التعبد بأخبار الآحاد فما وجه تخصيص هذا القسم بالشرط
المذكور ثم لا يخفى أنه إذا استوى ضبط الراوي وعدمه كان قبول روايته قبولا
مع الشك فيها والشك لا يعمل به فإن أراد المنصور بالله أنه إذا حفته قرائن
تقيد المجتهد ظن صدقه فليس يعلم بالمشكوك فيه من هذه الجهة بل من جهة ما
حفه من القرائن.
"كما هو قول عيسى بن أبان" بفتح الهمزة "ذكره" المنصور
بالله "في" كتابه "الصفوة" وحكاه عنه في الجوهرة للشيخ الحسن الرصاص "وكذلك
الفقيه عبد الله بن زيد" العنسي "ذهب إلى قبوله" أي قبول من تساوى ضبطه
وعدمه.
وأما قوله "وادعى الإجماع على قبوله إن كان صوابه أكثر من خطائه"
فيحمل على أن ضمير قبوله في هذه الجملة للراوي المفيد بكثرة صوابه على
خطائه لتصح دعوى الإجماع لا فيمن تساويا وإن كانت عبارته تقضي بعود الضمير
إليه إذ الكلام فيه ولا يصح أن يجعل قوله "إن كان صوابه أكثر من خطائه"
قيدا لقوله "ذهب إلى قبوله" لأنه غير محل النزاع فإن النزاع فيمن تساويا
فيه ولا من كان خطؤه مكثورا فإن مفهوم قوله آنفا أنه يرد الأصوليون من كان
خطاؤه أكثر من صوابه أن من كان صوابه أكثر من خطائه غير مردود عندهم وكذلك
عند المحدثين لأن الأظهر أنه المراد بخفيف الضبط الذي جعلوا حديثه حسنا
ولهذا راج للفقيه عبد الله دعوى الإجماع على قبوله "ذكر" الفقيه عبد الله
"ذلك كله في الدرر" جمع درة، وهو كتاب للفقيه في أصول الفقه "وفي دعوى"
الفقيه عبد الله "الإجماع نظر لمخالفة المحدثين".
اعلم أنه يتصور هنا أربع صور:
الأولى : تام الضبط.
الثانية : من تساوى ضبطه وعدمه.
الثالثة : من كان ضبطه أكثر من عدمه.
الرابعة : من عدم ضبطه أكثر من ضبطه.
وينضاف إليها صورتان:
الأولى : من قل غلطه.
والثانية : من كثر غلطه.
الأولى
من الأربع بشرط الصحيح والخامسة شرط الحسن فإن قلة الضبط هي خفته والسادسة
هي التي قال المصنف إنه يستحق صاحبها الترك عند المحدثين وأما من صوابه
أكثر من خطائه وهي الصورة الثالثة فمفهوم كلام المصنف أن صاحبها مقبول عند
الأصوليين ويحتمل أنها صورة خفة الضبط عند المحدثين فيكون مقبولا عندهم
أيضا فأنا لم ترهم عينوا خفة الضبط برتبة يتميز بها عن غيره وعلى هذا فقد
قبل المحدثون أهل هذه الصفة في رجال الحسن فلا يتم قول المنصف إن في دعوى
الفقيه عبد الله الإجماع نظرا لمخالفة المحدثين فإن الفقيه عبد الله ادعى
الإجماع على قبول من صوابه أكثر من خطائه وهو فيما يظهر لنا خفيف الضبط
فيتم دعواه الإجماع على قبوله من الفريقين لكنه شرط للحسن والفقيه عبد الله
إنما يتكلم على مجرد القبول لا على ما هو شرط الصحيح ويدل لذلك أن
المحدثين جعلوا من القوادح في الراوي فحش غلطة أي كثرته وسوء حفظه وهو
عبارة عمن يكون غلطة أكثر من إصابته هكذا ذكره الحافظ في النخبة وشرحها.
فالذي
ذكر المحدثون أربع صور تام الضبط خفيفة كثير الغلط من غلطة أكثر من حفظه
فالأوليان مقبول من اتصف بهما والأخريان مردود من اتصف بهما.
فعرفت أن
قوله "إلا أن يعني إجماع الصحابة وإجماع غيرهم كما أشار إليه" لا حاجة إليه
اللهم إلا أن يتبين أن المحدثين يفرقون بين من صوابه أكثر من خطائه وبين
خفيف الضبط فيقبلون الثاني: في الحسن ويردون الأول صح ما قاله المصنف رحمه
الله تعالى !
"وأما السلامة من الشذوذ والعلة" عطف على قوله "ولا بد من
اشتراط الضبط" أي وأما اشتراط السلامة من الشذوذ والعلة أي في رسم الصحيح
كما صنعه جماعة من أئمة الحديث "فقال الشيخ تقي الدين" هو العلامة التقي
محمد ابن علي القشيري
المعروف بابن دقيق العيد1 "في" كتابه المسمى
"الاقتراح في هذين الشرطين نظر" أي في ذكرهما في رسم الصحيح "على مقتضى نظر
الفقهاء" لا على مقتضى نظر أئمة الحديث وقد صرح بهذا المفهوم بقوله "إن
أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح" "فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها
المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء" فليست عندهم شرطا في صحة الحديث.
واعلم
أن بعض المحدثين يردون الحديث بالعلل سواء كانت قادحة أو غير قادحة كما
صرح به الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح حيث قال وأما الفقهاء فلا
يردونه إلا بالعلة القادحة كما ذكره الشيخ تقي الدين بقوله فإن كثيرا من
العلل إلى قوله لا تجري على أصول الفقهاء2 فإن فيه ما يدل أن قليلا منها
تجري على أصولهم وهي العلل القادحة لا غير القادحة.
قال الحافظ وأما
العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة أي عند الفقهاء
فكثيرة منها أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثله عن صحابي حديثا فيرويه عدل
ضابط مثله مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك
التابعي بعينه عن صحابي آخر فإن هذا يسمى علة عندهم أي المحدثين لوجود
لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه ولكنها غير قادحة لجواز أن يكون
التابعي سمعه من الصحابيين معا ومن هذا جملة كثيرة انتهى.
قلت: كلام
الشيختقي الدين تنظير على شرطي السلامة من الشذوذ من العلة ولم يبين وجه
النظر إلا في اشتراط السلامة من العلة دون الشذوذ فالعلة قاصرة عن المدعي
ثم لا يخفى أنه قد حصل مما ذكر أن اصطلاح الفقهاء في صحة الحديث غير اصطلاح
المحدثين إذ المحدثون يشترطون خلوه من العلة مطلقا والفقهاء يشترطون خلوه
من العلة القادحة فهو اصطلاحهم أخص منه باصطلاح الفقهاء وإذا كان كذلك فلا
يتم جمع الخاص والعام في رسم واحد فاعتراض الشيخ تقي الدين على رسم
المحدثين بأنه غير موافق لاصطلاح الفقهاء غير وارد بل لا بد من مخالفة
الرسمين.
ـــــــــــــــــــ
1 التقي محمد بن علي القشيري المعروف
بابن دقيق العيد الإمام الفقيه الحافظ شيخ الإسلام. كان من أذكياء زمانه،
واسع العلم، مديما للسهر، لم تر العيون مثله. مات سنة "702" له ترجمة في:
شذرات الذهب "6/317"، والوافي بالوفيات "4/193".
2 انظر "فتح المغيث"، "1/16".
لاختلاف الاصطلاحين.
"قال
ابن الصلاح": هو كما قال الذهبي في التذكرة الإمام الحافظ المفتي شيخ
الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان الشهرزوري الشافعي صاحب كتاب علوم الحديث
وقال أبو حفص بن الحاجب في معجمه إمام ورع وافر العقل حسن السمت متبحر في
الأصول والفروع بارع في الطب وأثنى عليه الذهبي كثيرا ولد سنة سبع وسبعين
وخمسمائة قال بان خلكان كان أوحد فضلاء عصره في التفسير والفقه "وزين
الدين" هو العلامة الحافظ عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن العراقي
البغدادي كان إماما علامة مقرئا فقيها شافعي المذهب أصوليا منقطع القرين في
فنون الحديث وصناعته ارتحل فيه إلى البلاد النائية وشهدت له بالتفرد فيه
أئمة عصره وعولوا عليه ولى قضاء المدينة نحو ثلاث سنين وسلوك وانتفع به
الأجلاء مع الزهد والورع والتحري في الطهارة وغيرها والتقنع باليسير
التواضع والكرم والوفاء أفرد ابنه له ترجمة في تأليف مات في شعبان سنة ست
وثمانمائة عن إحدى وثمانين سنة ذكره الحافظ السخاوي في "شرح الألفية"1
"فالصحيح ما اتصل سنده بنقل عدل ضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة قادحة"
ظاهره أن هذا رسم ابن الصلاح والزين بلفظه والذي رسمه ابن الصلاح، ليس فيه
لفظ قادحة بل لفظه كما قدمنا بعضه وتمامه "وأن لا يكون شاذا ولا معللا".
وأما
الزين فإنه زاد وصف العلة بالقادحة في رسمه فكأن المصنف أراد أن هذا الرسم
مجموع رسميهما وإن ذكر أحدهما ما لم يذكره الآخر لكن عرفت أن الرسم على
اصطلاح المحدثين إذ هذه الكتب ألف في بيان اصطلاح وعرفت أنهم يشترطون في
الصحيح السلامة من العلة مطلقا فزيادة القادحة في وصف العلة زيادة قادحة في
صحة الرسم على أصلهم فحذف ابن الصلاح لها هو الصواب وإثبات الشيخ زين
الدين لها صير رسمه على اصطلاح الفقهاء وهو بصدد بيان اصطلاح المحدثين نعم
قال ابن الصلاح: في بيان فوائد قيود حده إنه احترز عما فيه علة قادحة يريد
أنه وقع الاحتراز عن هذا بقوله "معللا". ومراده قادحة على رأي المحدثين وإن
لم تكن قادحة عند الفقهاء بدليل أنه مثل في النوع الثامن عشر في بحث
ـــــــــــــــــــ
1 "1/2". وله ترجمة أيضا في: إنباه الغمر "2/275"، وشذرات الذهب "7/55"، والضوء اللامع "4/171".
المعلل بأمثلة يقدح بها المحدثون ولا يقدح بها الفقهاء وسيأتي.
وبهذا
تعرف أن وصفه للعلة بالقادحة عند بيان القيود وإهمالها في الرسم بيان منه
لما عليه المحدثون فإن العلة تقدح عندهم في صحة الحديث وإن لم تقدح عند
غيرهم فحذف وصفها بالقادحة في الرسم لأن ألفاظه إنما يؤتى بها للاحتراز
والجمع والمنع فلو أتى بقيد القادحة في الرسم لحمل رسمه على اصطلاح الفقهاء
فإنه يحترز به عن العلة التي ليست بقادحة عندهم وأتى به في بيان فوائد
القيود وصفا كاشفا لا تحترز به عن شيء وبه تعرف أن وصف العلة بالقادحة عند
الفقهاء احتراز عن علة لا يقدح بها وأن وصفها في لسان المحدثين إنما هو
للكشف لا للاحتراز.
وقلنا في نظمنا للنخبة في رسم الصحيح:
وهو بنقل العدل ذي التمام
في ضبط ما يروى عن الأعلام
منصلا إسناد ما يرويه
لا علة ولا شذوذ فيه
يدعي الصحيح في العلوم عرفا فهذا كما ترى جامع مانع على اصطلاح أئمة الحديث.
وبهذا
التحقيق تعلم أن اعتراض الشيخ تقي الدين ليس في محله وتعرف أن قول ابن حجر
في جوابه عن اعتراضه إن ابن الصلاح لم يخل بذلك القيد بل قوله في الرسم
ولم يكن معللا يريد علة خفيه قادحة مستدلا برسمه للحديث المعلل على اصطلاح
المحدثين حيث قال: "أنه الحديث الذي اطلع في إسناده على علة خفيه قادحة"
غير صحيح لأنه لم يرد بوصف العلة بالقادحة في رسم العلل إلا القادحة عند
المحدثين ولا مفهوم لها بل هي وصف كاشف وتعرف إتقان ابن الصلاح في رسمه
وجريه على اصطلاح أئمة الحديث من غير ملاحظة لاصطلاح غيرهم.
وقد حذف
المصنف في مختصره من رسم الصحيح قيد القادحة فهو غير موافق لما قررناه هنا
فتأمل وتعرف أنه كان يحسن من المصنف تأخير كلام الشيخ تقي الدين وأن يفرد
عبارة ابن الصلاح ثم يورد عقبيها اعتراض الشيخ تقي الدين فإنه اعتراض لرسم
ابن الصلاح.
"قال الشيخ تقي الدين: لو قيل هذا" أي الرسم الذي ذكره ابن
الصلاح وزين الدين رسم "الحديث الصحيح المجمع على صحته لكان" قولا "حسنا
لأن من لا يشترط هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف" يريد أنه لو
قيل إن رسم ابن الصلاح
الذي سبق اعتراضه له رسم للحديث الصحيح
المتفق على صحته لكان حسنا لأن من العلماء من لا يشترط ما ذكر من الشروط
فيما يجعله صحيحا فيكون هذا صحيحا عنده لأنه حوى ما شرطه وزيادة "ومن شرط
الحد الجمع" لأفراد المحدود "والمنع" لدخول غيرها في، "فقال ابن الصلاح1:
هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" قلت: ذلك لأنه قد جمع القيود المعتبرة عند
أئمة الحديث وهي ثلاثة ثبوتية وهي اتصال السند وعدالة الناقل وضبطه وقيدان
عدميان هما عدم الشذوذ والعلة فهذه الخمسة هي المعتبرة في حقيقة الصحيح عند
المحدثين لكن تقييده هنا للعلة بالقادحة أخرج منه بعض أفراد الصحيح وهو ما
فيه علة غير قادحة فإنه غير صحيح عند المحدثين كما عرفت.
فقوله: "صحيح
باتفاق المحدثين" مسلم لكنه غير جماع لخروج بعض أفراد الصحيح منه عندهم كما
عرفت وقد قال الشيخ تقي الدين "من شرط الحد الجمع والمنع" وهذا الحد قد
جمع أفراد المحدود ومنع ما عندها وإن خرج منه بعض أفراد الصحيح أئمة الحديث
وتسمية مثل هذه الرسوم حدودا لا يتم على اصطلاح أهل الميزان فهو من باب
التسامح في ذلك.
ويحتمل أن يراد بقوله: "ومن شرط الحد... إلى آخره"
الاعتراض على الحد بأنه لم يشمل كل أفراد الصحيح على اصطلاح الفقهاء فلم
يكن جامعا فإن أراد هذا فجوابه ما سلف أنه بصدد رسمه على اصطلاح المحدثين
ومعناه أخص من معناه عند الفقهاء ولا يتم جمع الأخص والأعم في حد.
وقد
أفصح ابن الصلاح عن مراده من بيان معناه عند الفقهاء بما نقله عنه المصنف
من قوله "فقال ابن الصلاح: هذا صحيح باتفاق أهل الحديث" ولفظ ابن الصلاح
فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث انتهى فتسامح
الزين في عبارته ولم ينقلها بلفظها وتبعه المصنف ثم رأيت بعد ككتب هذا
بأيام في "شرح الإلمام" لابن دقيق العيد المتن والشرح له ما لفظه إن لكل من
أئمة الفقه والحديث طريقا غير طريق الآخر فإن الذي تقضيه قواعد الأصول
والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية ونظرهم يميل
إلى اعتبار التجويز الذي يمكن
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "20".
معه
صدق الراوي وعدم غلطه فمتى حصل ذلك وجاز أن لا يكون غلطا وأمكن الجمع بين
روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه فأما أهل
الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل
تمنعهم عن الحكم بصحته انتهى كلامه بنصه وهو صريح في اختلاف الاصطلاحين في
مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه والحمد لله.
واعلم أن ابن الصلاح قال
في كتابه "علوم الحديث": "أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل
بإسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا
معللا" ثم قال: "فهذا الحديث الذي تحكم له بالصحة بلا خلاف بين المحدثين"
انتهى كلامه بلفظه.
إذا عرفت هذا عرفت أن تعريف ابن الصلاح جامع مانع
على رأي أهل الحديث كما قررناه ولكن المصنف لما أتى بالتعريف الذي نسبه إلى
ابن الصلاح والزين وفيه تقييد العلة بالقادحة فخرج بزيادتها عن أن يكون
جامعا على رأي المحدثين كما عرفناك.
ثم قال ابن الصلاح:: "فهذا هو
الحديث... إلى آخره" مشيرا إلى رسمه فكلامه صحيح وحده جامع مانع على رأي
المحدثين فالخلل وقع من نسبة المصنف الحد الذي أتى به إلى الزين وابن
الصلاح وزيادة "قادحة" للزين فقط وعرفت أن قول المصنف فقال ابن الصلاح: هذا
صحيح نقل لكلام ابن الصلاح بالمعنى على أنه إنما أشار بهذا إلى الحديث حيث
قال فهذا الحديث الذي نحكم له بالصحة وعبارة المصنف رحمه الله تعالى قاضية
بأن الإشارة إلى الحد الذي ذكره هو.
"قال زين الدين: إنما قيد" أي ابن
الصلاح "نفى الخلاف بأهل الحديث لأن في المعتزلة من يشترط العدد1" أي زيادة
عدد الرواة على الواحدة "حكاه الحازمي" هو الأمام الحافظ البارع النسابة
أبو بكر محمد بن موسى بن حازم الهمذاني أثنى على الذهبي وذكر له عدة مؤلفات
منها الناسخ والمنسوخ في الحديث وعدله أشياء غير ذلك2 "في شروط الأئمة"
لفظ الزين في شرح ألفيته بعد نقل كلام ابن الصلاح إنما قيد نفي
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/11".
2
قال ابن النجار: كان من اتلأئمة الحفاظ، العالمين بفقه الحديث ومعانيه
ورجاله، ثقة حجة زاهدا ورعا عابدا، أدركه أجله شابا. له ترجمة في: البداية
والنهاية "12/332"، والعبر "4/254"، ووفيات الأعيان "1/488".
الخلاف
بأهل الحديث لأن بعض متأخري المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة إلى
آخره فأفادت عبارته أنه أشار ابن الصلاح إلى من يقول أنه يشترط في الرواية
عدد الشهادة وهو الاثنان وهذا العدد ذكره أبو منصور عن الجاحظ1.
[وعبارة المصنف بقوله العدد مجملة في قدر العدد فلذا نقلنا لفظ الزين].
وأنه
يشترط في الرواية الاثنين عن الاثنين والمصنف قال "قلت: بل مذهب البغدادية
من المعتزلة اشتراط التواتر" وهو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم
على الكذب مع استواء الوسط2 والطرفين3 بشرط أن يسند إلى الحس4 ولا يشترط له
عدد معين عند المحققين كما عرف في الأصول.
وكأن المصنف أراد بمجرد
الإفادة أن من الناس من يشترط التواتر وإلا فأنه لا يصح تفسير عبارة الزين
بمذهب البغدادية من المعتزلة لأن من يشترط التواتر لا يشترط عددا معينا
وعبارة الزين أن بعض المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة فلا يصح أن
يجعل إشارة إلى القائلين منهم بشرطية التواتر.
فإن قلت: لعل معتزلة بغداد يجعلون للتواتر عددا معينا فيصح تفسير ما قاله الزين بهم.
قلت:
لا يصح وإن قالوا بالعدد لاتفاق القائلين إنه لابد وأن يكون أهل التواتر
أكثر من أربعةوزين الدين أشار إلى من يقول إن الرواية كالشهادة والشهادة
عند
ـــــــــــــــــــ
1 الجاحظ هو/ أبو عثمان عمرو بن بحر بن
محبوب الكناني، ويعرف بالجاحظ لجحوظ عينيه، واشتهر بقبيح خلقته، وبلغ من
الذكاء وجودة القريحة ما جعله من كبار أئمة الأدب. مات سنة "255هـ". له
ترجمة في: وفيات الأعيان "1/388"، وطبقات الأدباء "254"، وتاريخ بغداد
"12/214".
2 يقصد بالاستواء: الاستواء في الكثرة، وإن تفاوت العدد مثل
أن يكون عدد الطبقة الأولى ألفا، وعدد الثانية تسعمائة، وعدد الثالثة ألفا
وتسعمائة.
3 الطرفين: المراد بهما الطبقة الأولى من الرواة، وهي التي
نقلت الخبر عن مصدره الأصلي، والطبقة الأخيرة وهي التي ألقت الخبر إلى
السامع.
4 الحسن: معناه أن يكون ذلك الخبر مما يدرك بالحس، ويكون مستند المخبرين هو الإحساس على وجه اليقين.
وذلك
مثل أن يقولوا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، وسمعناه
يقول كذا، فإن كان الخبر مما لا يدرك بالحس لا يسمى متواترا. "توجيه النظر"
ص "34" بتصرف يسير.
الإطلاق تتبادر إلى الاثنين على أنا لو حملنا عبارته على أكثر نصاب الشهادة فهو أربعة [كما في الزنا] والتواتر لا يكفي فيه الأربعة.
واعلم
أنه قال الحافظ ابن حجر إنه رأي في تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر
لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة كما حكاه
أبو الحسين البصري في المعتمد أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا
إذا انضم إليه خبر عدل آخر وعضده موافقة ظاهر الكتاب أو ظاهر خبر آخر أو
يكون قد اشتهر بين الصحابة أو عمل بعضهم انتهى.
وفي مختصر المنتهى لابن
الحاجب أن الجبائي يقول لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلا وأما وجوب العمل
به فإنه نسب عدم وجوب العمل به إلى القاشاني وابن داود والرافضة وجعلها
مسألتين.
"وعندي أنه" أي ابن الصلاح "لو لم يقيد نقي الخلاف بذلك" أي
بقوله عند المحدثين "كما فعل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد فإنه قال لو
قيل هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته فإنه أطلق الإجماع ولم يقيده
بالمحدثين ولا غيرهم لكان أي الحد مع عدم التقييد "صحيحا ويحمل على إجماع
الصحابة" أي يحمل رسم ابن الصلاح للصحيح بتلك القيود على أنه أراد إجماع
الصحابة والمراد إجماعهم على قبول من له تلك الأوصاف لا أنهم رسموا الصحيح
فإن هذا التقسيم للحديث عرف حادث بعد عصرهم "ومن بعدهم" من التابعين "حتى
حدث هذا الخلاف" أي خلاف المعتزلة.
قلت: في كلام المصنف رحمه الله تعالى أبحاث:
أحدها:
أن الصحابة لم يجمعوا على قبول من له هذه الأوصاف فإنه سيأتي للمصنف رحمه
الله تعالى أن عليا كرم الله وجهه يحلف الراوي وقد علم من كتب الحديث أن
عمر1 رضي الله عنه رد خبر المغيرة ورد خبر أبي موسى حتى انضم إليهما غيرهما
ورد خبر فاطمة بنت قيس ورد على رضي الله عنه خبر معقل بن سنان وقال أعرابي
بوال على عقبيه وإن قيل إنه لم يصح عنه ثم كانوا يقبلون
ـــــــــــــــــــ
1
عمر هو: ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي المدني أمير
المؤمنين، كان من قديمي الإسلام والهجرة، وممن صلى إلى القبلتين، وشهد
المشاهد كلها. ومات سنة "23". له ترجمة في: أسد الغابة "4/145"، والإصابة
"2/511"، وشذرات الذهب "1/33".
المرسل فإنهم قالوا إن ابن عباس1 رضي
الله عنهما لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم: إلا بضعة عشر حديثا وقيل
أقل وروي الكثير الطيب عن الصحابة من دون ذكرهم وكذلك غيره.
الثاني: أن
ابن الصلاح قد صرح بمراده من قيد نقي الخلاف فإنه قال باختلاف بين أهل
الحديث وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه
أو لاختلاف في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل انتهى فأفاد أن
المحدثين يختلفون في صحته لعدم وجود بعض الأوصاف التي هي الاتصال بنقل
العدل الضابط عن مثله وعدم الشذوذ والعلة فإن وجدت فهو عندهم صحيح بلا خلاف
بينهم وإن فقد البعض منها جاء فيه الخلاف ومثل بالمرسل لأنه فقد الاتصال
وقد ذهب أقوام إلى أنه صحيح ولذا قال المصنف في مختصره في رسم الصحيح إنه
نقل عدل تام الضبط متصل السند غير معل ثم قال وعند من يقبل المرسل نقل عدل
غير مغفل بصيغة الجزم دون التمريض والبلاغ فجعل المرسل قابليه قسما من
الصحيح.
وإذا عرفت هذا عرفت أن ابن الصلاح لم يرد بقوله بلا خلاف بين
أهل الحديث الإشارة إلى من يشترط العدد من المعتزلة كما قاله زين الدين بل
الإشارة إلى خلاف أهل الحديث الذين ألف كتابه في اصطلاحهم ولذا قال قد
يختلفون أي أهل الحديث أنفسهم فالحديث إن جمع تلك القيود اتفقوا على صحته
وإن فقد بعضها جاء فيه الخلاف بين أهل الحديث إذا منهم من لا يشترط تمام
الضبط فيدخل الحسن في الصحيح كما سيأتي.
وبه تعرف أنه لا بد من التقييد
لنفي الخلاف بالمحدثين إذ التأليف على اصطلاحهم والخلاف بينهم لا أنه إشارة
إلى من يشترط العدد وتعرف أنه لا يريد إجماع الصحابة وكيف يحمل كلامه على
الإشارة إلى من يشترط العدد كما زعمه زين الدين وهو يقول لاختلافهم في وجود
هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض الأوصاف - أي في شرطيته -
كالاتصال فان من يقبل المرسل لا يشترطه ولم يقل
ـــــــــــــــــــ
1
ابن عباس هو: عبد الله بن عباس القرشي الهاشمي المكي، وهو حبر الأمة
وترجمان القرآن، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر. مات سنة "70".
له ترجمة في: أسد الغابة "3/290"، والإصابة "1/322".
لاختلافهم هل تكفي هذه الأوصاف أو لابد من زيادة عليها حتى يفسرها باشتراط العدد.
وبه أيضا تعرف أن قول المصنف قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر ليس في محله.
البحث
الثالث: أن من جعل ذلك القيد للإشارة إلى من يشترط العدد مبنى على أنه
أريد بالعدل الضابط في الرسم الواحد فلا يدخل فيه الاثنان ولا أكثر منهما
ولا تصح إرادته لأنه يخرج حينئذ عن الرسم الحديث العزيز وهو ما يرويه اثنان
عن اثنين والمشهور وهو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين والكل من قسم
الآحاد ورسم الصحيح عام لهما فلابد من أن يراد بالعدل والضابط والجنس ليشمل
ما ذكر وحينئذ لا يخرج عنه من يشترط العدد باثنين أو أكثر.
البحث
الرابع: كلام الزين والسيد محمد رحمهما الله تعالى أن شرط العدد إنما هو
لجماعة غير أهل الحديث غير صحيح فإن أهل الحديث قاطبة قد اعتبروا العدد في
العزيز وهو أحد أقسام الآحاد كما عرفت وإنما اختص الجبائي بأنه حصر المقبول
من الآحاد عليه فما فوقه ثم أنه قد نقل ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول
أن شرط الشيخين أن يروي الحديث الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن
الصحابة وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المشهور
وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري ومسلم متقنا مشهورا
بالعدالة في روايته ثم قال وهذا الشرط الذي ذكرناه ذكره الحاكم ثم رد ابن
الأثير على من قال إن هذا لا يتم إذ في البخاري أحاديث على غير هذا الشرط
كما هو معروف في كتابه وقرر أن هذا شرط الشيخين.
وقال الحافظ ابن حجر في
النخبة وشرحها1 عند ذكر العزيز وهو أن لا يروي الحديث أقل من اثنين وليس
شرطا للصحيح خلافا لمن زعمه وهو أبو على الجبائي من المعتزلة وإليه يومئ
كلام الحاكم2 في علوم الحديث قال الصحيح أن يرويه
ـــــــــــــــــــ
1 ص "24".
2
الحاكم هو: الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن
حمدويه الضبي الطهماني النيسابوري. كان إمام عصره في الحديث العارف به
معرفته، ثقة يميل إلى التشيع. مات سنة "405". له ترجمة في: البداية
والنهاية "11/355".، والعبر "3/91"، ووفيات الأعيان "1/484".
الصحابي
الزائل عنه اسم الجهالة بأن يكون له راويان ثم يتداوله أهل الحديث إلى
وقتنا كالشهادة على الشهادة وصرح به القاضي أبو بكر بن العربي1 في شرح
البخاري.
ثم قال: قال ابن رشيد2: ولقد كان يكفي القاضي في بطلان ما ادعى أول حديث فيه مذكور. انتهى.
قلت: وإليه أشرنا في نظم النخبة بقولنا:
وليس
شرطا للصحيح فاعلم وقيل شرط وهو قول الحاكم ومراده ابن رشيد بأول حديث:
"إنما الأعمال بالنيات" 3 وهو مروي بالآحاد فإنه لم يروه إلا عمر رضي الله
عنه ولم يروه عنه إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن ابراهيم ثم تفرد
به يحيى بن سعيد عن محمد وكذلك آخر حديث مذكور فيه وهو حديث: "كلمتان
خفيفتان على اللسان...." إلخ4 لم يروه إلا أبو هريرة وتفرد به عنه أبو زرعة
وتفرد به عنه عمارة بن القعقاع وتفرد به محمد بن فضيل وعنه انتشر.
وإذا عرفت هذا عرفت أن في اعتبار خلافا لبعض أئمة الحديث وادعي أنه شرط البخاري لكن التحقيق خلاف ذلك.
"وسوف يأتي تعريف الحسن والضعيف وغيرهما إن شاء الله تعالى" بعد استيفاء الكلام على ما يتعلق بالصحيح.
ـــــــــــــــــــ
1
أبو بكر بن العربي هو: العلامة الحافظ القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن
محمد الإشبيلي. جمع وصنف وكان متبحرا في العلم، ثاقب الذهن، كريم الشمائل.
مات سنة "453". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/228"، والعبر "3/340"،
ووفيات الأعيان "1/489".
2 ابن رشيد هو: الإمام المحدث ذو الفنون محب
الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي. قال ابن
حجر: طلب الحديث فمهر فيه. وقال لسان الدين بن الخطيب: كان إماما، علي
الإسناد، تام العناية بصناعة الحديث. مات سنة "721". له ترجمة في: البدر
الطالع "2/234"، والدرر الكامنة "4/229".
3 البخاري "1/2"، ومسلم في: الإمارة: حديث "155"، وأحمد "1/25".
4 البخاري "8/107".، ومسلم في: الذكر والدعاء: حديث "13"، وأحمد "2/232".
مسألة
2 [في بيان مراد أهل الحديث بقولهم: هذا حديث صحيح]"المراد" أي مراد أهل
علوم الحديث "بالصحيح والضعيف" ذكره وإن كان تعريفه متأخرا ذكرا لحكم
النقيض عند حكم نقيضه "قال زين الدين: وحيث يقول المحدثون هذا حديث صحيح
فمرادهم فيما ظهر لنا عملا بظاهر الإسناد لا أنه مقطوع بصحته" 1 هو مأخوذ
من كلام ابن الصلاح فإنه قال ليس من شرطه يريد الصحيح أن يكون مقطوعا به
"في نفس الأمر" 2.
وهذا كلام صحيح "لجواز الخطأ والنسيان على الثقة"
سواء أريد المصحح له من الرواة إلا أنه لا يخفي أن هذا الإخبار عن مرادهم
قليل الإفادة لأنه معلوم أن ما في نفس الأمر لا يطلع عليه إلا الله تعالى
وأنه لا يكلف أحدا إلا بالعمل بما خوطب به وظهر له صحته أو غيرها.
وقد
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إنما أقطع له قطعة من نار" 3 لأنه يحكم بما
أوجب عليه الحكم به عنده وهو حصول نصاب الشهادة مثلا وإن كانت كذبا في نفس
الأمر وقد نقل إليه صلى الله عليه وسلم أن رجلا يأتي أم ولده فأرسل عليا
عليه السلام لقتله فوجده محبوبا فتركه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أحسنت" 4.
ولكنه ذكره المصنف ليتوصل به إلى قوله: "هذا هو الصحيح الذي
عليه أكثر أهل العلم خلافا لمن قال: إن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر كحسين
الكرابيسي" نسبة إلى الكرباس بالكسر الثوب الأبيض من القطن معرب فارسيته
بالفتح غيروه لغزة
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/11".
2 علوم الحديث ص "21".
3 البخاري "9/32، 86". وأبو داود "3583"، والبهقي "10/149".
4 مسلم في: التوبة: حديث "59"، وأحمد "3/281".
فعلال والنسبة كرابيسي كأنه شبه بالأنصاري1 وإلا فالقياس كرباسي قاله في القاموس "وغيره".
واعلم
أن ظاهر مراده بالعلم العلم بالمعنى الأخص إذ العلم بالمعنى الأعم يشمل
الظن لكن لما قال الظاهر قال الحافظ ابن حجر إنما يكون ذلك مخالفا لو قال
يفيد العلم وأطلق فأما الظاهر وهو غلبة الظن على صحته فلا خلاف في أنه
يفيده والله أعلم بمراد الكرابيسي فإن العبارة المذكورة هنا لا تصرح
بالمقصود وقد نقل عن أبي بكر القفال مثلها وأول ذلك بغالب الظن لأن العلم
لا يتفاوت. اهـ.
قلت: يعني لا يقال فيه ظاهر وغير ظاهر بخلاف الظن.
"وحكاه
ابن الصباغ" بفتح الصاد المهملة فموحدة مشدده فغين معجمة بعد ألفه هو أبو
نصر عبد الله بن محمد بن عبد الواحد فقيه العراقيين في وقته مؤلف كتاب
الشامل في فقه الشافعية والعدة في الأصول "في العدة عن قوم من أصحاب
الحديث" قد علم أن خبر الواحد يفيد الظن فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما
قال الحافظ في النخبة وشرحها2 وقد يقع فيها أي في أخبار الآحاد المنقسمة
إلى مشهور وعزيز وغريب وهي أقسام الآحاد ما يفيد العلم النظري بالقرائن على
المختار. اهـ.
وقلنا في نظم النخبة:
وقد يفيد العلم أعني النظري إذا
أتت قرائن للخبر واعلم أن الأقوال في خبر الواحد في إفادته العلم ثلاثة
كما ذكره ابن الحاجب والعضد وغيرهما:
الأول: أنه يفيد العلم بنفسه مطردا أي كلما حصل خبر الواحد حصل العلم وهو قول أحمد بن حنبل3.
و الثاني: أنه يحصل به العلم ولا يطرد أي ليس كلما حصل حصيل العلم به.
الثالث: أنه لا يحصل العلم به إلا بقرينة.
ـــــــــــــــــــ
1 تدريب الراوي "1/75".
2 ص "26".
3
أحمد بن خنبل بن هلال الشيباني المروزي، أبو عبد الله أحد الأئمة، حافظ
فقيه، حجة زاهد ورع، وهو رأس الطبقة العاشرة. مات سنة "141". له ترجمة في:
تاريخ بغداد "4/412"، وشذرات الذهب "2/96"، ووفيات الأعيان "1/47".
والمسألة
مستوفاة هنالك والمراد بيان أن المسألة من المسائل المعروفة والخلاف فيها
واسع فأحد أقوال أحمد كقول الكرابيسي وكأنه الذي أراده ابن الصباغ بقوله عن
قوم من أصحاب الحديث والحق أن فيه ما يفيد العلم كما هو أحج الأقوال.
وقد
كان صلى الله عليه وسلم يبعث الآحاد إلى الأقطار يدعون إلى الإيمان ولابد
فيه من العلم ولا يكفي فيه الدخول بالظن وكان يرتب على خبر الآحاد ما يرتب
على ما يفيد العلم كقبوله خبر الوليد بن عقبة في قصة بني المصطلق وإرادته
صلى الله عليه وسلم غزوهم استنادا إلى خبره حتى أنزل الله: {إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ثم المراد من العلم هنا بخبر الآحاد العلم
بالمعنى الخاص وهو الاعتقاد الجازم المطابق الذي لا يبقى معه شك ولا شبهة
فقول الزين العلم الظاهر يريد به هذا المعنى إذ العلم بالمعنى الأعم لا
خلاف في إفادة خبر الآحاد له على أن قول الكرابيسي العلم الظاهر يحتمل أه
لا يريد به ما في نفس الأمر بل أنه يفيد خبر الآحاد العلم المذكور ظاهر لا
قطعا.
"قال الباقلائي" هو أبو بكر محمد بن الطيب الباقلائي بفتح الموحدة
وبعد الألف قاف ثم لام ألف وبعده نون نسبة إلى الباقلا وبيعه وأنكر
الحريري هذه النسبة وقال من قصر الباقلا قال باقلي ومن مد قال باقلاوي
وباقلائي وفي جامع الأصول قولهم باقلائي على خلاف القياس مثل صنعائي ذكر
ابن خلكان أنه سكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة في علم الكلام وسمع الحديث
"أنه" أي القول بإفادة خبر الواحد العلم "قول من لا يحصل علم هذا الباب" أي
باب ما تفيده أخبار الآحاد ولا يخفى ما تقدم من قول أحمد وغيره في إفادته
إياه.
والحاصل أنه قبل بإفادته العلم وعدمها مطلقا وإفادته تارة وعدمها
أخرى فكيف يقال أنه قول من لا يحصل على هذا الباب على أنه لا يخفي أن من
أخبر نفسه بأنه حصل له العلم بأي سبب من الأسباب المحصلة له يصدق في نفسه
وأما حكمه بأنه تحصل لغيره ما حصل له من العلم بذلك السبب فهذه دعوى على
الغير مستندها القياس على النفس واختلاف الإدراك معلوم فلا يكاد يستوي
اثنان في رتبه فالقول بأن هذا السبب الفلاني مثلا يفيد العلم أولا يفيده
لكل من حصل له ليس بمقبول.
"قال زين الدين: إن أخرجه" أي الحديث الصحيح الأحادي "الشيخان" البخاري
ومسلم
أي اتفقا على إخراجه على الصحابي "أو" انفرد "أحدهما" بإخراجه "فاختيار
ابن الصلاح القطع بصحته وخالفه المحققون كما سيأتي" 1 للمصنف في ذكر حكم
الصحيحين ويأتي الكلام عليه.
"وكذا قولهم" أي أئمة الحديث "هذا حديث
ضعيف مرادهم فيما لم يظهر لنافيه شروط للصحة" أي ولا الحسن "لا أنه كذب في
نفس الأمر" هذا إذا كان تضعيفه لكذب راوية وإلا فإن أسباب التضعيف كثيرة
كما يأتي فلو قال لا أنه ضعيف في نفس الأمر لكان أشمل وفي قوله وإصابة من
هو كثير الخطأ إشارة إلى ما صوبنا به عبارته إذ كثير الخطأ ليس خبره كذبا
بل مردودا "لجواز صدق الكاذب وإصابة من هو كثير الخطأ" 2.
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/12".
2 فتح المغيث "1/28"، وتدريب الراوي "1/76".
مسألة
3 [من علوم الحديث: في معرفة أصح الأسانيد]"أصح الأسانيد- واختلفوا" أي
أئمة الحديث على ثلاثة أقوال إطلاقين وتفصيل كما ستعرفها "هل يمكن معرفة"
المحدث "أصح الأسانيد" وكذا يجري في الحديث نفسه.
قال ابن الصلاح1: ولهذا ترى الإمساك عن إسناد أو حديث إلى آخره فليس الكلام مقصورا على الأسانيد كما هنا.
قلت:
كأنه حذف الزين قوله أو حديث لأنه قال الحافظ ابن حجر لا يحفظ عن أحد من
أئمة الحديث أنه قال حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق لأنه لا يلزم من
كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي
بالإسناد المرجوح لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني: ووجودها في الأول أو
كثرة المنابعات وتواترها على الثاني: دون الأول فلأجل هذا ما خاض الأئمة
إلا في الأول خاصة وكأنه قال هل يمكن أو لا يمكن.
"قال زين الدين:
والمختار أنه" أي معرفة الأصح ذكر الضمير لإضافته إلى المذكر "لا يصح"
الظاهر أن يقال لا يمكن أنه عنوان البحث فكأنه أراد الصحة الإمكان "لأن
تفاوت مراتب الصحة" التي يفيدها صحيح وأصح إلا أن ابن الصلاح ذكر هذا البحث
بعد بيان مراتب الصحة فإنه قال الصحيح يتنوع إلى متفق عليه ومختلف فيه
ويتنوع إلى مشهور وغريب وبين ذلك ثم قال إن درجات الصحيح تتفاوت في القوة
بحسب تمكن الحديث من الصفات المذكورة التي تنبني الصحة عليها وتنقسم
باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العاد الحاصر2. اهـ.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "22".
2 علوم الحديث ص "22".
وهذا
التفاوت في المراتب التي علل بها زين الدين لا يتضح إلا بعد معرفة هذه
التقاسيم فلو أشار إليها كان أتم في الإفادة لقوله: "مترتب على تمكن
الإسناد من شروط الصحة" ولا سبيل إلى معرفة تمكنه منها إلا بعد معرفة هذه
التقاسيم ليعرف الأعلى مرتبة من الأدنى كما قال: "ويعز وجود أعلى درجات
القبول في كل فرد فرد" من الرواة: بأن يكون أكمل رواة الأحاديث عدالة وضبطا
بالنسبة إلى كل راو في الدنيا للحديث النبوي "في ترجمة واحدة بالنسبة
لجميع الرواة" إذ قد لا يعز في بعض الرواة أو في تراجم معقودة رواة متعددين
كما يأتي أنه قد حكم على بعض التراجم بالنسبة إلى راو معين وهذا التعليل
يشعر بأنه يمكن وإنما يعز ولو عبر المصنف في أول البحث بقوله يعز معرفة أصح
الأسانيد لكان أوفق لما ذكره هنا.
نعم عبارة الحافظ بلفظ لا يمكن أن
يقطع الحكم في أصح الأسانيد لصحابي واحد وكأنه لذلك قال المصنف "وقريب من
هذا" أي من كلام الزين "ما قاله الحاكم" أي أبو عبد الله الإمام الكبير
الحافظ الشهير الضبي النيسابوري متفق على إمامته وجلالته ويأتي ذكر كتابه
المستدرك وكلام الأئمة فيه وهذا الذي ذكره المصنف ذكره الحاكم في كتابه
علوم الحديث "وسيأتي كلامه" قريبا.
وهذا الإطلاق الأول في مسألة
والإطلاق الثاني: ما أفاده قوله: "قال ابن الصلاح: إن جماعة من المحدثين
خاضوا غمرة ذلك" الغمرة بالغين المعجمة فيم ساكنة فراء من غمرة الماء غطاه
ففي الكلام استعارة شبه البحث عن أصح الأسانيد بالبحر فأثبت له الخوض
والغمرة وهذا دليل على أن هؤلاء الخائضين يرون إمكان معرفة أصح الأسانيد بل
وجزموا فيما عينوه.
وهذا القسم يقابل قول المصنف يمكن وكأنه قال أولا
ثم ذكر القسم الأول وأخذ في ذكر الثاني "فاضطربت أقوالهم" اختلفت في تعيين
أصح الأسانيد.
"فقال البخاري: أصح الأسانيد" زاد ابن الصلاح لفظ كلها
وكذلك الحاكم في الرواية عن البخاري وما كان يحسن حذفها إذا فيها التنصيص
على المارد أي كل سند في الدنيا "ما رواه مالك1" الإمام المعروف "عن نافع"
مولى عبد الله بن عمر "عن ابن
ـــــــــــــــــــ
1 مالك هو: ابن
أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني. شيخ الأئمة، وإمام دار
الهجرة. قال الشافعي: إذا جاء الأثر فمالك النجم. مات سنة "179". له ترجمة
في: البداية والنهاية "10/174"، وشذرات الذهب "1/289"، ووفيات الأعيان
"1/439".
عمر" هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب أخرج
هذا الحاكم عن البخاري بسنده فهذا رأي البخاري ولا يصح أنه يريد أصح أسانيد
عبد الله بن عمر عنده في نظره لأنه صرح بقوله كلها فإذا هذا الحكم بالنسبة
إليه ليس محلا للخلاف إذ محله بالنسبة إلى كل حديث يروى ثم إذا كان
البخاري عين الأصح عنده فلا يقال إنها اضطربت أقوال من عين رتبة الأصح عنده
لأنه أخبر عن رأيه وما حصل عنده فكل قائل قوله غير مضطرب في نفسه ولا
يلزمه القول بقول غيره إذ هو مخبر عما صح له.
"وقال عبد الرزاق" هو
الصنعاني الإمام المعروف صحاب المسند "وأبو بكر بن أبي شيبة" هو عبد الله
بم محمد بن أبي شيبة صاحب المسند والمصنف "أصحها مطلقا الزهري" هو محمد بن
شهاب التابعي المعروف منسوب إلى زهرة بن كلاب بطن من قبيلة من قريش منهم أم
النبي صلى الله عليه وسلم: "عن علي بن الحسين" زين العابدين وإمام المتقين
شهرة أمره تغني عن ذكره "عن أبيه الحسين بن علي" ريحانة المصطفى وسيد
الشهداء وقتيل كربلاء "عن جده" على بن أبي طالب أمير المؤمنين أبي الحسن
خامس أهل الكساء وسيد الأتقياء وإمام الشهداء قد بينا بعض ما يجب من بيان
فضائله في الروضة الندية شرح التحفة العلوية "سلام الله عليهم أجمعين" وهذه
الرواية عن عبد الرزاق وابن أبي شيبة أخرجها الحاكم في علوم الحديث يسنده
وفيها أصح الأسانيد كلها.
"وقال أحمد" هو إمام الحدثين أبو عبد الله
أحمد بن حنبل صاحب المسند "واسحاق" هو أبو يعقوب اسحق بن ابراهيم الحنظلي
من أئمة الحديث عرف بابن راهوية "أصحها" مطلقا "الزهري عن سلام ابن عبد
الله بن عمر عن أبيه" عبد الله بن عمر بن الخطاب.
"وقال عمر بن علي
الفلاس" أخرجه الحاكم عنه وفي كتاب ابن الصلاح عمرو بفتح العين وهي نسخة في
كتاب المصنف والفلاس بفتح الففاء فتشديد اللام فسين مهملة "وسليمان بن
حرب" وفي كتاب علوم الحديث للحاكم ابن داود وفي نكت الحافظ ابن حجر ابن حرب
مثل ما هنا "وعلي بن المديني" وهو الحافظ المعروف شيخ البخاري "أصحها محمد
بن سيرين" التابعي المعروف بتعبيره الأحلام "عن عبيدة" بفتح المهملة
فموحدة فمثناة تحتية فدال مهملة "السلماني" بالسين المهملة وسكون اللام
ويقال
بفتحها وهو أحد الرواة "عن علي بن أبي طالب عليه السلام إلا
أن علي بن المديني قال: أجود الأسانيد" كأنه عبارة عن أصحها ليوافق ما تقدم
[من قوله أصحها] "عبد الله بن عون عن" محمد "ابن سيرين عن عبيدة عن علي"
فشرط أن يكون الراوي عن محمد بن سيرين عبد الله بن عون.
"وقال سليمان بن
حرب: أصحها أيوب" السختياني الثقة المعروف "عن محمد بن سيرين بن عن عبيدة
عن علي" فشرط في الراوي عن ابن سيرين أن يكون أيوب فقد اتفق الثالثة: أن
أصحها محمد بن سيرين عن عبيدة عن عي وإن اختلفوا في الراوي عن محمد وظاهر
هذا أن الفلاس لم يشترط راويا معينا عن محمد.
"وقال ابن معين" بفتح
الميم فعين مهملة فمثناة تحتية فنون هو يحيى بن معين الإمام الحافظ صاحب
الجرح والتعديل "أصحها سليمان ابن مهران" بسكر الميم وسكون الهاء فراء
"الأعمش" بعين مهملة فشين معجمة حافظ مشهور ثقة عالم رأي أنس بن مالك ولم
يرزق السماع منه فهو تابعي برؤية الصحابي وأما ما يرويه عنه فهو مرسل أرسل
عن كبار التابعين "عن ابراهيم بن يريد النخعي" بفتح النون وفتح الخاء
المعجمة فعين مهملة فقيه كوفي أحد الأئمة المشهورين تابعي رأي عائشة ولم
يسمع منها وهو منسبوب إلى النخع قبيلة كبيرة من مذحج باليمين "عن علقمة"
بعين مهملة مفتوحة فلام فقاف فقيه ثبت تابعي عالم "ابن قيس" ابن عبد الله
النخعي الكوفي "عن عبد الله بن مسعود" أخرجه الحاكم بسنده عن يحيى زاد فقال
له أي ليحيى إنسان الأعمش مثل الزهري فقال برئت من الأعمش أن يكون مثل
الزهري كان يرى العرض والإجازة وكان يعمل لبني أمية وكان الأعمش فمدحه فقال
فقير صبور مجانب للسلطان.
"فهذه الأقوال" وهي خمسة "ذكرها ابن الصلاح1
قال زين الدين" بعد سياقه لكلام ابن الصلاح "وفي المسألة أقوال أخر ذكرتها
في الشرح الكبير" الذي شرح به ألفيته.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أقوالا أخر نص أئمة من أئمة الحديث بأنها أصح الأسانيد غير ما ذكر.
"وفيه" أي في الشرح الكبير "فوائد مهمة لا يستغني عنها طالب الحديث" 2 لنفعها
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "22- 23".
2 فتح المغيث "1/14".
في
ذلك الفن فهذان الإطلاقان إلى هنا والتفصيل ما أفاده قوله "قال" أي زين
الدين "ولا يصح تعميم الحكم في أصح الأسانيد" كسند حديث أبي هريرة مثلا "في
ترجمة لصحابي واحد بل ينبغي أن تقيد كل ترجمة منها بصاحبيها" على جميع
تراجم الصحابة أي لا يحكم بأنها أصح أسانيد الأحاديث كلها وهذا منه رد لما
قاله من ساق كلامهم من الأئمة في حكمهم بأن أصح الأسانيد مطلقا رواية
الصحابي الذي عينوه وهذا الكلام من كلام الحاكم فإنه قال بعد سياقه لما ذكر
من التراجم التي حكم عليها بأنها أصح الأسانيد وهي التي سلف ذكرها قريبا
ما لفظه إن هؤلاء الأئمة الحافظ قد ذكر كل واحد منهم ما أدى أليه اجتهاده
في أصح الأسانيد ولكل صحابي رواة من التابعين ولهم أتباع وأكثرهم ثقات.
ثم
ما نقله المصنف بقوله: "قال الحاكم: لا يمكن أن يقطع الحكم في أصح
الأسانيد لصحابي واحد" ثم قال الحاكم: "فنقول وبالله التوفيق" في بيان أصح
الأسانيد وتقييد كل ترجمة بصحابيها "إن أصح أسانيد أهل البيت عليهم السلام"
ما رواه "جعفر" هو جعفر الصادق "ابن محمد" هو محمد الباقر "عن أبيه" محمد
"عن جده" علي بن الحسين زين العابدين وهذا الذي نقله المصنف هو لفظ الحاكم
كما رأيناه في كتاب الحاكم إلا أنه لا يخفي أن الظاهر أن يراد بأبيه محمد
لأن علي بن الحسين جد جعفر لا أبوه مع أنه مشكل فإن ضمير جده على هذا يكون
لعلي بن الحسين فأنه جد جعفر ولكن علي بن الحسين لم يسمع من علي بن أبي
طالب فيكون منقطعا فيكف يكون من أصح الأسانيد وإذا أعيد ضمير أبيه إلى علي
بن الحسين وإن كان جدا لجعفر فإنه يصح إطلاق الأب عليه لغة وحينئذ فلا
انقطاع إلا أنه لا يتم إلا بعد ثبوت سماع جعفر من جده علي بن الحسين ولأن
هذا خلاف القاعدة لهم فإنهم إذا قالوا عن أبيه عن جده لا يريدون إلا أنه
يروي عن أبيه وأبوه يروي عن جده وقد ثبت سماع جعفر عن جده علي بن الحسين
لأن مولد جعفر سنة ثمانين ووفاة علي بن الحسين سنة ثلاث وتسعين فقد صحب
جعفر جده علي بن الحسين ثلاث عشرة سنة فسماعه منه يقين كما أن سماع زين
العابدين من أبيه الحسين السبط يقين فإنه حضر الطف مع أبيه وعمره ثلاث
وعشرون سنة "عن جده" الحسين السبط "عن علي" رضي الله عنهم "إذا كان الراوي
عن جعفر ثقة" نقل عن المصنف أنه إنما قيد الحاكم بذلك لكثرة رواية الضعفاء
عنه.
"قلت: قال أحمد بن حنبل: هذا إسناد لو مسح به على مريض لشفي
رواه" عن أحمد "المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في المجموع المنصوري"
وذكره السمهودي في جواهر العقدين من طريق المحدثين يريد أنه يشفي لبركة
هؤلاء الأئمة وكأنه يريد لو كتب ومسح به أولو قرئ على المريض ومسح بيده
القارئ.
قال الحاكم: "وأصح أسانيد أبي بكر" رضي الله عنه لفظ الحاكم
الصديق عن أبي بكر وكذا نقله عن الزين ما رواه "إسماعيل بن أبي خالد"
البجلي ثقة روي عن كبار التابعين "عن قيس ابن أبي حازم" بالحاء المهملة
والزاي وقيس هو أبو عبد الله الكوفي البلخي مخضرم من كبار التابعين وهو ثقة
"عن أبي بكر وأصح أسانيد عمر رضي الله عنه الزهري عن سالم" بن عبد الله بن
عمر "عن أبيه" عبد الله "عن جده" عمر.
وقال ابن حزم: أصح طريق يروي في هذه الدنيا عن عمر رواية الزهري عن السائب بن يزيد عنه.
"وأصح أسانيد أبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب" بفتح المثناة وروي عنه أه كان يقول بكسرها تابعي مشهور فاضل "عن أبي هريرة".
"وأصح أسانيد ابن عمر: مالك عن نافع عن ابن عمر" وهي التي قال البخاري إنها أصح الأسانيد مطلقا كما سلف.
"وأصح
أسانيد عائشة: عبيد الله بن عمر" ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب كان
أحد الأعلام "عن القاسم" بن محمد ابن أبي بكر "عن عائشة" عمته أخت أبيه
أخرج الحاكم عن يحيى بن معين أنه قال عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد
عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب.
"وأصح أسانيد عبد الله بن مسعود: سفيان"
هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد "الثوري" بالمثلثة مفتوحة وسكون الواو فراء
نسبة إلى ثورين عبد مناف وهو رأس في العلم والورع والتقوى "عن منصور" هو
ابن المعتمر "عن ابراهيم النخعي عن علقمة" تقدم "عن ابن مسعود".
"وأصح أسانيد أنس بن مالك: عن الزهري عن أنس" فهذه أصح الأسانيد بالنظر إلى الصحابي من غير اعتبار محل وأما باعتبار المحلات فقال:
"وأصح أسانيد المسكين من الرواة: سفيان" بسين مهملة مثلثة الحركات "ابن عيينة"
بضم
العين المهملة وفتح المثناة التحتية وسكون المثناة التحتية وفتح النون هو
أبو محمد سفيان ثبت حجة معروف "عن عمرو بن دينار" بالدال بلفظ الدينار
المعروف "عن جابر بن عبد الله" .
"وأصح أسانيد اليمانيين" جمع يماني
منسوب ويقال في النسبة أيضا يمني ويمان كقاض كما في القاموس والمراد رواة
"معمر" بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الميم الثانية فراء هو أبو
عروة بن راشد الأزدي نزيل اليمن ثقة فاضل "عن همام" بفتح الهاء وتشديد
الميم ابن منبه هو تابعي وهو أخو وهب بن منبه اليماني صاحب الأخبار "عن أبي
هريرة".
"وأثبت أسانيد المصريين" أي أصحها "الليث" 1 ابن سعد أحد أعلام
عصرة "عن يزيد بن أبي حبيب" المضري أي حازم اسم أبيه سويد ثقة فقيه كان
يرسل "عن أبي الخير" بالخاء المعجمة وتحتية اسمه مرثد بن عبد الله ثقة فقيه
"عن عقبة" بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة "ابن عامر" وعقبة صحابي
معروف.
"وأثبت أسانيد الشاميين" جمع شامي منسوب إلى شام ويقال في النسبة
إلى الشام أيضا شام وشامي كما في القاموس "الأوزاعي" بفتح الهمزة وسكون
الواو فزاي مفتوحة مفهمة وهو أبو عمر عبد الرحمن ابن عمرو ثقة جليل2 "عن
حسان" بمهملتين الثانية مشددة "ابن عطية" هو أبو بكر حسان الدمشقي فقيه
عابد "عن الصحابة".
"وأثبت أحاديث الخراسانيين: الحسين بن واقد" اسم
فاعل من الوقود ولي قضا مرو وكان يحمل حاجته من السوق وثقة ابن معين وغيره
واستنكر أحمد بعض حديثه "عن عبد الله بن بريده" تصغير برد الحالف التاء "عن
أبيه" بريدة بن الحصيب الصحابي المعروف قال الحاكم: بعد سياقه لهذا ولعل
قائلا يقول هذا الإسناد لم يخرج منه في الصحيحين إلا حديثان فيقال له
أوجدنا للخراسانيين أصح من هذا الإسناد وكلهم ثقات وخراسانيون وبريدة بن
الحصيب مدفون "بمرو". انتهى.
ـــــــــــــــــــ
1 الليث بن سعد بن
عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري. قال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدا أكمل
من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القراءة والنحو،
ويحفظ الحديث والشعر، لم أر مثله. مات سنة "175". له ترجمة في: تاريخ بغداد
"13/3"، وشذرات الذهب "1/285"، والعبر "1/266".
2 له ترجمة في: تذكرة الحفاظ "1/178"، والعبر "1/227"، وتهذيب التهذيب "6/238".
وقال
الحافظ ابن حجر بعد سياقه لكلام الحاكم هذا ما لفظه قلت: وهذا الذي ذكره
فد ينازع في بعضه ولاسيما في أصح أسانيد أنس فإن قتادة وثابتا البناتي أقعد
وأسعد بخدمته من الزهري ولهما في الرواة جماعة فأثبت أصحاب ثابت البناني
حماد بن زيد وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل غيره وإنما جزمت بشعبة لأنه كان
لا يأخذ ع أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه
وقوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر فان جماعة من أئمتهم رجحوا راوية سعيد
بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبى إدريس الخولاني عن أبى ذ ر ثم قال
تنبيه لم يذكر المصنف - يريد ابن الصلاح - أوهى الأسانيد وقد ذكره الحاكم
وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابله. انتهى.
واعلم أن فائدة معرفة
أصح الأسانيد مما ذكر وغيره أنه إذا عارضه حديث مما لم ينص فيه إمام على
أصحيته يرجع ما نص على أصحيته عليه وإن كان صحيحا فان عارضه مه نص أيضا على
أصحيته يرجع إلى المرجحات فأيهما كان أرجع حكم بقوله وإلا رجع إلى القرائن
التي تحف أحد الحديثين فيقدم بها على غيره.
مسألة 4 [في ذكر أول من صنف
في جمع الصحيح]"أصح كتب الحديث أول من صنف صحيح البخاري" هذا كلام ابن
الصلاح1 قال الحافظ ابن حجر إنه اعترض عليه شيخ علاء الدين مغلطاى فيما
قرأت بخطه بأن مالكا أول من صنف الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمى2
قال وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد فلا يرد كتاب مالك لأن فيه
البلاغ3 والموقوف والمتقطع والفقه وغير ذلك لوجود ذلك في كتاب البخاري.
اهـ.
قال: وقد أجاب شيخنا يريد به زين الدين ثم ذكر جوابه واعتراضه بما
هو حق ثم قال لكن الصواب في الجواب ثم ذكر ما حاصله أنه يصدق على مالك أنه
أول من صنف الصحيح اعتبار انتقائه للرجال فكتابه أصح من الكتب المصنفة في
هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة
الثوري4 وابن اسحق ومعمر وابن جريح وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ولهذا
قال الشافعي ما بعج كتاب الله اصح من كتاب مالك فكتابه أصح عنده وعند من
يتبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "25".
2
الدارمي هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي أبو محمد
السمرقندي. الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو حاتم: إمام أهل زمانه. مات سنة
"255". له ترجمة في: تاريخ بغداد "10/29"، وشذرات الذهب "2/130"، والعبر
"2/8".
3 البلاغ: هي الأحاديث التي يقول فيها بلغني.
4 الثوري هو:
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، أحد الأعلام. قال شعبة
وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. مات سنة "161هـ". له ترجمة في:
تاريخ بغداد "9/151"، والعبر "1/235"، ووفيات الأعيان "1/210".
وأما
أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من
الأوصاف فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح1 وأما قول
مغلطاي إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجاب عنه الشيخ ابن الصلاح في التنبيه
السادس من الكلام على الحديث الحسن انتهى كلام ابن حجر.
قلت: يريد حيث
قال الشيخ ابن الصلاح2 كتب المسانيد غير ملحقة والكتب الخمسة التي هي
الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في
الاحتجاج بها والركون إلى ما ورد فيها مطلقا كمسند أبي داود الطيالسي ومسند
عبيد الله بن موسى ومسند اسحق ومسند عبد بن حميد ومسند الدرامي ومسند أبي
يعلي الموصولي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البزار أبي بكر وأشباهها فهذه
عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متفيدين بأن
يكون حديثا محتجا به أولا فلهذا أخرت مرتبتها وإن جلت لجلالة مؤلفيها عن
مرتبة الكتب الخمسة انتهى.
ثم قال الحافظ: وأما ما يتعلق بالدرامي
فتعقبه الشيخ زين الدين بأن فيه الضعيف والمنقطع لكن بقي مطالبة مغلطاي
بصحة دعواه أن جماعة أطلقوا على مسند الدرامي كونه صحيحا فأنى لم أر ذلك في
كلام أحد ممن يعتمد عليه.
ثم قال: كيف ولو أطلق عليه ذلك من يعتمد لكان
الواقع بخلافه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة
والموضوعة والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالا منه ومع ذلك كله
فلستأسلم أن الدارمي صنف كتابه قبل تصنيف البخاري الجامع لتعاصرهما ومن
ادعى عليه ذلك فعليه البيان. انتهى.
قلت: ومن ادعى تقدم تصنيف البخاري
على تصنيف الدارمي فعليه البيان أيضا وكأنه اغتر الحافظ العلائي3 بكلام
مغلطاي فإنه قال ينبغي أن يجعل مسند الدارمي سادسا للخمسة بدل ابن ماجة
فإنه قليل الرجال الضعفاء، ناذر الأحاديث المنكرة وإن كان فيه أحاديث مرسلة
وموقوفة فهو مع ذلك أولى من سنن ابن ماجه،
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "25".
2 علوم الحديث ص "56".
3
العلائي هو: الشيخ الإمام العلامة صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي
الشافعي. قال الذهبي: حافظ يستحضر الرجال والعلل، وتقدم في هذا الشأن.
"761", له ترجمة في: شذرات الذهب "6/190"، والنجوم الزاهرة "10/337".
إلى
آحر كلامه، ويحتمل أنه إنما أراد تفضيله على ابن ماجه بخصوصه وأن ابن ماجه
رجاله الضعفاء أكثر وأحاديثه الشاذة والمنكر غير نادرة.
إذا عرفت هذا
فعلى تحقيق الحافظ ينبغي أن يقال أول صنف في الصحيح المعتبر عند أئمة
الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف البخاري غير أن جواب الحافظ
لم يتضح به رد كلام مغلطاي كل الاتضاح كما لا يخفى.
"وكتابه" أي البخاري
"أصح من كتاب مسلم عند الجمهور وقال النووي إنه الصواب واختاره زين الدين
قالاهما" أي النووي والزين "وغيرهما" من أئمة الحديث "والمراد" بالحكم
بأصحية كتابه على مسلم أصحية "ما أسنده دون التعليق" يأتي تعريفه
"والتراجم" جمع ترجمة وهي عنوان الباب الذي تساق فيه الأحاديث ولا بد أن
تكون مناسبة لما يساق من الأحاديث قالوا وذلك لأن الصفات التي تدور عليها
الصحة في كتاب البخاري أثم منها في كتاب مسلم وشروطه فيها أقوى وأشد.
أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبتت له لقاء من روي عنه ولو مرة واكتفي مسلم بمطلق المعاصرة.
وأما
رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذي تكلم فيهم من رجال مسلم
أكثر عددا من الرجال البخاري فإن الذين انفرد بهم البخاري أربعمائة وخمسة
وثالثون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف ثمانون رجلا والذين تفرد بهم مسلم
ستمائة وعشرون رجلا المتكلم منهم فيه بالضعف مائة وستون رجلا على الضعف من
كتاب البخاري ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن
تكلم فيه ولأن الذين تفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج
أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها كنسخة عكرمة عن ابن
عباس بخلاف مسلم فقد أخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي
الزبيب عن جابر أتهيل عن أبيه عن أبي هريرة ونحوهم مع أن البخاري لم يكثر
من إخراج أحاديث من تكلم فيهم وغالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس
حديثهم ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيف ممن
تقدم عن عصرهم بخلاف مسلم في الأمرين فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه
ممن
تكلم فيه من المتقدمين وقد أخرج نسخهم كما قدمنا ذكره ثم إن من يخرج لهم
البخاري ممن تكلم فيه من المتقدمين يخرج أحاديثهم غالبا في الاستشهادات
والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول فأكثر من
يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم.
وأما رجحانه من حرث عدم
الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عدا مما انتقد
على مسلم فإن جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما مائتا بألف التثنية حديث
وعشرة اختص البخاري منها بأقل من ثمانين.
قلت: هذا كلام الحافظ هنا
وسيأتي نقل المصنف عنه أنه ذكر في مقدمة فتح الباري مما اعترض الحفاظ على
البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم
قال ويشتركان في اثنين وثلاثين وباقيها مختص بمسلم مع أنه قد اتفق العلماء
أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم وأعرف بصناعة الحديث منه وأن مسلما
تلميذه وخريجه ولم يستفد إلا منه وتتبع آثاره حتى لقد كان يقول الدار قطني1
لولا2 البخاري لما راح مسلم ولا جاء ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح في
أول صحيحه أن المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن
لم يثبت اجتماعهما. انتهى.
قلت: قال الملا على قاري فإن قلت: كيف يكفي
ذلك مع أن كتابه صحيح ولا بد فيه الاتصال قلت: لعله جاء هذا الحديث في
كتابه، متصلا في آخر أ و كان اتصاله بمن روى مشهورا فالمراد بمن روى عنه من
أدى عنه ظاهرا ولو كان بالواسطة وفيه أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف لفظيا
قال والصواب كون الخلاف حقيقيا. انتهى.
ـــــــــــــــــــ
1
الدارقطني هو: الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي
البغدادي. قال الخطيب: كان فريد عصره وإمام وقته، وانتهى إليه علم الأثر،
والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال. مات سنة "385هـ". له ترجمة في: البداية
والنهاية "11/317"، وتاريخ بغداد "12/34"، وشذرات الذهب "3/116".
2 لولا البخاري لما راح.... إلخ: قال بعضهم إنه كناية عن كونه عيلة على البخاري. "حاشية الأجهوري" ص "19".
قلت: ولم يدفع الأشكال.
ثم
قال الحافظ. والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة
واحدة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التاريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما
يرجح به كتابه لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن
شرط البخاري أوضح في الاتصال فبهذا تعلم أن شرطه في كتابه أقوى اتصالا
وأشد تحريا أفاد هذا الحافظ ابن حجر في مؤلفاته.
وأقول لا يخفي أن هذه
الوجوه أو أكثرها لا تدل على المدعي وهو أصحية البخري بل غايتها تدل على
صحته ثم إنه لا يخفي أيضا أن الشيخين اتفقا في أكثر الرواة وتفرد البخاري
بإخراج أحاديث جماعة وانفرد مسلم بجماعة كما أفاده ما سلف من كلام الحافظ
فهذه ثلاثة أقسام.
الأول: ما اتفقنا على إخراج حديثه فهما في هذا القسم
سواء لا فضل لأحدهما على الآخر لاتحاد رجال سند كل واحد منهما فيما رواه
والقول بأن هؤلاء أرجح إذا روي عنهم البخاري لا إذا روي عنهم مسلم عين
التحكم وهذا بناء على أن المراد بما اتفقا عليه الاتفاق على رجال الإسناد
جميعا لا يقال لا تحكم لأنه شرط البخاري اللقاء دون مسلم لأنا نقول الفرض
أنهم على شرط البخاري من حصول اللقاء لأنه روي عنهم ولا يروي إلا عمن وافق
شرطه ومعلوم أنهم قد صاروا على شرط مسلم بالأولى لأنه ثبت اللقاء فقد ثبتت
المعاصرة.
وإذا عرفت هذا فلا وجه للحكم بأصحية رواية البخاري فيما اتفق
هو ومسلم على إخراجه ورجاله إلا جاء التحكم المحض وهذا القسم هو أكثر
أقسامه قطعا وحينئذ فلا يصح الحكم على كتاب البخاري بالأصحية بالنسبة إلى
هذه الأحاديث وكيف يتم القول بأن كتاب البخاري أصح على هذا؟.
والقسم
الثاني: ما انفرد البخاري بإخراج أحاديثهم فهذا القسم ينبغي أن يقال أنه
أصح مما انفرد به مسلم لأنه حصل فيه شرائط البخاري منفردة وقد تقرر ببعض ما
ذكر من المرجحات أنه أقوى من شرائط مسلم في الصحة وحينئذ فيتعين أن يقال
ما في كتاب البخاري من الأحاديث التي انفرد بإخراجها أصح من التي انفرد
مسلم بإخراجها وهذا القسم قليل كما عرفت ولا بد من تقييد ذلك بغير من تكلم
فيهم وهذا التقسيم هو التحقيق وإن غفل عنه الأئمة السابقون فإن من المعلوم
يقينا أن
الصحة والأصحية ليستا بالنظر إلى ذات الشيخين بل بالنظر
إلى رجال كتابيهما ثم لا يخفي أيضا أن كون من تكلم فيهم من رجال البخاري
أقل ممن تكلم فيهم من رجال مسلم لا يقتضي أصحية أحاديث البخاري مطلقا غاية
ما يقتضيه أن الصحيح فيه أكثر وليس محل النزاع على أن في شرطه اللقاء ولو
مرة واحدة بحثا وهو أنه قد يكثر الشخص الحديث عمن لاقاه بحيث يعلم يقينا
أنه لا يتسع لأخذه عنه تلك الأحاديث في الموقف الذي انحصر فيه اللقاء فلابد
من تقييد ذلك بزيادة أن يتسع زمان اللقاء لكن ما عنه روي ثم رأيت بعد أيام
مسلما قد ألزم البخاري حيث شرط اللقاء بهذا الإلزام في مقدمة صحيحه ورأيت
الحافظ ابن حجر قد التزم هذا وقال يكفي اللقاء ولو مرة واحدة ولو كان بعض
ما يرويه عمن لاقاه لا يستحق سماعه منه وسيأتي لنا ولم يقيد كلام البخاري
بما قيدناه به من قولنا إن اتسع... إلى آخره.
وإذا عرفت هذا فقد عاد إلى
مجرد المعاصرة على أن المعاصرة لا تكفي مطلقا بأن يكون أحدهما في بغداد
والآخر في اليمن بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة إلا كان من
باب الإجازة والمكاتبة ولعلهم لا يكتفون به هنا.
واعلم أنا راجعنا مقدمة
مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاه
الراوي لمن عنعن عنه وأطال مسلم في رد كلامه والتهجين عليه ولم يصرح أنه
البخاري وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته ثم قال إن كل حديث فيه
فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون
الحديث الذي روي الراوي قد سمعه منه وشافهه به غير أنا لا نعلم له نه سماعا
ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث ثم قال إن
هذا هو القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما
وحديثا أ كل رجل ثقة روي عن مثله وجائز ممكن لقاءه والسماع منه لكونهما
كانا جميعا في عصر واحد ولم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام
فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة إلى آخر كلامه وقد نقلنا فيما يأتي في بحث
العنعنة.
إذا عرفت هذا عرفت أن الخلاف بين الشيخين في رواية العنعنة لا
غير وهو الذي أفاده الحافظ في قوله ومن مرجحات البخاري أن مسلما صرح إلى
آخره فشرط البخاري فيها اللقاء ومسلم المعاصرة وحينئذ فلا يرجح البخاري
برمته على مسلم برمته بهذا الشرط بل يقال عنضة البخاري أصح وأرجح من عنعنة
مسلم فالعجب كيف
يعده الحافظ من وجوه ترجيح البخاري مطلقا ثم قد ظهر المراد بالمعاصرة أنها التي يمكن معها السماع ولا يكفي مطلقها.
فإن قلت: إنما جعله ترجيحا للبخاري مطلقا لكون كل ما فيه من الأحاديث قد تم فيها شرطية اللقاء معنعنا وغيره.
قلت:
أما غير المعنعن وهو ما كان بنحو حدثنا فهو ومسلم سواء فيه فإنه لا يكون
إلا بالمشافهة إنما الخلاف في رواية متصلة عند مسلم وبه يتضح لك ضعف ما
قدمنا عن الملا على قاري سؤالا وجوابا وأنه بناه على عدم تحقيقه لمراد
مسلم.
ثم جعل الحافظ ابن حجر كون شيوخنا البخاري هم الذي تكلم فيهم وجها
مرجحا فيه تأمل لأنه قد يقال هم باب علمه وعنهم أخذ ومنهم استمد رواياته
وقد علل الحافظ ذلك بما سمعته فانظر فيه ثم لا يعزب عنك أن قولهم أصح
الحديث ما اتفق عليه الشيخان لا يوافق قولهم هنا إن أصح الكتابين كتاب
البخاري لأنهم قد جعلوا ما اتفقا عليه أصح أقسام الحديث وقد عرفت أن الذي
اتفقا عليه هو أكثر أقسام الكتابين ولم يتفقا عليه إلا بعد حصول شرائط
الرواية عندهما في روايته فهما مثلان في هذا كما أسلفنا فلا يتم القول بأن
كتاب البخاري أصح إلا باعتبار ما انفرد به وهو القليل الحقير ولا يحسن
إطلاق صفة الجزء على الكل في مقام التقعيد والتمهيد على أن استثناءهم
التعاليق والتراجم فقط من الحكم بالأصحية فاض بأن الحكم بها حكم على كل
حديث لا أنه كما تأولنا من وصف الكل بصفة الجزء وقد ألحقوا بذلك ما تكلم
فيه.
"ثم صحيح مسلم بعده" أي بعد صحيح البخاري فإن تعارضا قدم ما في
البخاري "وذهب بعض المغاربة" أي بعض علماء الغرب وسيأتي أنه ابن حزم1
"والحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري شيخ الحاكم" يريد أبا عبد الله
صحاب المستدرك "إلى تفضيل صحيح مسلم على البخاري" فقال أبو علي: ما تحت
أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث بهذا اللفظ نقله عنه زين الدين
والحافظ ابن حجر
ـــــــــــــــــــ
1 ابن حزم هو: الإمام العلامة
الحافظ الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد القرطبي الظاهري. كان صاحب
فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ. مات سنة "457". له ترجمة
في: شذرات الذهب "3/299"، والعبر "3/239"، ووفيات الأعيان "1/340".
"وحكاه"
أي تفضيل كتاب مسلم "القاضي عياض1 عن أبي مروان الطبني" بضم الطاء المهملة
وبعدها هاباء موحدة مشددة مضمومة وقبل ياء النسبة نون كذا ضبطه ابن
السمعاني وقيل بضم الطاء وسكون الموحدة حكاه ابن الأثير وغيره وهي بلدة
بالغرب ينسب إليها جماعة قاله البقاعي واسمه عبد الملك بن زياد "عن بعض
شيوخه" قال: كان من شيوخي من يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري وحكاه الخطيب
في تاريخ بغداد في ترجمة مسلم عن محمد بن اسحق عن ابن منده قال أيضا مما
تحت أديم السماء، أصح من كتاب مسلم في علوم الحديث وإليه ميل كلام القرطبي
في خطبة تلخيصه لمسلم ونقله عن جماعة وغزاه في اختصاره للبخاري إلى أكثر
المغاربة وعزا ترجيح البخاري إلى أكثر المشارقة ذكره الزركشي.
"وقال ابن
الصلاح" 2 بعد نقله لكلام أبي علي "فهذا" أي تفضيل صحيح مسلم "إن كان
المراد به أن كتاب مسلم يترجح أنه لم يمازجه غير الصحيح" قال ابن الصلاح:
فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غر ممزوج بمثل ما في كتاب
البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لا يسندها على الوجه المشروط في
الصحيح "فهذا لا بأس به" أي لا بأس في التفضيل لصحيح مسلم من هذه الجهة إلا
أنه معلوم أن عبارة أبي على لا تساعد هذا التوجيه كل المساعدة "وإن كان
المراد به" أي يقول أبى علي "أنه أصح كما هو المتبادر" من عبارته "فهذا
مردود" بما أسلفنا من مرجحات صحيح البخاري كما عرفت.
واعلم أن ظاهر كلام
ابن الصلاح وزين الدين والمصنف أن بعض المغاربة ومن ذكر معه ذهبوا إلى
تفضيل صحيح مسلم من حيث إنه أصح من صحيح البخاري فإن كان بعض المغاربة هو
أبو محمد بمحزم وبه جزم الحافظ ابن حجر فإنه قال بعد ذكر ابن الصلاح لبعض
المغاربة ما لفظه وقد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض
المغاربة فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن
حزم أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد
ـــــــــــــــــــ
1
القاضي عياض هو: ابن موسى بن عياض بن عمر اليحصبي السبتي، ولى قضاء سبتو
ثم غرناطة، وكان إمام أهل الحديث في وقته، وأعلم الناس بعلومه. مات سنة
"544". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/225"، والعبر "4/122"، ووفيات
الأيان "1/392".
2 علوم الحديث ص "26".
خطبته إلا الحديث المنفرد. انتهى.
قال الحافظ قلت: ما فضله به بعض المغاربة ليس راجعا إلى الأصحية بل هو لأمور:
أحدهما: ما تقدم عن ابن حزم.
الثاني:
أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص
على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران أحدهما أن البخاري صنف كتابه
في طول رحلته فقد روينا عنه أنه قال رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب
حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه
فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه ومسلم صنف كتابه في
بلده بحضور أصوله في حياة شيوخه وكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق.
والثالث:
أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا
اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك
الحكم الذي استنبط منه لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب
ومسلم لم يعتمد ذلك يسوق أحاديث الباب كلها سردا عطفا بعضها على بعض في
موضع واحد. انتهى.
وقلت: وبه تعرق أن بعض المغاربة هو أبو محمد بن حزم
وتعرف أنه لم يفضل صحيح مسلم من حيث الأصحية وتعرف أنه ما كان ينبغي لابن
الصلاح ومن تبعه جعل خلافه وخلاف أبى على النيسابوري واحدا وأنه من جهة
واحدة ثم لا يخفي أن ما قاله الزركشي فيما نقلناه عنه آنفا إن دائرة الخلاف
أوسع والذاهبون إلى ترجيح مسلم أكثر ممن ذكر.
وقال الحافظ: ما قاله أبو
علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري
وإنما نفى الأصحية عن غير كتاب مسلم عيه ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم
أصح من كتاب البخاري فيجوز أن يوجد ما يساويه فإذا كان كلام أبى على
محتملا لكل من الأمرين فجزم
ابن الصلاح أن أبا علي قال صحيح مسلم أصح من
صحيح البخاري غير صحيح وقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محيي الدين
النووي والقاضي بدر الدين ابن جماعة والشيخ تاج الدين
التبريزي وتبعهم جماعة وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه انتهى بمعناه.
قلت:
ولا يعزب عنك أن هذا التأويل الذي ذكره الحافظ خروج عن محل النزاع فإن
الدعوى بأن البخاري أصح الكتابين وهذا التأويل أفاد أنهما مثلان فما أتى
التأويل إلا بخلاف المدعي على أن قول القائل "ما تحت أديم السماء أعلم من
فلان" يفيد عرفا أنه أعلم الناس مطلقا وأنه لا يساويه أحد في ذلك وأما في
اللغة فيحتمل توجه النفي إلى الزيادة أعني زيادة إنسان عليه في العلم لا
نفي المساوي له فيه والحقيقة العرفية مقدمة سيما في مقام المدح والمبالغة
بقوله "تحت أديم السماء".
ثم رأيت بعد هذا أنه قال البقاعي الحق أن
الصيغة تارة تستعمل على مقتضى أصل اللغة فتنتفي الزيادة فقط وتارة على
مقتضى ما شاع من العرف فتنتفي المساواة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما
طلعت شمس ولا غربت على أفضل من أبي بكر" وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير
لكنه إنما سيق لإثبات أفضلية المذكور والسر في ذلك أن الغالب في كل اثنين
هو التفاضل دون التساوي فإذا نفى أفضلية أحدهما ثبتت أفضلية الآخر. انتهى.
"قال
زين الدين: وعلى كل حال" سواء قيل البخاري أصح أو مسلم "كتاباهما أصح كتب
الحديث" لأن من قال كتاب البخاري أصح قائل بأن بعده في الصحة كتاب مسلم ومن
قال إن كتاب مسلم أصح كتاب بعده كتاب البخاري فقد اتفق الكل على انهما أصح
كتب الحديث ولماصح أن الشافعي قال إن كتاب الموطأ أصح الكتب الحديثية قال
الزين "وأما قول الشافعي ما على وجه الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك
فذاك" قاله الشافعي "قبل وجود الكتابين" فكلامه صحيح نظرا إلى زمان تكلمه
وهذه الرواية أخرجها عن الشافعي أبو بكر بن محمد بن ابراهيم الصفار عن طريق
هرون بن سعيد الأيلي قال سمعت الشافعي يقول ما بعد كتاب الله أنفع من كتاب
مالك ذكره الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ ابن حجر: أول من صنف في العلم
وبوبه ابن جريح1 بمكة ومالك وابن أبي ذئب بالمدينة فإن ابن أبي ذئب موطأ
أكبر من موطأ مالك بأضعافه،
ـــــــــــــــــــ
1 ابن جريج هو: عبد
الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم أبو الوليد المكي، أحد الأعلام.
قال أحمد: إذا قال ابن جريج "قال" فاحذروه. مات سنة "150". له ترجمة في:
تاريخ بغداد "10/400"، والعبر "1/213"، وشذرات االذهب "1/226".
حتى
قبل لمالك: ما الفائدة في تصنيفك فقال ما كان لله بقي والأوزاعي بالشأم
والثوري بالكوفي وسعيد بن أبي عروبة والربيع ابن صبيح بالبصرة ومعمر
باليمين قال وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدري أيهم سبق.
مسألة5 [في
انحصار الصحيح]"عدم انحصار الصحيح في كتب الحديث قال زين الدين: عبد الرحيم
بن الحسين العراقي الشافعي" كان الأحسن ذكر اسمه ونسبه في أول ما نقل عنه
المصنف حيث قال قال ابن الصلاح:1 وزين الدين فالصحيح ما اتصل سنده إلخ "لم
يستوعب البخاري ومسلم كل الصحيح في كتابيهما" فعلى هذا كان الأحسن في
الترجمة أن يقول المصنف عدم انحصار الصحيح في كتابي البخاري ومسلم ليوافق
ما قاله الزين وكما يأتي من الكلام الدال على أن الخوض فيهما لا غير وعبارة
زين الدين في نظمه ولم يعماه إلخ أي لم يعم البخاري ومسلم كل الصحيح يريد
لم يستوعباه في كتابيهما وعبارة ابن الصلاح2 لم يستوعبا الصحيح في صحيحيها
ولا التزما ذلك ثم ذكر كلام البخاري ومسلم الآتي "ولم يلتزما ذلك" أي
استيعاب الحديث الصريح "وإلزام الدار قطني" هو أبو الحسن علي بن عمر الدار
قطني إمام كبير وحافظ شهير3 ذكرنا بعضا من أحواله في التنوير شرح الجامع
الصغير "وغيره" هو أبو ذر الهروي كما في شرح صحيح مسلم "إياهما" أي الشيخين
"بأحاديث" صحيحة لم يخرجاها ولا أحدهما ذكر الدار قطني وغيره أحاديث من
طرق صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا فيلزمها إخراجها
على مذهبهما "ليس بلازم" لهما "لعدم التزامهما" الاستيعاب.
"قال الحاكم" أبو عبد الله "في خطبة المستدرك" 4 بصيغة اسم المفعول هذا الجاري
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "26".
2 علوم الحديث ص "26".
3 سبقت ترجمته.
4 "3/41".
على
الألسنة ويصح على اسم الفاعل من باب عيشة راضية "ولم يحكما" أي الشيخين
"ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه انتهى" كلام الحاكم
ساقه الزين كالاستدلال على ما ادعاه من عدم استيعابهما ولكن لما كان الحاكم
لي بناقل عنهما فهو كالدعوى أيضا يحتاج إلى بينة.
قال الزين مستدلا
لدعواه ودعوى الحاكم "قال البخاري: ما أدخلت في كتابي الجامع" أي من
الأحاديث "إلا ما صح وتركت من الصحاح لحال الطول" فدلت عبارته أنه لم
يستوعب الصحيح وأن أحاديث جامعة صحيحة "وقال مسلم: ليس كل صحيح وضعته هنا"
أي في كتابه "إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه" لفظ ابن الصلاح1 قال مسلم ليس
كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا يعني في كتابه الصحيح إنما وضعته هاهنا ما
أجمعوا عليه إلى هنا عبارة مسلم كما نقلها ابن الصلاح ثم قال ابن الصلاح:
مفسرا لقول مسلم ما أجمعوا عليه "يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع
عليه وإن لم يوجد اجتماعها" أي شرائط الصحيح "في بعض أحاديث كتابه عند
بعضهم" أي لم يوجد عند بعض المجمعين من أئمة الحديث ولا يخفي أن كلام مسلم
لا يفيد ما قاله ابن الصلاح من قوله وإن لم يوجد اجتماعها إلخ بل كلام مسلم
أفاد أن جميع أحاديث كتابه مجمع على اجتماع شرائط الصحيح فيها فالأحسن أن
يقال يريد ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمع عليه بحسب نظره واطلاعه وإن
خالفه البعض في بعضها "قاله" أي هذا التأويل لكلام مسلم "ابن الصلاح" أي
لا ما سلف من قول المصنف قال زين الدين: عبد الرحيم إلى هنا فإنه كلام ابن
الصلاح.
تنبيه: إن قيل ما وجه التعرض لكون الشيخين لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما ومن ادعى ذلك حتى يفتقر إلى نفيه.
قلت:
ادعاه الدار قطني عليهما وغيره كما عرفت وكأنه فهم هو ومن تابعه من
التسمية بالصحيح أنه جميع ما صح وما عبداه حسن أو ضعيف فيفيد أنهما قد حصرا
الصحيح وهو من باب مفهوم اللقب بعد التسمية به وإن كان قبلها من باب مفهوم
الصفة وفهم ذلك الحافظ أبو زرعة فإنه ذكر النووي عنه أنه قال طرق يريد
مسلما-
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "26".
لأهل البدع
علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في الصحيح
قال سعيد بن عمرو راوي ذلك عن أبي زرعة فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم
إنكار أبي زرعة فقال مسلم إنما قلت: هو صحيح قال سعيد وقدم مسلم بعد ذلك
الري فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن واره فجاءه وعاتبه
على هذا الكتاب وقال له نحوا مما قال أبو زرعة إن هذا يطرق لأهل البدع
فاعتذر مسلم فقال إنما قلت: هو صحيح ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث فهو
ضعيف ذكر هذا النووي في شرح مقدمة مسلم مفرقا.
قلت: قد اتفق ما حدسه أبو
زرعة من ذلك التطريق فإنه ذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة المستدرك ما
لفظه1: إنه صنف الشيخان في صحيح الأخبار كتابين مهذبين انتشر ذكرهما في
الأقطار ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه وقد
نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يسمون برواة الآثار بأن جميع ما صح
عندهم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه المسانيد المجموعة المشتملة
على ألف جزء أو أكثر كلها سقيمة أو غير صحيحة فهذا هو الذي حدسه أبو زرعة
وغيره قد وقع وفي قوله عشرة آلاف إشعار بعدة أحاديث الصحيحين فكأن هذا هو
من الحوامل لأهل الحديث على التعرض لذكر أن الشيخين لم يستوعبا الصحيح في
كتابيهما أما البخاري فقوله "أحفظ مائة ألف حديث صحيح"2 وكون الذي أخرجه في
كتابه لا يبلغ عشر ما ذكره صريح في أنه لم يستوعب الصحيح.
إن قلت: قول
الحاكم في مواضع من المستدرك في الحديث على شرطهما ولم يخرجاه يشعر بخلاف
ما نقله عنه في الخطبة وإلا فلا فائدة لقوله ولم يخرجاه.
قلت: لعله لم
يسق قوله ولم يخرجاه مساق الاعتراض عليهما بأنهما لم يخرجاه بل ذكر ذلك
إخبارا بأنهما لم يخرجا كل ما كان على شرطهما فهو كالاستدلال لما قاله في
خطبته من أنهما لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك.
وقد جرأ على هذا
الوهم أعني أنهما حصرا الصحيح السيد على بن محمد بن أبي القاسم في ترسله
على المصنف بالرسالة التي رد عليها بالعواصم فإنه قال وقد تعرضوا لحصر
الصحيح فما لم يذكره غير صحيح عندهم ولكنه زعم أنهم قالوا إنما
ـــــــــــــــــــ
1 "1/41".
2 علوم الحديث ص "16"، وسير أعلام النبلاء "12/415".
الصحيح محصور في الكتب الستة فزاد إلى الوهم الأصلي وهمين طارئين وقد بين المصنف الرد عليه في العواصم بما يفيده ما ذكرناه.
"وقال
النووي في شرح مسلم ما معناه إنه وقع اختلاف بين الحافظ في بعض أحاديث
البخاري ومسلم فهي مستثناة من دعوى الإجماع على صحة حديثهما" كأن المصنف
نقل كلام النووي إيضاحا لكلام ابن الصلاح حيث قال وإن لم يوجد اجتماعها في
بعض أحاديث كتابه عند بعضهم.
ومن هنا تعلم أنه كان ينبغي للزين أن يزيد
فيما سلف في آخر المسألة الأولى حيث قال والمراد ما أسنداه دون التعاليق
والتراجم قيدا وهو دون الأحاديث التي اختلف فيها وهذا الذي نسبه المصنف إلى
النووي نقله النووي عن ابن الصلاح فإنه قال في أثناء كلام نقله عنه فإذا
علم هذا فما أخذ البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما
ذكرناه لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول وما ذاك إلا في مواضع قليلة سننبه
على ما وقع في هذا الكتاب منها إن شاء الله تعالى هذا آخر ما ذكره الشيخ
أبو عمرو فالكلام لابن الصلاح نقله النووي.
واعلم أن هذا كلام كان يحسن
تأخيره إلى مسألة حكم الصحيحين وذكر تلقي الأمة بالقبول لهما فإن هذا
الاستثناء إنما هو مما تلقته الأمة بالقبول والإجماع ولم يسبق له هنا ذكر
سوى قوله وكتاباهما أصح كتب الحديث وسيأتي مستوفى أن شاء الله تعالى عند
ذكر المصنف له.
"وقد ذكر" أي النووي "الجواب على من خالف في صحة تلك
الأحاديث النادرة" قال النووي وقد أحببت عن كل ذلك أو أكثره وستراه في
مواضعه إن شاء الله تعالى ذكره في شرح مسلم بعد ذكره للأحاديث التي انتقدها
الدار قطني وأبو مسعود الدمشقي على الشيخين وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى
عند كلام المصنف على حكم الصحيحين.
"قال زين الدين: وذكر الحافظ أبو عبد
الله محمد بن يعقوب بن الأخرم" بالخاء المعجمة والراء المهملة الشيباني
المعروف أبوه بابن الكرماني ويقال له أيضا الأخرم إجراء للقب أبيه عليه كان
صدر أهل الحديث بنيسابور قال لعبد الغفار الفارسي هو الفاضل في الحفظ
والفهم صنف على الكتابين البخاري ومسلم وكان ابن خزيمة يراجعه في مهمة توفي
سنة أربع وأربعين وثلاثمائة "شيخ الحاكم كلاما معناه قلما
يفوت
البخاري ومسلما ما ثبت من الحديث قال ابن الصلاح" بعد نقله لكلام ابن
الأخرم "يعني" ابن الأخرم "في كتابيهما" لكنه قال ابن الصلاح: بعد هذا
ولقائل أن يقول ليس ذلك بالقليل فإن المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد
الله كتاب كبير يشتمل على شيء كثير وإن يكن في بعضه مقال فإنه يصفو له منه
صحيح كثير.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي من كلامه أعني ابن الأخرم
أنه غير مريد للكاتبين وإنما أراد مدح الرجلين بكثرة الاطلاع والمعرفة لكن
لما كان غير لائق يوصف أحد من الأمة بأنه جمع الحديث جميعه حفظا وإتقانا
حتى ذكر عن الشافعي أنه قال: "من قال إن السنة كلها اجتمعت عند رجل واحد
فسق ومن قال إن شيئا منها فات الأمة فسق" فحينئذ عبر عما أراده من المدح
بقوله فلما يفوتهما منه أي قل حديث يفوت البخاري ومسلما معرفة أو نقول
سلمنا أن المراد الكتابان لكن المراد من قوله مما ثبت من الحديث الثبوت على
شرطهما لا مطلقا.
"قال النووي في التقريب والتيسير1: والصواب أنه لم
يفت الأصول الخمسة إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي
والنسائي" وقد ألحق بها عوضا عنه سنن ابن ماجة وعلى هذا بني الحافظ المزي2
في تهذيب الكمال ومن تبعه من مختصري كتابه كالحافظ ابن حجر الخزرجي.
"قال
زين الدين العراقي: وفي كلام النووي ما فيه لقول البخاري أحفظ مائة ألف
حديث صحيح" تمام حكاية البخاري ومائتي ألف حديث غير صحيح فإنه دال على كثرة
ما فات الكتابين من الصحيح كما ستعرفه من عدد أحاديثهما فيما يأتي قريبا
فلا يتم لابن الأخرم ما ادعاه وعلى كثرة ما فات غيرهما من الثلاثة أيضا فلا
يتم ما ادعاه النووي أيضا.
ـــــــــــــــــــ
1 "1/99" مع شرحه "تدريب الراوي".
2
المزّي هو: الإمام العالم الحبر محدث الشام جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن
عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الشافعي. رحل وسمع الكثير، وهو حامل
لواء معرفة الرجال، لم تر العيون مثله. مات سنة "742". له ترجمة في: تذكرة
الحفاظ "4/1498"، وشذرات الذهب "6/136"، والنجوم الزاهرة "10/76".
قال الحافظ ابن حجر: مراده أي النووي من أحاديث الأحكام خاصة أما غير الأحكام فليس بقليل.
قلت: فلا يرد ما أورده عليه الزين.
"قال
النووي: ولعل البخاري أراد" بقوله "مائة ألف حديث صحيح"، "والأحاديث
المكررة الأسانيد يعني المختلفة" أي التي اختلفت أسانيدها واتحد متنها كما
سنعرف قريبا "والموقوفات على الصحابة" والتابعين فإنه قد يطلق عليه لفظ
الحديث كما يدل له قوله "وقال ابن الصلاح بعد حكاية كلام البخاري إلا أن
هذه العبارة" يعني قوله مائة ألف حديث صحيح "قد يتدرج تحتها عندهم" أي عند
أئمة هذا الشأن "آثار الصحابة والتابعين" قال ابن الصلاح1: "وربما عد
الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين" باعتبار إسناديه.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "27".
مسألة
6 [في عدد أحاديث الصحيحين]"عدد أحاديث البخاري ومسلم" كأن الباعث على ذكر
عدة أحاديث الكتابين ما سبق ذكره عن الحافظ ابن الأخرم وما نقل عن عدد ما
يحفظه البخاري.
"قال الشيخ زين الدين بن العراقي1: عدد أحاديث البخاري
بإسقاط المكرر" أي من المتون "أربعة آلاف حديث على ما قيل" هكذا نقله ابن
الصلاح بصيغة التمريض "وعدد أحاديثه بالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة
وسبعون حديثا وكذا جزم ابن الصلاح" لكن قد عرفت أنه جعل عادة ما ليس مكرر
رواية على غيره بصيغة التمريض فيحمل كلام الزين على جزم ابن الصلاح بالعدد
الذي فهي المكرر فإنه جزم به ولم ينسبه لأحد وذكر المصنف في العواصم أن
صحيحه يعني البخاري لا يشتمل إلا على قدر أربعة آلاف حديث من غير المكرر
وكأنه يريد في عبارة العواصم أن عدة ذلك بالمكرر وإن خالف ما سلف من أن
عدده سبعة آلاف وكسور.
قال الزين: "وهو" أي ما قاله ابن الصلاح في عدة
أحاديث البخاري "مسلم" أي في عدته بالمكرر أو في عدته بغير المكرر يحتمل
"في رواية الفريري" 2 فرير كسبحل قرية ببخارى كذا في القاموس وهو محمد بن
يوسف أحد رواة صحيح البخاري بل عمدتهم "وأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها"
أي دون رواية الفريري "بمائتي حديث ودون هذه" أي رواية حماد بن شاكر
"بمائة حديث رواية ابراهيم بن معقل" بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف
ونقل المصنف هذا الكلام الذي ذكره زين الدين في
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث "1/18".
2 الفربري: بفتح الفاء والراء وسكون الباء الموحدة وبعدها راء أخرى. وهي بلدة على طرف "جيحون" مما يلي بخارى. "الأنساب"، "4/359".
"الروض
الباسم" بلفظه وظاهر عبارته أن رواية ابراهيم بن معقل تنقص عن رواية
الفريري ثلثمائة حديث وظاهره أيضا أن هذا نقص في روايتهما ونسخهما.
قال
الحافظ ابن حجر، بعد نقله لكلام شيخة زين الدين ما لفظه: وظاهر هذا أن
النقص في هاتين الروايتين وقع من أصل التصنيف أو مفرقا من أسانيد فإنه
اعترض على ابن الصلاح في إطلاقه هذه المدة من غير تمييز قاعدة وليس كذلك بل
كتاب البخاري في جميع روايات الثلاثة في العدد سواء وإنما حصل الاشتباه من
جهة أن حماة بن شاكر وابراهيم بن معقل لما سمعا الصحيح على البخاري فإنهما
من أواخر الكتاب شيء فروياه بالإجازة عنه وقدينه على ذلك أبو نصر ابن طاهر
وكذا نبه الحافظ أبو على الجياني في كتاب المهمل على ما يتعلق بابراهيم بن
معقل فروي بسند إليه قال وأما من أول كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب فأجازه
لي البخاري قال أبو على الخياني وكذا فإنه من حديث عائشة رضي الله عنها في
قصة الإفك في باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللَّهِ} [الفتح: 15]... إلى آخر الباب وأما حماد بن شاكر ففاته من أثناء
كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب.
فتبين أن النقص في رواية حماد بن شاكر
وابراهيم بن معقل إنما حصل من طريان القوت لا من أصل التصنيف وظهر أن العدة
في الروايات كلها سواء وغايته أن الكتاب جميعه عند الفريري بالسماع وعند
هذين بعضه بسماع وبعضه بإجازة والعدة عند الجميع في أصل التصنيف سواء فلا
اعتراض على ابن الصلاح في شيء مما أطلقه. انتهى بلفظه.
ثم قال زين
الدين: "ولم يذكر ابن الصلاح عدة أحاديث مسلم" هذا كلام الزين في شرح
ألفيته وقال فيما كتبه إلى ابن الصلاح ما لفظه ولم يذكر ابن الصلاح عدة
أحاديث كتاب مسلم بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري بكثرة طرقه
انتهى1.
"وقال النووي" قي التقريب والتيسير "إنه نحو أربعة آلاف بإسقاط
المكرر" قال الحافظ ابن حجر ذكر الشيخ في شرح الألفية من أحمد بن سلمة أن
عدة كتاب مسلم بالمكرر اثنا عشرة ألف حديث وعن الشيخ محي الدين النووي أن
عدته بغير المكرر نحو أربعة آلاف2. اهـ.
ـــــــــــــــــــ
1 التقييد والإيضاح ص "27".
2 التقييد والإيضاح ص "27"، وتدريب الراوي "1/104".
قلت:
لم نجد في شرح الألفية الرواية التي ذكرها الحافظ عن أحمد بن سلمة وليس
فيه إلا كلام النووي الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى ولعله في الشرح
الكبير.
ثم قال الحافظ: وعندي في هذا نظر وإنما لم يتعرض المؤلف يريد
ابن الصلاح لذلك أي لعدة ما في صحيح مسلم لأنه لم يقصد ذكر عدة ما في
البخاري حتى يستدرك عليه عدة ما في كتاب مسلم بل السبب لذكر المؤلف عدة ما
في أنه جعله من جملة البحث في أن الصحيح الذي ليس في الصحيحين غير قليل
خلاف لقول ابن الأخرم لأن المؤلف رتب بحثه على مقدمتين إحداهما أن البخاري
قال أحفظ مائة ألف حديث صحيح والأخرى أن جملة ما في كتابه بالمكرر سبعة
آلاف حديث ومائتان وخمسة وسبعون حديثا فينتج أن الذي لم يخرجه البخاري من
الصحيح أكثر من الذي خرجه. انتهى.
قلت: لا يخفى أن ابن الأخرم جعل دعواه
متعلقة بالصحيحين معا وأنه لم يفت مؤلفيهما إلا القليل مما ثبت من الحديث
والجواب أن دعواه لا تتم إلا ببيان عدة أحاديث الكتابين ونسبة تلك العدة
إلى الأحاديث الصحيحة مطلقا ليتبين أن ما فاتهما أكثر مما جعله فلا يتم
دعواه وأما الاقتصار في الجواب عليه بأن عدة البخاري كذا والذي يحفظه
البخاري كذا فيتم في البخاري ولكنه يقول الدعوى أنه لم يفت الكتابين إلا
القليل واقتصرتم في الجواب على أحدهما دون الآخر فلابد من ذكر عدة أحاديث
مسلم ليتم الجواب فنظر الزين وأراد على ابن الصلاح ودفع الحافظ غير واف
بالمراد.
نعم لك أن تقول إنما لم يذكر عدة مسلم لأنه ليس إلا رد قول ابن
الأخرم إن الفائت مما جمعه الشيخان من الصحيح قليل فإنه إذا كان البخاري
يحفظه منه مائة ألف حديث صحيح وكتابه حوى سبعة آلاف وكسورا وهب أن مسلما
حوى عشرين ألف حديث ولم يحوها قطعا فالفائت من الصحيح على الصحيحين زيادة
على سبعين ألف حديث فكيف إذا انضم إلى الصحيح ما يحفظه مسلم مما لم يحوه
كتابه وبهذا يتحصل عدم صحة ما قاله ابن الأخرم.
"وذكر الحافظ ابن حجر في
مقدمة شرحه لصحيح البخاري أنه ترك التقليد في عدة أحاديث البخاري" أي ترك
التقليد للقائلين إن عدته ما ذكر ولا يخفي أن قبول رواية
المذكورين
لعدة أحاديث البخاري ليس من باب التقليد بل من باب قبول رواية العدل وليس
من التقليد كما عرف في الأصول ويأتي للمصنف ذلك فالأولى أن يقول إنه اختبر
ما قاله لما دون فوجدهم واهمين فإن الوهم جائز على العدل كما علمت ونقل عنه
البقاعي أنه قال يعني ابن حجر أنه لما شرع في مقدمة شرح البخاري قلد
الحموي1 يريد في عدة أحاديث البخاري إلى كتاب السلم فوجدته قال إن فيه
ثلاثين حديثا أو نحو الشك مني قال فاستكثرتها بالنسبة إلى الباب فعددتها
فوجدتها قد نقصت كثيرا فرجعت عن تقليده وعددت محررا بحسب طاقتي فبلغت
أحاديث بالمكرر سوى المعلقات سبعة آلاف وثلثمائة وسبعة وتسعين حديثا إلى
آخر ما قاله المصنف "وحرز ذلك بنفسه فزاد على ما ذكروه مائة حديث واثنان
وعشرون حديثا والجملة عنده بالمكرر من غير المعلقات والمتابعات سبعة آلاف
وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثا".
واعلم أن معرفة عدة أحاديث الصحيحين
ليست من علوم الحديث وقواعده ولكن دعا إلى ذكرها ما عرفته من كلام ابن
الأخرم وزاد الحافظ عدد المعلقات "قال: وجملة ما فيه من التعاليق ألف
ثلثمائة وأحج وأربعون حديثا أكثرها مكرر مخرج في صحيح البخاري يعني في
مواضع أخر" لفظ ابن حجر في المقدمة مخرج في الكتاب أصول متونه فتسمية ما
ذكره تعليقا بالنسبة إلى ذكره له غير مخرج لا بالنسبة إلى ما ذكره له غير
مخرج لا بالنسبة إلى ما ذكره له مخرجا فإن المخرج منها وهو الموصول داخل في
عدة أحاديثه المخرجة.
"قال" ابن حجر "وليس فيه" أي في المعلق أو في
البخاري "من المتون" المعلقة "التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا
مائة وستون حديثا" فهذه في الحقيقة هي المعلقات لا غير لعدم تخريج البخاري
لها.
"قال" ابن حجر "وقد أفردتها في كتاب لطيف" هو المسمى بتغليق
التعليق "متصلة الأسانيد إلى من علقت عنه" فعلى هذا لم يبق في البخاري حديث
معلق في نفيس الأمر بل كلها متصلة ثم قال ابن حجر وجملة ما فيه من
المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلثمائة وأربعة وأربعون حديثا
فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر سبعة آلاف حديث واثنان وثمانون حديثا
وهذه العدة خارجة عن الموقوفات على
ـــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل "الحموي"، وهو تصحيف، وصوابه "الحمويي".
الصحابة والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم، وقد استوعبت أصل جميع ذلك في كتابي تغليق التعليق. انتهى.
"قال"
ابن حجر "وهذا تحرير بالغ لم أسبق إليه" فإنه لم يتعرض من تقدم لعد
المعلقات ولا لعد ما لم يخرج منها قال: "وأنا مقر بعدم العصمة من السهو
والخطأ".
وأما عدة طرق الصحيحين فذكر الحافظ ابن حجر عن الحافظ الجوزقي
أنه قال في كتابه المسمى بالمتفق أنه استخرج على جميع ما في الصحيحين حديثا
حديثا فكان مجموع ذلك خمسة وعشرون ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقا وأما
ما اتفق الشيخان على إخراجه من المتون فذكر الجوزقي أن حملة ما اتفق
الشيخان على إخراجه من المتون في كتابيهما ألفان وثلثمائة وستة وعشرون
حديثا.
تنبيه: قال الزركشي إن عدة أحاديث أبي داود أربعة آلاف وثمانمائة
حديث قال ابن داسة سمعت أبا داود يقول كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:
خمسمائة ألف حديث انتخبت منها هذه السنن فيها أربعة آلاف وثمانمائة
المراسيل نحو ستمائة حديث قال أبو داود لم أصنف فيه كتب الزهد ولا فضائل
الأعمال وهي أحاديث صحاح كثيرة وعنه ما في كتاب السنن حديث إلا وقد عرضته
على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
وأما كتاب ابن ماجه فقال أبو الحسن بن القطان صاحبه عدته أربعة آلاف حديث.
وأما أحاديث الترمذي والنسائي فلم أر من عدهما.
وأما
الموطأ فقال أبو بكر الأبهري جملة ما فيه من الآثار عن النبي صلى الله
عليه وسلم: وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا المسند منها
ستمائة حديث والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا والموقوف ستمائة وثلاث عشر
حديث ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون وذكر الكيا الهراسي في تعليقه
في الأصول أن موطأ مالك كان اشتمل على تسعة آلاف حديث ثم لم يزال ينتفي
حتى رجع إلى سبعمائة.
فائدة: ذكرها الحافظ ابن حجر عن أبي جعفر محمد بن
الحسين البغدادي أنه قال يف كتاب التمييز له عن النووي وشعبة ويحيى بن سعيد
القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل أن جملة الأحاديث المسندة عن النبي صلى
الله عليه وسلم: يعني الصحيحة بلا تكرر أربعة
آلاف وأربعمائة حديث
وعن اسحق بن راهوية أنه سبعة آلاف ونيف وقال أحمد بن حنبل وسمعت ابن مهدي
يقول الحلال والحرام من ذلك ثمانمائة وكذا قال اسحق بن راهويه عن يحيى بن
سعيد وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أن الذي في الصحيحين من أحاديث الأحكام
نحو ألفي حديث وقال أبو بكر السختياني عن ابن المارك تسعمائة وقال الحافظ
ومرادهم بهذه العدة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أقواله الصريحة
في الحلال والحرام وقال كل منهم بحسب ما وصل أليه ولهذا اختلفوا. والله
أعلم.
مسألة 7 [في بيان الصحيح الزائد على ما في البخاري ومسلم]"الصحيح
الزائد على الصحيحين" أي هذا بحث الحديث الصحيح الذي لم يرو في الصحيحين
وهو كالتتمة لكون الشيخين لم يستوعبا الصحيح كأنه قيل من أين يعرف الصحيح
الزائد على ما فيهما.
"قال زين الدين: مما معناه ما نص على صحته إمام
معتمد كأبي داود والنسائي والدار قطن ي والخطابي والبيهقي في مصنفاتهم
المعتمدة فهو صحيح كذا قيده ابن الصلاح بمصنفاتهم1" إلا أن ابن الصلاح لم
يذكر البيهقي والخطابي وذكر أبا بكر بن خزيمة2 ثم قال وغيرهم "ولم أقيده
بها" يريد زين الدين إنه لم يقيد حيث قال ما نص على صحته ولم يقل في كتابه
"بل إذا صح الطريق إليهم أنهم صححوا ولو في غير مصنفاتهم" لأن العلة
الموجبة لاتصافه بالصحة إخبارهم بأنه صحيح سواء ثبت في تصنيف لهم أو غيره
"أو صححه من لم يشتهر له تصنيف من الأئمة كيحيى بن سعيد القطان ويحيى بن
معين ونحوهما فالحكم كذلك على الصواب" لأن الصحيح إخبار من العدل الثقة
بأنه وجد في الحديث شرائط الصحة وإخباره بهذا مقبول لأنه من باب خير الآحاد
وقد برهن في الأصول على قبوله فإذا ثبت له عنه فسواء كان له مؤلف أم لا
وإذا ليس ذلك من شرائط أخبار الآحاد قال زين الدين "وإنما قيده" أي ابن
الصلاح "بالمصنفات لأنه ذهب إلى أنه ليس لأحد في هذه الأعصار أن يصحح
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "27- 28".
2
أبو بكر بن خزيمة هو: إمام الأئمة شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن إسحاق بن
خزيمة السلمي النيسابوري. قال ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن
صناعة السنن ويحفظ ألفاظها كأن السنن نصب عينيه إلا ابن خزيمة فقط. مات سنة
"311". له ترجمة في: البداية والنهاية "11/149"، وشذرات الذهب "2/262"،
والعبر "2/149".
الأحاديث" هذا محل تأمل لأنه إذا قال ابن الصلاح:
لا يصح لأحد في هذه الأعصار أن يصحح1 وإنما التصحيح مقصور على من تقدم عصره
فمن تقدم عصره إذا صحت الطريق إليه بأنه قال هذا الحديث صحيح مثلا فقد حصل
ما يريده ابن الصلاح من أنه صححه من تقدم فاشتراط أن يذكر ذلك التصحيح في
تأليف له لا يلزم من القول بأنه لا يصحح أهل عصره وهو واضح فما أظنه ذكر
المصنفات قيدا للاحتراز بل قيد واقعي مبني على الأغلب بأن من صحح الأحاديث
يصححها من مؤلفات له "فلهذا لم يعتمد" يعني ابن الصلاح "على صحة السند إلى
من صحح الحديث من غير تصنيف مشهور" هكذا نسخة المصنف من غير ونسخة الزين في
شرحه في غير وهي أولى لأن شرط ابن الصلاح أين يصحح في تصنيف لا أنه يصححه
ذو تصنيف ولو في غير مصنفه ثم وجدنا في نسخة من التنقيح كعبارة ابن الصلاح
"وسيأتي كلامه في ذلك" ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قلت: وسيأتي أيضا ذكر من خالفه أي ابن الصلاح في زعمه أنه ليس للمتأخرين التصحيح "ورد عليه" دعواه.
"قال
زين الدين: ويؤخذ الصحيح أيضا" أي كما يؤخذ مما نقض على صحته إمام معتمد
يؤخذ "من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط" أي من الصفات التي لم يخلط
فيها الصحيح بغيره كسنن أبي داود مثلا ولذا قال ابن الصلاح: ولا يكفي في
ذلك أي في صحة الحديث مجرد كونه موجودا في سنن أبي داود والترمذي وكتاب
النسائي وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره ويكفي كونه موجودا في كتب
من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه "كصحيح أبي بكر محمد بن خزيمة وصحيح أب
حاتم محمد بن حبان البستي المسمى بالتقاسيم والأنواع2" قال ابن النحوي في
البدر المنير غالب صحيح ابن حبان منتزع من صحيح شيخه إمام الأئمة محمد بن
حزيمة إلا أنه قال ابن الصلاح: صحيح ابن حبان يقارب مستدرك الحاكم في حكمه
ونقل ابن حجر الهيتيمي في فهرسته أنه قال الحاكم: إن ابن حبان ربما يخرج عن
مجهولين لا سيما ومذهبه إدراج الحسن في الصحيح إلى آخر كلامه ونقل العماد
ابن كثير3
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص "29".
2 فتح المغيث "1/19".
3 العماد ابن كثير هو: الإمام المحدث الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير=
أيضا
أن ابن الحبان وابن خزيمة التزما الصحة وهما خير من المستدرك بكثير وأنظف
إسنادا ومتونا1 وعلى كل حال فلا بد للمتأهل من الاجتهاد والنظر ولا يقلد
هؤلاء ومن نحا نحوهم فكم حكم ابن خزيمة بالصحة لما لا يرتقي عن رتبة الحسن
بل فيما صححه الترمذي من ذلك حملة مع أنه يرفرق الحسن والصحيح. انتهى.
قلت:
فلا تأخذ ما قاله المصنف والزين وغيرهما مما ذكروه حكما كليا "وكتاب
المستدرك2 على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم على تساهل فيه" أي التصحيح
"قال ابن الصلاح: ما انفرد الحاكم بتصحيحه لا بتخريجه فقط إن لم يكن من
قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يعمل به إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه" لفظ
ابن الصلاح اعتني الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث
الصحيح على ما في الصحيحين وجمع ذلك في كتاب سماه المستدرك أودعه ما ليس في
واحد من الصحيحين مما رواه على شرط قد أخرجا على رواته في كتابيهما أو على
شرط البخاري وحده أو على شرط مسلم وحده وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم
يكن على شرط واحد منهما وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به
فالأولى أن يتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من
الأئمة وإن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن3. انتهى.
وقد عرفت
أن حكم صحيح ابن حبان حكم المستدرك كما قاله ابن الصلاح إلا أنه قال الزين
إنه قال الحازمي4 إن ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم.
ـــــــــــــــــــ
=
ابن ضوء القيس البصرواي. قال الذهبي: الأمام المفتي المحدث، ثقة متفنن،
محدث متقن. مات سنة "774". له ترجمة في: شذرات الذهب "6/231"، والنجوم
الزاهرة "11/123"، وإنباه الغمر "1/39".
1 اختصار علوم الحديث ص "21- 22".
2
المستدرك: معنى "الاستدراك" هو أن يتتبع إمام من الأئمة إماما آخرا في
أحاديث فتته ولم يذكرها في كتابه، وهي على شرطه أخرج عن رواتها في كتابه
فيحصى المستدرك- بكسر الراء- هذه الأحاديث المتروكة، ويذكرها في كتاب يسمى
"المستدرك- بفتح الراء - غالبا أوما في هذه المعنى. "الوسيط" ص "239".
3 علوم الحديث ص "29".
4
الحازمي هو: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم
الهمداني. قال ابن النجار: كان من الأئمة الحفاظ. العالمين بقفه الحديث
ومعانيه، ثقة نبيلا حجة زاهدا. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/332"،
وشذرات الذهب "4/282"، ووفيات الأعيان "1/488".
"قال" زين الدين
"ابن العراقي: الحكم عليه بالحسن تحكم" أي قول بأحد المحتملات بلا دليل
"والحق أن ما انفرد بتصحيحه تتبع بالكشف عنه" بالنظر في رجال إسناده "ويحكم
عليه بما يليق بحاله" المأخوذ من صفات رواته "من الصحة أو الحسن أو الضعيف
ولكن ابن الصلاح رأيه أنه ليس لأحد أن يصحح في هذه الأعصار فلهذا قطع
النظر عن الكشف عليه" ويأتي الكلام في ذلك.
"قلت: قد كشف عنه" الحافظ
أبو عبد الله "الذهبي ويبنه في كتاب تلخيص المستدرك وذكر أن فيه قدر النصف
صحيحا على شرط الشيخين كما ادعاه الحاكم وقدر الربع صحيح لا على شرطهما"
وهو الذي اجتهد في تصحيحه برأيه "وقدر الربع مما يعترض عليه في تصحيحه".
قلت:
وفي النبلاء للذهبي ما لفظه في المستدرك شيء كثير على شرطيهما وشيء كثير
على شرط أحدهما ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل فإن في ذلك أحاديث في
الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما في الباطن لها علل ككثيرة مؤثرة وقطعة من
الكتاب أسانيدها صالح وحسن وجيد وذلك نحو ربعه وباقي الكتاب مناكير وعجائب
وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها. اهـ.
وفيه مخالفة
لكلام المصنف وفيه إنصاف يخالف ما حكاه الذهبي عن أبي سعيد الماليني أنه
قال طالعت المستدرك الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فم أر فيه حديثا على
شرطهما قال الذهبي1: هذا غلو وإسراف منه وإلا ففي المستدرك حملة وافرة على
شرطهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما وهو قدر النصف وفيه الربع مما صح سنده
أو حسن وفيه بعض العلل وباقية مناكير واهيات وفي بعضها موضوعات قد أفردتها
في جزء2. اهـ.
وللحافظ ابن حجر تفصيل وتقسيم لأحاديث المستدرك يطول ذكره من أخب راجعه في نكته على ابن الصلاح.
"قلت: ولعل عذره" أي الحاكم "في تصحيحه" لما ليس بصحيح عند أئمة الحديث
ـــــــــــــــــــ
1
الذهبي هو: الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان
التركماني ثم الدمشقي. له مصنفات كثيؤة منها "تاريخ الإسلام" و "سير أعلام
النبلاء". مات سنة "749". له ترجمة في: طبقات الشافعية الكبرى "9/109-
111".
2 تدريب الراوي "1/106".
"أنه لم يلتزم قواعد أهل الحديث
وصحح على قواعد كثير من الفقهاء وأهل الأصول فاتسع في ذلك ونسب لأجله إلى
التساهل" هذا عذر حسن إلا أنه لا يطابق قول الحاكم على شرطهما فيما يخرجه
فإنه ظاهر أنه أيما يصحح ما يوجد فيه شرائط الصحة عند الشيخين على اصطلاح
الأئمة من أهل الحديث بل على اصطلاح الشيخين.
ولفظ الحاكم في خطبة
المستدرك1 وأنا أستعين بالله على إخراج أحاديث روايتها قد ثقات قد احتج
بمثلها الشيخان أو أحدهما وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن
الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة انتهى فإنه علل بأنه الزيادة
مقبولة أي زيادة رواة الصحيحين على ما فيهما وهو ظاهر في أنه روي عن
رجالهما وقوله قد احتج بمثلها أي يمثل أحاديث رواتها ثقات وهم رواة
الصحيحين أو أحدهما كما دل له قوله في أول حديث أخرجه في المستدرك فإنه
أخرج حديث أبي هريرة مرفوعا: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" 2 وقال
إنه على شرط مسلم وقد استشهد بأحاديث القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة
ومحمد بن عثمان وقد احتج لمحمد ابن عجلان فدل على أنهلا يخرج إلا لرجالهما
سواء ذكروهما في الاستشهاد، أو في الاحتجاج كما دل له قوله في القعقاع وفي
محمد بن عجلان ولكنه قدم هذا في الخطبة ما لفظه أن أجمع كتابا يشتمل على
الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها3
انتهى فإنه قال يحتج ولم يرد أو يستشهد فلا لد من حمل الاحتجاج على ما يشمل
الاستشهاد مجازا.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نقل عن الحافظ العلائي أنه
قال مراد الحاكم بقوله على شرط فلان أن رجال ذلك السند أي من نسب أليه
الشرط أخرج لكل منهم احتجاجا هذا هو الأصل.
وقد يتسامح لاحاكم فيغضى عمن
يتفق أنه وقع في السند ممن هو في مرتبة من أخرج له وإن لم يكن عينه وذلك
قليل بالنسبة إلى المثل وتراه بنوع العبارة فتارة يقول على شرطهما وذلك حيث
يخرجان له وتارة على شرط البخاري أو مسلم وذلك حيث يكون في السند من انفرد
به أحدهما ومتى كان أكثر السند ممن لم يخرجا
ـــــــــــــــــــ
1 "1/42".
2 الحاكم "1/3"، وأبو داود "4682"، وأحمد "2/250".
3 المستدرك "1/42".
له
قال صحيح الإسناد ولا ينسبه إلى شرط واحد منهما وربما أورد الخبر ولا
يتكلم عليه كأنه أراد تحصيله وأخر التنقيب عليه فعوجل بالموت من قبل أن
يتقن ذلك. انتهى.
واستحسنه الحافظ ابن حجر وقال إنه لا مزيد عليه في الحسن.
وإذا
عرفت هذا عرفت عدم تمام كلام المصنف في قوله إنه لم يلتزم قواعد أهل
الحديث إلخ وإن أراد المصنف أن هذا العذر فيا صححه باجتهاده وليس على
شرطهما فالظاهر أن كل ما في كتابه قد زعم شرطهما وإنما عرف أن فيه ما ليس
كذلك بالكشف عنه وحينئذ فتصحيحه مبني على اصطلاح أئمة الحديث لكنهم حين
كشفوا عنه وجدوه ليس كما ادعاه وهذا الإشكال يرد على قوله: "وقد ذكر ابن
الصلاح ما يؤيد هذا فإنه قد ذكر أن الظاهر من تصرفات الحاكم أنه يجعل
الحديث الحسن صحيحا ولا يفرده" أي الحسن "باسم كما سيأتي" فإنه لم يؤلف
كتابه إلا لما هو شرط الشيخين، على زعمه وليس عندهما حديث حسن بل كل ما هو
على شرطهما صحيح ومن هنا تعرف صحة ما ذكرناه في رسم الصحيح من اختلاف
اصطلاح الفقهاء واصطلاح أئمة الحديث في حقيقته وأنه لا يمكن جمعه في رسم
واحد.
"قال زين الدين: إن الأولين قسموا الحديث إلى صحيح وضعيف ولم
يذكروا الحسن" يريد فهو يؤيد ما قيل من أن الحاكم جعل الحسن صحيحا وقد تقدم
تفسير الخطابي للحديث إلى صحيح وحسن وسقيم "قال زين الدين: وكذلك يؤخذ
الصحيح" هو عطف على قوله سابقا قال زين الدين: ويؤخذ الصحيح أيضا "مما يوجد
في المستخرجات على الصحيحين" قال ابن الصلاح: ككتاب أبي عوانة الإسفراييني
وكتاب أبي بكر الاسماعيل وكتاب أبي بكر البرقاني وغيرهم "من زيادة" على
حديث "أو تتمة لمحذوف" منه زاد ابن الصلاح أو زيادة شرح في كثير من أحاديث
الصحيحين وكثير من هذا موجود في الجمع بين الصحيحين لأبي عبد الله الحميدي
"فإنه يحكم بصحته" لما يأتي في بحث المستخرج وأن حكمه حكم ما استخرج عليه.
"قلت:
وهذا كله" من قوله ما نص إمام على صحته إلى هنا "إنما اشترط في حق أهل
القصور عن بحث الأسانيد ومعرفة الرجال والعلل عند من يشترط معرفتها" أي
العلل وقد عرفت أنه يشترطها أئمة الحديث لا الفقهاء فإنهم إنما يشترطون
القادحة "وأما من كان أهلا للبحث" عن الأسانيد والعلل مطلقا إن كان محدثا
أو العلل القادحة إن كان فقيها "فله أن يصحح الحديث" ظاهر ما يأتي قريبا أن
يقول فعليه "متى وجد فيه
شرائط الصحة المذكورة في كتب الأصول وعلوم
الحديث ولا يجب الاقتصار" أي على تصحيح الأولين "إلا على رأي ابن الصلاح"
من أنه ليس لأحد ممن المتأخرين أين يصحح الحديث "وهو" أي رأيه "مردود كما
سيأتي بل لا يكون" من يتبع الأولين على تصحيحهم "مجتهدا منى قلد على الصحيح
كما يأتي الكلام على المرسل" فلذا قلنا إن الأولى أن يقال عليه وسيأتي
تحقيق الكلام إن شاء الله تعالى أن من قبل قول الأئمة في تصحيح الأحاديث
فليس بمقلد لهم بل عامل برواية العدل وليس العمل بها من التقليد كما سيأتي
للمصنف نفسه.
مسألة 8 [في المستخرجات]"قال زين الدين: موضوع المستخرج"
أي الكتاب الذي يستخرجه المحدثون والمراد به حقيقته لا الموضوع المصطلح عيه
بل موضوع اصطلاحا الكتاب الذي يستخرج عليه فموضوع مستخرج أبي نعيم على
البخاري أسانيده ومتونه لأنه يبحث في المستخرج عن كل منهما "أن يأتي
المصنف" أي من يريد تصنيف المستخرج "إلى كتاب البخاري أو مسلم" لأنه لم
يخرج أحد إلا عليهما كما هو المشهور ولذا اقتصر المصنف وزين الدين عليهما.
وإلا
فإنه قد ذكر السيوطي1 في شرح تقريب النووي فائدة لا يختص المستخرج
بالصحيحين وقد استخرج محمد بن عبد الملك بن أيمن على سنن أبي داود وأبو علي
الطوسي على الترمذي وأبو نعيم على التوحيد لابن خزيمة وأملي الحافظ
العراقي على المستدرك مستخرجا لم يكمل.
ثم رأيت البقاعي ذكر هنا ما لفظه
بعد قوله المستخرج موضوعه ظاهره أنه لا يسعى مستخرجا إلا إذا كان على
الصحيح وليس كذلك ثم ذكر من استخرج على غيرهما كما ذكرنا آنفا عن السيوطي
ثم قال وعذر المصنف أن كلامه سابقا ولا حقا في الصحيح وحق العبارة أن يقال
موضوعه أن يأتي المصنف إلى كتاب من كتب الحديث إلخ انتهى قال واعلم أنه ليس
المراد الموضوع المصطلح عليه وإنما المراد حقيقة المستخرج ومعناه.
ـــــــــــــــــــ
1
السيوطي هو: عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الخضيري
الأسيوطي. أخذ العلم عن عدد كبير من المشايخ، وله مؤلفات كثيرة. مات سنة
"911". له ترجمة في: حسن المحاضرة "1/335"، والتحدث بنعمة الله ص "12".
وأما
موضوعه بحسب الاصطلاح فأحاديث الكتاب الذي يستخرج عليه فموضوع مستخرج أبي
نعيم على البخاري كتاب البخاري أسانيده ومتون لأنه يبحث في المستخرج عن كل
منهما "فيخرج أحاديثه" أي البخاري ومسلم "بأسانيد لنفسه من غير طريق
البخاري أو مسلم" فيجتمع إسناد المصنف للمستخرج "مع إسناد البخاري أو مسلم
في شيخه" أي شيخ البخاري أو مسلم "ويسمونه" أي هذا النوع "موافقة" لأنه
وافق المستخرج اسم فاعل البخاري أو مسلما في شيخه "أو" يجتمع المستخرج مع
البخاري أو مسلم في "من فوقه" فوق شيخ أحد الشيخين الأدنى وإلا فمن فوقه
شيخ لهما أيضا إلا أن الشيخ في العرف لا يطلق إلا على من أخذ عنه البخاري
مثلا "ويسمونه" أي هذا النوع من الموافقة "عاليا" لأنها موافقة فيمن فوق
شيخ أي الشيخين "بدرجة" إن كان شيخ شيخ البخاري مثلا "أو أكثر على حسب
العلو" ومنه بقوله "فإذا اجتمع المستخرج مع صاحب الصحيح في شيخ شيخه كان
عليا بدرجة وفي الثاني: بدرجتين ونحو ذلك وذلك كالمستخرج على البخاري لأبي
بكر الاسماعيلي1 ولأبي بكر البرقاني2" بالموحدة مكسورة وسكون الراء وقاف
مفتوحة في القاموس برقان بالكسر بلدة بخوارزم وبلدة بجرجان "ولأبي نعيم
الأصفهاني" هذه كلها استخرجت على البخاري "والمستخرج على مسلم لأبي عوانة
وأبي نعيم أيضا والمستخرجون لم يلتزموا" في متن الحديث "لفظ واحد من
الصحيحين بل رووه بالألفاظ التي وقعت لهم من شيوخهم مع المخالفة لألفاظ
الصحيحين" أي والاتفاق في المعنى فقوله في بيان موضوع المستخرج فيخرج
أحاديثه أي أحاديث ما يخرج عيه أي بقصد ذلك وإن اختلف لفظ ما استخرجه وما
استخرج عليه وإنما سماها أحاديثه مسامحة أو باعتبار من ينتهي إليه الإسناد
من شيوخه إلى الصحابي الذي ذكر حديثه في الصحيحين.
ـــــــــــــــــــ
1
أبو بكر الإسماعيلي هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن إبراهيم بن
أسماعيل بن العباس الجرجاني. قال الحاكم: كان واحد عصره، وشيخ المحدثين
والفقهاء، وعلا إسناده وتفرد ببلاد العجم. مات سنة "371". له ترجمة في:
شذرات الذهب "3/75"، والعبر "2/358"، والنجوم الزاهرة "4/140".
2 أبو
بكر البرقاني هو: الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين أبو بكر أحمد بن
محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي. قال الخطيب: كان ثقة ورعا ثبتا.
مات سنة "336". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/36"، والعبر "3/156".
"وربما
وقعت المخالفة أيضا في المعنى" بخلاف الأول فإنها تكون في اللفظ فقط
والمعنى متحد وإذا تخالفا لفظا ومعنى "فلا يجوز أن تعزى" أي تنسب "متون
ألفاظ أحاديث المستخرجات إليهما" أي إلى الشيخين إن خرج لهما معا "ولا إلى
أحدهما" لأنه يكون كذبا "إلا أن يعرف اتفاقهما" أي اتفاق المستخرج عليه إن
تفرد بالخريج له "في اللفظ" جاز أن ينسب متن الحديث المستخرج إلى المستخرج
عليه وأن يقال فيه أخرجه البخاري مثلا لأنه يصدق عليه أنه قد أخرجه البخاري
وإن كان رجاله غير رجال من ذكرهم في سنده وإنما وافقهم في شيخه أو شيخ
شيخه إلى هنا كلام زين الدين.
فتحصل من هذا أن مخرج الحديث إذا نسبه إلى
تخريج بعض المصنفين فلا يخلو إما أن يصرح بالمرادفة أو بالمساواة أولا
يصرح إن صرح فذاك وإن لم يصرح كان على الاحتمال فإذا كان على الاحتمال فليس
لأحد أن ينقل الحديث منها أي من المستخرجات ويقول هو على هذا الوجه فيهما
ولكن هل له أن ينقل منه ويطلق كما أطلق هذا محل بحث وتأمل.
قلت: ومحل
الاحتياط والتورع يقضي بأن لا يجزم بالنسبة إليهما وكونه يرد أن أصله فيهما
لا دليل عليه إذا هو تعيين لأحد المحتملات بلا دليل ولذا ترى الحافظ ابن
حجر في بلوغ المرام وغيره من المصنفين يقولون بعد عزو الحديث إلى من أخرجه
وأصله في الصحيحين لأنهم قد عرفوا أن أصله فيهما وبه تعرف ضعف الجواب الأتي
للمصنف رحمه الله تعالى.
"قلت: شرط المستخرج ألا يروي حديث البخاري
ومسلم عنها بل يروي حديثهما عن غيرهما وقد يرويه عن شيوخهم أو أرفع من ذلك"
أي من شيوخهما أو شيوخهم كما عرفته ولكنه لا بد أن يكون "بسند صحيح" وقياس
ما سلف أنه لا بد أن يكون على شرط من خرج عليه "وفي المستخرجات فوائد"
ثلاث:
"أحدها: أن ما كان فيها من زيادة لفظ أو تتمة لمحذوف أو زيادة شرح
في حديث" قد قدمنا لك أن هذه الزيادة لك يذكرها زين الدين فيما مضى وذكرها
هنا "أو نحو ذلك" هذه اللفظة ليست من كلام ابن الصلاح ولا الزين "حكم
بصحته لأنها خارجة من مخرج الصحيح" فلذا قلنا لا بد أن يكون رجال السند
فيها على شرط من خرج عليه.
"وثانيها: أنها قد تكون" الرواية المستخرجة "أعلى إسنادا ذكرهما" أي هاتين الفائدتين "ابن الصلاح" فقط لم يزد عليهما ما زاده من قول.
"وثالثها:
ذكره" الأحسن ذكرها "زين الدين وهي قوة الحديث" المستخرج والمستخرج عليه
"بكثرة طرقه" عند المستخرج والمستخرج عليه "للترجيح عند التعارض" فإذا
تعارضت الأحاديث رجح أكثرها طرقا.
واعلم أن هذه الفائدة التي ذكرها زين
الدين قد ذكرها ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم ونقلها عنه الشيخ محي الدين
النووي فاستدركها عليه في مختصره في علوم الحديث قاله الحافظ ابن حجر.
ثم قال: وللمستخرجات فوائد أخرى لم يتعرض أحد منهم لذكرها :
إحداها
: عدالة من أخرج له فيه لأن المخرج على شرط الصحيح يلزمه أن لا يخرج إلا
عن ثقة عنده فالرجال الذين في المستخرج ينقسمون أقساما:
منهم: من ثبتت عدالته قبل هذا المخرج فلا كلام فيهم.
ومنهم: من طعن فيه غير هذا المخرج فينظر في ذلك الطعن إن كان مقبولا قادحا فيقدم وإلا فلا.
ومنهم:
من لا يعرف لأحد قبل هذا المخرج فيه توثيق ولا تجريح فتخريج من يشترط
الصحة لهم ينقلهم عن درجة من هو مستور إلى درجة من هو موثق فيستفاد من ذلك
صحة أحاديثهم التي يروونها بهذا الإسناد ولو لم تكن في ذلك المستخرج.
الثانية
: ما يقع فيها من حديث المدلسين بتصريح السماع وهو في الصحيح بالعنعنة فقد
قدمنا أنا نعلم في الجملة أن الشيخين اطلعا على أنه مما سمعه المدلس عن
شيخه لكن ليس اليقين كالاحتمال فوجود ذلك في المستخرج بالتصريح ينفي أحد
الاحتمالين.
الثالثة : ما يعق فيها من حديث المختلطين عمن سمع منهم قبل
الاختلاط وهو في الصحيح من حديث من اختلط ولم يبين هل سماع ذلك الحديث منه
في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده.
الرابعة : ما يقع فيها من التصريح بالأسماء المبهمة والمهملة في الصحيح في الإسناد أو في المتن.
الخامسة : ما يقع فيها من التمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه وذلك في
كتاب
مسلم كثير جدا فإنه يخرج الحديث على لفظ بعض الرواة ويحيل باقي ألفاظه
والرواة على ذلك اللفظ يورده فتارة يقول مثله فيحمل على أنه نظيره وتارة
يقول نحوه أو معناه فيحمل على أن فيهما مخالفة بالزيادة والنقص وفي ذلك من
الفوائد ما لا يخفي.
السادسة : ما يقع فيها من الفصل للكلام المدرج في الحديث مما ليس من الحديث ويكون في الصحيح غير مفصل.
السابعة : ما يقع فيها الأحاديث المصرح برفعها وتكون في أصل الصحيح موقوفة أو كصورة الموقوفة.
إلى إن قال: فكملت فوائد المستخرجات بهذه الفوائد التي ذكرناها عشرا. انتهى.
وإذا
عرفت أنه لا يجوز أن تعزي ألفاظه متون أحاديث المستخرجات إليهما ولا إلى
أحدهما إلا أن يعرف اتفاقهما في اللفظ فقد وقع لجماعة خلاف هذا فلهذا قال
المصنف "واعلم أنه قد يتساهل بعض المستخرجين فينسبون الحديث إلى البخاري أو
مسلم وليس هو بلفظه فيهما" ولا يعزب عنك أنه قد سبق أن المستخرجين قد
يأتون بألفاظه ليست من الكتاب الذي استخرجوا عليه بألفاظها، بل قد لا تكون
بمعانيها وأنه لا يجوز لمن ينقل من المستخرجات أن يعزو ألفاظها إلى
الصحيحين وهنا قال إنه قد يتساهل المستخرج نفسه وينسب الحديث إلى البخاري
أو مسلم وليس كلام في المستخرج فإنه لا يتعرض لنسبة حديثه إليهما أو إلى
أحدهما وإنما يسوق إسنادا لنفسه يجتمع قيه مع إسناد البخاري أو مسلم ولفظ
ابن الصلاح الكتب المخرجة على كتاب البخاري أو كتاب مسلم لم يلتزم مصنفوها
موافقتهما موافقتهما في ألفاظ الأحاديث بعينها من غير زيادة ولا نقصان إلى
قوله وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة كالسنن الكبرى وشرح
السنة لأبي محمد البغوي وغيرهما مما قالوا فيه أخرجه البخاري ومسلم. انتهى.
وبه
تعرف أن التساهل ليس للمستخرجين بل للمؤلفين في تصانيفهم المستقلة أي التي
ليس المراد بها الاستخراج على أحد الكتابين وبه تعرف أن قوله "وكذلك فعل
البيهقي في السنن الكبرى والمعرفة وغيرهما" من كتبه "والبغوي في شرح السنة
وغير واحد فإنهم يروون الحديث بأسانيدهم ثم يعزونه إلى البخاري أو مسلم مع
اختلاف الألفاظ والمعاني" - صحيح في هؤلاء فإنه لم يقع العزو مع الاختلاف
إلا لهؤلاء
فقط لا لمن ذكره وأمثالهم ممن لم يرد تأليف مستخرج فلو
اقتصر على هؤلاء كما فعله ابن الصلاح لكان صوبا وعبارة الزين كعبارة ابن
الصلاح ببعض تغيير ألجأه إليه النظم فإنه قال الزين في ألفيته:
والأصل أعني البيهقي ومن عزا ثم قال في شرحها: "وقولي:
والأصل
أعني البيهقي ومن عزا كأنه قيل: فهذا البيهقي في السنن الكبرى والمعرفة
وغيرهما والبعوي في شرح السنة وغير واحد يروون الألفاظ والمعاني انتهى
فعرفت أن المستخرجين لا يقع لهم الصنع الذي ذكره المصنف إنما وقع لغيرهم من
أهل التأليف التي لم يقصد بها المصنفون ما قصده المستخرجون "والجواب عنهم"
عن البيهقي ونحوه، "أنهم إنما يريدون" إذا عزوه إلى واحد من الشيخين "أن
أصل الحديث فيهما أو أحدهما لا أن ألفاظه و" كل "معانيه كذلك" هذا الجواب
تقدم في شرح قوله إلا أن يعرف اتفاقهما في اللفظ فتذكر ما فيه وهو معنى ما
ذكره ابن الصلاح فإنه قال بعد ذكره لصنع البيهقي ومن معه فلا يستفيد بذلك
أي بعزو البيهقي الحديث أو أحدهما أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصل
ذلك الحديث مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ وربما كان تفاوتا في
بعض المعنى.
قلت: يريد أي لا في كله إذ لو كان التفاوت في كل الألفاظ
وكل المعاني لما كان بينهما اتصال في شيء ولا يصح أي يقال أصله فيهما ولذا
قيدنا قول المصنف ومعانيه بقولنا كل فتدبر ثم قال وإذا كان الأمر في ذلك
على هذا القياس فليس لك أن تنقل حديثا فيها وتقول هو على هذا الوجه في كتاب
البخاري أو كتاب مسلم إلا أن يقابل لفظه أو يكون الذي أخرجه قد قال أخرجه
البخاري بهذا اللفظ انتهى كلامه.
وهو كلام واضح في المؤلفات المستقلة لا
المستخرجة فإن الكتب المستخرجة لا يذكر فيها مؤلفوها أخرجه البخاري أو
مسلم كما عرفته من ذكر المصنف لموضوعها اللهم إلا أن يثبت أن أهل
المستخرجات ينسبون ما أخرجوه إلى أحد الشيخين فإنا لم نر شيئا من الكتب
المستخرجة فإن كان كذلك لم يتم له ما سلف في بيان شروط
المستخرجات.
نعم اتفقت المستخرجات والمؤلفات المسندات بأسانيد مؤلفيها في أنه لا يجوز
عزو ما فيها إلى لفظ البخاري أو مسلم اغترارا يكون المستخرج استخرج على
الكتابين ويكون مؤلف الكتب المسندة بأسانيدها نسب ما ذكره إلى أحد الشيخين
لأن الأول لم يقصد إخراج ألفاظه ما أخرج عليه إلا أن يعرف اتفاقهما في
اللفظ كما قرره المصنف فيما سلف بالنسبة إلى المستخرجات والثاني: لم يقصد
يعزوه إلى أحدهما إلا أن أصل الحديث فيهما.
ولذا قال المصنف: "وقد انتقد
على الحميدي" هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن نصر أبي فتوح حفيد الأزدي
الأندلسي الظاهري المذهب من أكبر تلامذة ابن حزم "أنه أورد في الجمع بين
الصحيحين ألفاظا وتتمات ليست في واحد منها أخذها من المستخرجات أو استخرجها
هو ولم يميزها" ولذا قال الزين في ألفيته1:
وليت إذا زاد الحميدي ميزا
قال في شرحها: يعني أن أبا عبد الله الحميدي زاد في كتابه الجمع بين
الصحيحين ألفاظا ليست في واحد منهما من غير تمييز.
"قال ابن الصلاح2:
وذلك موجود فيه كثيرا فربما نقل بعض من لا يميز ما يجده فيه عن الصحيح وهو
مخطئ انتهى" تمام كلامه لكونه من تلك الزيادات التي لا وجود لها في واحد من
الصحيحين.
"وأما الجمع بين الصحيحين لعبد الحق" بن عبد الرحمن الحافظ
الحجة أبو محمد الأزدي الإشبيلي أثنى عليه الذهبي في التذكرة وذكر له عدة
مصنفات منها الجمع بين الصحيحين وغيره وهذا عطف على مجموع ما سلف كأنه قال
أما الجمع بين الصحيحين للحميدي فلا ينقل منه وأما الجمع لعبد الحق "وكذلك
مختصرات البخاري ومسلم" كمختصر الحافظ المنذري له "فلك أن تنقل منها وتعزو
ذلك" المنقول "إلى الصحيح" لأنها ألفاظه ولذا قال "ولو باللفظ" بأن تقول
أخرجه البخاري بلفظه "لأنهم أتوا بألفاظ الصحيح قال زين الدين: واعلم أن
الزيادات التي تقع في كتبا الحميدي ليس لها حكم الصحيح خلاف ما اقتضاه كلام
ابن الصلاح" وإنما قال زين الدين: ليس لها حكم الصحيح لقوله: "لأنه" أي
الحميدي "ما رواه بسنده
ـــــــــــــــــــ
1 "1/22" رقم "36".
2 علوم الحديث ص "31".
كالمستخرج"
لأن المستخرج أسند ما أخرجه بخلاف من يجمع بين الصحيحين فإنه ليس ما سند
إلا سند الصحيحين والحال أنهما لم يوجد فيهما "ولا ذكر" أ ي الحميدي "أنه
يزيد ألفاظا واشتراط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك وهذا هو الصواب" أي القول
بأنه ليس لها حكم الصحيح ولا يخفى ما في قوله حتى يقلد وقد نبهنا عليه
وسيأتي تحقيق ذلك.
"قلت: بل الصواب ما ذكره ابن الصلاح فإن الحميدي من
أهل الديانة والأمانة والمعرفة التامة وهو من أئمة هذا الشأن بغير منازعة
وهو أعقل من أن يجمع بين أحاديث الصحيحين ثم يشوبها بزيادات واهية ولو فعل
ذلك كان خيانة في الحديث وجناية على الصحيح" لا يخفي أن هذا هو الذي يقضي
به حسن الظن إلا أن يعارضه أن هذه زيادات زادها لم يجدها الأئمة الباحثون
في الصحيحين قالوا ولا ذكر أنه يزيدها من كتاب آخر ولا قال إنه ملتزم صحتها
بل ظاهر تسمية كتابه جمع الصحيحين أن كل ما وجد فيه فهو منهما ولم توجد
تلك الزيادة فانتفى حسن الظن به وأما ابن الصلاح فليس في كلامه ما يفهم صحة
كلام الحميدي وإنما تكلم على زيادات المخرجين قال إنها ثبتت صحتها بهذه
التخاريج لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين أو واحد منهما ولم
يتكلم في زيادات الجمع للحميدي فقول المصنف قلت: بل الصواب ما ذكره ابن
الصلاح ليس في محله.
ثم ذكر المصنف مختار المحققين بقوله "وقد اختار
المحققون إلحاق ما جزم به البخاري من التعاليق والتراجم" أي إلحاقه بالصحيح
"دون ما مرضه فكذلك ما جزم به الحميدي وألحقه بالصحيح ولم يميزه منه" لعله
يقال الفرق بين الأمرين واضح فإن الحميدي يقول هذه أحاديث الصحيحين ووجدنا
في كتابه ما ليس فيهما فكيف نقول هو كتعاليق البخاري المجزومة فإن تلك
تتبعت ووصلت مقطوعاتها كما عرفته مما نقلناه عن الحافظ ابن حجر بخلاف ما
زاده الحميدي فتتبع فلم يوجد فيما قال إنه منه "وهو وإن لم ينص على ذلك" أي
على صحة ما ألحقه وزاده "فهو ظاهر من وضع كتابه" يقال وضع كتابه لجمع
الصحيحين لا غير فهذه الزيادات ليست فيهما "وقرائن أحواله".
استدل
المصنف لظاهر وضع كتابه وقرائن أحواله بقوله: "ألا تراه حذف من الجمع بين
الصحيح ما علقه البخاري عمن لا يحتج به عنده مثل حديث بهز بن حكيم عن
أبيه
عن جده مرفوعا الله أحق أي يستحى منه1" قال ابن الصلاح: إن هذا الحديث ليس
من شرط البخاري قال ولهذا لم يورده الحميدي في جمعه بين الصحيحين وحديث:
"الفخذ عورة" 2 فإن قال ابن الصلاح: إن قول البخاري بابا ما يذكره في الفخذ
ويروي عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"الفخذ عورة" ثم ذكر أنه ليس من شرط البخاري "ونحوهما فلو كان الحميدي
متسامحا لذكر ذلك مع الصحيح فكيف يحذف من كتاب البخاري ما هو منه لضعفه ثم
يحشو فيه من الواهيات ما ليس فيه هذا ضعيف جدا" يقال نعم هذه قرائن تفيد
حسن الظن به لكن عدم وجود ما زاده يقلع هذه القرائن وإن أراد المصنف أن هذه
الزيادات لها طرق عند الحميدي صحيحة فقد زعم الزين أنه لم يذكر شرطا ولا
قال إنه رواها حتى يعتمد عليه في ذلك "وقوله أيضا إنه لم يزد ألفاظا ويشترط
فيها الصحة فيقلد في ذلك غير جيد" يعني قوله "فإن قبول الثقة ليس بتقليد
بل واجب معلوم الوجوب بالأدلة الدالة على وجوب قبول الثقات في الأخبار
والله أعلم" لا شك أن القائل من الأئمة هذا حديث صحيح مخبر بأنها كملت
عدالة رواته وضبطهم وسائر صفات الصحة وخبر العدل يجب قبوله وليس من باب
التقليد له خبر بل من باب قبول خبر الآحاد كما عرف في الأصول لكنه تقدم
للمصنف قبل مسألة المستخرجات أن من قلد في التصحيح لا يكون مجتهدا وهذا
ينافيه والصواب هو هذا ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت هذا
الكلام في جمع الحميدي فاعلم أن هذا مبني من ابن الصلاح والزين والمصنف على
تقليد الآخر للأول وإلا فإنه قد تحقق الحافظ ابن حجر مما قاله الحميدي في ا
لزيادات وما شرطه في كتابه فيما كتبه على كلام شيخه فقال بعد سياقه للكلام
ما لفظه وكأن شيخنا رضي الله عنه قلد في هذا غيره وإلا فلو رأى كتاب الجمع
بين الصحيحين لرأى في خطبته ما دل على ذكره لاصطلاحه في هذه الزيادات
وغيرها ولو تأمل المواضع الزائدة لرآها معزوة إلى من زادها من أصحاب
المستخرجات وتبعه في ذلك الشيخ سراج الدين النحوي فألحق في كتابه ما صورته
هذه الزيادات ليس لها حكم الصحيح لأنه ما رواها بسنده كالمستخرج ولا ذكر
أنه يزيد ألفاظا
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري "1/78"، والترمذي "2766 و 2794"، وابن ماجه "1920"، وأحمد "5/4".
2 البخاري "1/103"، والترمذي 2797"، وأحمد "3/478"، والبهقي "5/228".
وشرط
فيها الصحة حتى يقلد في ذلك وقال شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني1 في محاسن
الاصطلاح في هذا الموضع ما صورته وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي تتمات ولا
وجود لها في الصحيحين وهو كما قال ابن أل بصلاح إلا أنه كان ينبغي التنبيه
على تلك التتمات لنكمل الفائدة انتهى كلامه.
قال الحافظ: والدليل على
ما ذهبت إليه من أن الحميدي أظهر اصطلاحه بما يتعلق بهذه الزيادات موجودة
في خطبة كتابه إذا قال في أثناء المقدمة ما نصه وربما أضفنا إلى ذلك نبذا
مما تنبهنا له من كتب أبي الحسن الدارقطنى وأبى بكر الاسماعيلى وأبي بكر
الخوارزمي يعني البرقانى وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم من الحفاظ الذين عنوا
بالصحيح مما يتعلق بالكتابين من نبيه على غرض أو تتميم لمحذوف أو زيادة من
شرح أو بيان لاسم أو نسب أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم فقوله من تتميم
لمحذوف أو زيادة هو غرضنا هنا وهو يختص بكتابي الإسماعيلي أو البرقاني
لأنهما استخرجا على البخاري واستخرج البرقاني على مسلم وقوله من تنبيه على
غرض أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم أو بيان لاسم أو نسب يختص بكتابي الدار
قطني وأبي مسعود وذاك في كتاب التتبع وهذا في كتاب الأطراف وقوله مما
يتعلق بالكتابين احتراز عن تصانيفهم التي لا تتعلق بالصحيحين فإنه لم ينقل
منها شيئا هنا فهذا الحميدي قد أظهر اصطلاحه في خطبة كتابه ثم إنه فيما
تتبعته من كتابه إذا ذكر الزيادة في المتن بعزوها لمن رواها من أهل
المستخرجات وغيرها فإن عزاها لمن استخرجها أقرها وإن عزاها لمن لم يستخرجها
تعقبها غالبا لكنه تارة يسوق الحديث من الكتابين أو من أحدهما ثم يقول فيه
مثلا زاد فيه فلان كذا وهذا لا إشكال فيه وتارة يسوق الحديث والزيادة
جميعا في نسق واحد ثم يقول في عقبة اقتصر البخاري على كذا وزاد فيه
الإسماعيلي كذا وهذا يشكل على الناظر غير المميز لنه الذي حذر ابن الصلاح
منه لأنه حينئذ يعزو إلى أحد الصحيحين ما ليس فيه انتهى كلامه.
قلت: بل
لا إشكال فيه أيضا بعد قوله اقتصر منه البخاري على كذا وزاد فيه الإسماعيلي
كذا وأي بيان أوضح من هذا البيان وكأنه لذلك قال يشكل على الناظر
ـــــــــــــــــــ
1
شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني هو: عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب
الكناني الشافعي. ولى قضاء الشام، وانتهت إليه رياسة المذهب الشافعي
والإفتاء. مات سنة "805". له ترجمة في:إنباه الغمر "2/245"، والبدر الطالع
"1/506"، وشذرات الذهب "7/51".
غير المميز ولكن هذا لا يخفي على
مميز ولا غيره لا يخفي أن قول الحافظ هذا هو الذي حذر منه ابن الصلاح غير
صحيح فإن ابن الصلاح قد زعم أن الحميدي لم يميز الزيادات أصلا بل ظاهره أنه
سردها في ضمن أحاديث الشيخين من غير بيان ولا ذكر قاعدة وهذا مبني على
الوهم الذي وقع له ولغيره من الأئمة ولم يكشف قناعه إلا الحافظ بما حققه عن
خطبة الحميدي.
ثم ساق الحافظ أمثلة دالة على ما ذكره مقررة لما صدره ثم
قال فهذه الأمثلة توضح أن الحميدي يميز الزيادة التي يزيدها هو أو غيره ثم
قال وقد قرأت في كتاب الحافظ أبى سعيد العلائي في علوم الحديث له قال لما
ذكر المستخرجات ومنها المستخرج على البخاري للإسماعيلي والمستخرج على
الصحيحين للبرقاني وهو مشتمل على زيادات كثيرة في تضاعيف متون الأحاديث وهي
التي ذكرها الحميدي ي الجمع بين الصحيحين منبها عليها هذا لفظه بحروفه وهو
عين المدعي ولله الحمد انتهى.
قلت: ولا يخفي أن هذه الفائدة تساوي رحلة فجزاه الله خيرا فقد تم الوهم على شيوخه وعلى المصنف.
قلت:
ولم نتابع الحافظ في كلامه بل راجعنا كتاب الحميدي فرأيناه ذكر ما ذكره
الحافظ وصح الواقع للواهمين وهذا من شؤم متابعة الآخر والأول من غير بحث
عما قاله.
ثم لنذكر بعض الأمثلة التي ذكرها الحافظ فإنه قال منها ما
ذكره أي الحميدي في مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أفراد
البخاري1 عن أبي سعيد بن يحمد قال سمعت ابن عباس يقول يا أيها الناس اسمعوا
مني ما أقول لكم أسمعوني ما تقولون ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس قال
ابن عباس من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم2 فإن الرجل
في الجاهلية يحلف فيلقي نعله أو سوطه وقوسه لم يزد يعني البخاري على هذا
وزاد البرقاني في
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: مناقب الأنصار: ب "27".
2
الحطيم: هو ما بين الركن والباب. وقيل هو الحجر المخرج منها، سمي به لأن
البيت رفع وترك هو محطوما. وقيل لأن العرب كانت فيه ما طافت به من الثياب،
فتبقى حتى تنحطم بطول الزمان، فيكون فعيلا بمعنى فاعل. "النهاية"، "1/403".
الحديث
بالإسناد المخرج به وأيما صبي حج به أهله فقد قضت حجته عنه ما دام صغيرا
فإذا بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج به أهله فقد قضت عنه ما دام عبدا
فإذا بلغ فعليه حجة أخرى انتهى ما ذكره الحافظ نقلا عن كتاب الحميدي وهو
صريح فيما ذكره عنه من البيان لما زاده.
قلت: وقد راجعت جامع الأصول
لابن الأثير وفروعه في كتاب الحج فوجدته قد ساق الرواية التي نسبها الحميدي
إلى البخاري مقتصرا عليها ونسبها إلى البخاري ولم يأت بحرف من زيادة
البرقاني وكذلك فروع الجامع صنعوا صنيعه من الاقتصار والعزو ثم راجعتها في
باب حج الصبي فم أجدهم ذكروا زيادة البرقاني.
ولعل من تتبع الجامع لم
يجده ينقل من كتاب الحميدي إلا ألفاظ الشيخين لا غير وحذف ما فيه من
الزيادات التي زادها من غيرهما ومعلوم أنه حيث قد ميز الحميدي الزيادات
وعزاها إلى من رواها أنه لا يأتي ابن الأثير وينقل الأصل، والزيادة وينسبها
معا إلى الشيخين فإن هذا ما يفعله عالم ولا تقي بل ولا عاقل.
نعم كان
على ابن الأثير أن يقول في خطبة الجامع حيث قال واعتمدت في النقل عن
البخاري ومسلم على جمعه الإمام أبو عبد الله الحميدي في كتابه إلا أنى
اقتصرت على لفظهما وحذفت ما زاده من غيرهما ليندفع الوهم الذي يأتي للمصنف
في التنبيه.
واعلم أن ابن الأثير حذف ما ذكره الترمذي من جامعه في قوله
عقيب الحديث صحيح حسن غريب مجموعة تارة ومفرقة أخرى وهو إخلال بما فيه نفع
كثير وغنية عن الكشف عن حال الحديث من تصحيح وغيره وإن كان في كلام الترمذي
في هذه الصفات أبحاث تعرفها فيما يأتي وكذلك حذف ما تعقب به أبو داود بعض
الأحاديث من بيان أنها واهية كما نقل عنه وسيأتي.
إذا عرفت هذا فليس لك
أن تستدل بحديث الترمذي وأبي داود بمجرد وجدانهما في جامع الأصول وفروعه بل
لا بد من الكشف عن حاله ولعل من هذا قول ابن الأثير في خطبة جامع الأصول
ما لفظه وأما الأحاديث التي وجدناها في كتاب رزين رحمه الله تعالى ولم
أجدها في الأصول في الأمهات الست فإنني كتبتها نقلا عن كتابه على حالها في
موضعها المختصة بها وتركتها بغير علامة وأخليت لاسم من أخرجها موضعا لعلى
أتتبع نسخا أخرى لهذه الأصول وأعثر عليها فأثبت اسم من
أخرجها. انتهى.
وكأنه
وقع له ما وقع لمشايخ الحافظ في عدم مطالعتهم لخطبة الحميدي فإنه وجد نقل
بخط بعض العلماء أن في لفظ خطبة رزين في كتابه ما لفظه واعلم أني أدخلت من
اختلاف نسخ الموطأ لابن شاهين والدار قطني ومن رواية معن للموطأ، أحاديث
تفردت بها بعض النسخ عن بعض وكلها صحيحة وقال أيضا في موضع آخر إنه ظاهر ما
اتفق عليه النسائي والترمذي واتفق عليه أحدهما مع بعض نسخ الموطأ بأحاديث
يسيرة ثبتت له سماعها وهي مروية من طريق أهل البيت عليهم السلام عن علي
وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما. انتهى.
هذا صريح في أنه أخرج أحاديث
من غير الستة الأصول وعزاها إلى من ذكره وإن ما زاده خاص برواية الموطأ لا
غير وإنما قلت: لعله وكأنه لأني لم أجد نسخة من رزين فأخبر عما نقل عنه على
اليقين إلا أني أظن قوة ما نقل عنه في الخطبة لاستبعاد أن يريد جمع الأصول
الستة ثم يأتي بأحاديث لا توجد في كتاب حديثي منها والعجب من الشيخ محمد
بن سلمان أنه ينسب التخريج لرزين في كتابه الذي سماه جمع الفوائد من جامع
الأصول ومجمع الزوائد فإنه قال في خطبته إنه نقل ما بيض له ابن الأثير من
روايات رزين التي لم ينسبها على كتاب فنسبها الشيخ لرزين كما ينسب روايات
البخاري وغيره فيقول مثلا بعد سياق المتن للبخاري ويقول بعد سياق المتن
لرزين فيوهم في نسبته إليه على حد نسبته إليه على حد نسبته إلى البخاري
مثلا أنه أخرجه رزين وابن الأثير بيض له ولم ينسبه لرزين لأنه لم يخرجه
والحال أن رزينا ليس من المخرجين للأحاديث على ما ذكره في خطبته وأن أحاديث
رزين بيض لها بان الأثير فكان عليه أن يبيض لها كابن الأثير ا, يتتبع
مواضع ما يخرج منه، فيخرجها فيأتي بفائدة يعتد بها وذكرت هذا لأنه يستبعد أ
لا يطلع على رزين وقد كان في مكة وجمع من الكتب ما اشتهر عند أهل عصره أنه
لم يجتمع عند أحد من أهل عصره مثله ثم إن ابن الديبع اختصر من جاع الأصول
كتابه المسمىتيسير الوصول فصنع صنع الشيخ محمد بن سليمان في نسبة ما بيض له
ابن الأثير إلى تخريج رزين فيقول أخرجه رزين وهو خلل كبير وكان الأولى أن
يبيض له كما بيض له ابن الأثير وقد نبهت على هذا في التحبير شرح التيسير في
محلات كثيرة والحمد لله.
"تنبيه: حكم ما نقله أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير في
جامع
الأصول عن البخاري ومسلم حكم ما نقله الحميدي لأنه اعتمد كتاب الحميدي في
الجمع لأحاديثهما كما ذكره في خطبة الجامع ومقدمته" فإنه قال أي ابن الأثير
في خطبة الجامع واعتمدت في النقل من كتاب البخاري ومسلم على ما جمعه
الإمام أبو عبد الله الحميدي في كتابه فإنه أحسن في ذكر طرقه واستقصى في
إيراد رواياته وإليه المنتهى في جمع هذين الكتابين انتهى.
إذا عرفت هذا
عرفت أن فيما ينسبه ابن الأثير إلى البخاري ومسلم إشكالا لأنه ينقل لفظهما
من كتاب الحميدي والحميدي أنى فيه بزيادات صرح أنها من كتب المستخرجين
عليهما وحينئذ فكيف يسوغ النقل عن جامع الأصول أو فروعه من كتاب البازري
وتيسير ابن الديبع ومعتمد ابن بهران وجمع الفوائد لأفاظ الصحيحين من تلك
الكتب لتصريح ابن الأثير أنه اعتمد في نقلهما على كتاب الحميدي وتصريح
الذين اختصروا الجامع أو نقلوا منه من المذكورين وغيرهم بأن جامع الأصول
أصلهم ومعتمدهم ثم ينسبون ألفاظ ما ينقلونه منه إلى الشيخين فهذا لا يجوز
على كلام المصنف في هذا التنبيه.
نعم على ما قررناه آنفا من أنا راجعنا
جامع الأصول فوجدناه يقتصر على ما في الصحيحين من دون ذكره لما زاده
الحميدي من غيرهما وقدمنا لك مثال ذلك فلا يتم قول المصنف حكم ما نقله ابن
الأثير حكم ما نقله الحميدي وقد سبق له ولابن الصلاح ولزين الدين أنه لا
يجوز نسبة ما في كتاب الحميدي إلى الشيخين لما عرفت ولذا قال المصنف فيما
سلف آنفا وأما الجمع بين الصحيحين لعبد الحق وكذلك مختصرات البخاري ومسلم
فلك أن تنقل منها وتعزو ذلك إلى الصحيح ولو باللفظ.
إذا عرفت هذا فهو
إشكال لزم من كلام المصنف لا ينحل دال على عدم جواز ذلك هذا تقرير مراد
المصنف رحمه الله تعالى وكلام من تقدمه وإلا فقد قدمنا لك من التحقيق ما
يزيل هذا الإشكال فإن ابن الأثير قال إنه اعتمد في نقل الصحيحين على كتاب
الحميدي ولم يقل نقل كتاب الحميدي ولا إشكال بعد تقرر ما نقلناه عن ابن حجر
وما نقلناه من المثال واقتصار ابن الأثير فيه على كلام البخاري ومن له همة
تتبع ألفاظ ابن الأثير وألفاظ جامع الحميدي فإنه يجد ما يقرر ما ذكرناه أو
يقرر ما ذكره المنصف رحمه الله تعالى.
مسألة:9 [في بيان مراتب
الصحيح]"مراتب السند الصحيح عند المحدثين" يحترز من مراتبه عند الفقهاء
"اعلم أن مراتب الصحيح متفاوتة" وأن جمعها الاتصاف بالصحة "بحسب تمكن
الحديث من شروط الصحة وعدم تمكنه وقد ذكر أهل علوم الحديث" أي جمهورهم "أن
الصحيح ينقسم" باعتبار ما ذكر "سبعة أقسام" القسم "الأول أعلاه وهو ما اتفق
على إخراجه البخاري ومسلم وهو الذي يعبر عنه أهل الحديث" الناقلون من
كتابي الشيخين "بقولهم: متفق عليه" يطلقون ذلك ويعنون به اتفق البخاري
ومسلم واتفاق الأئمة أيضا حاصل على ذلك لما تقدم من تلقيهم لها بالقبول كذا
قاله البقاعي.
واعلم أنك قد عرفت مما أسلفناه في وجوب ترجيح البخاري أن
شرطه أخص من شرط مسلم لأنه يشترط اللقاء ومسلم يكتفي بشرط المعاصرة مع
إمكان اللقاء وكل من ثبت له اللقاء ثبتت له المعاصرة وليس كل ممن ثبتت له
المعاصرة يثبت له اللقاء فرجح البخاري بخصوصية شرطه أي كان ذلك من المرجحات
ووجود الأعم في ضمن الأخص ضروري فكل راو للبخاري قد حصل فيه شرط مسلم
ضرورة وجود الأعم في الأخص وليس كل راو لمسلم يحصل فيه شرط البخاري الأخص
وقد عرفناك أن هذا الشرط إنما هو فيما يروى بالعنعنة لا في غيره.
فعلى
هذا يحسن أن يقال وإنه تقدم رواية البخاري على مسلم فيما يرويانه بالعنعنة
لا مطلقا فقد أسلفنا لك في وجهوه الترجيح التي ذكرها ابن حجر مرجحات
للبخاري مطلقا ما لا يتم به مدعاهم فتذكر هذا باعتبار
أصل شرطهما لا
باعتبار ما اتفقا عليه فانضمام مسلم في روايته إلى البخاري لم يأت بزيادة
تقوى رواية البخاري وإنما القوة حصلت من حيث إنه صار للحديث راويان البخاري
ومسلم إذ قد اشتركا في رواية الحديث من أول رجاله إلى آخرهم ومن حيث إنه
وجد في الرواية الشرط
الأخص إذ الغرض فيمن اتفقا عليه أنهم رواة
البخاري الذين قيهم الشرط الأخص هذا إن أريد بالاتفاق ما ذكروا وإن أريد
أنهما اتفقا على صحابيه فقط دون رجاله فليحقق المراد من مرادهم ثم المارد
بما اتفقا عليه ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معا وهذا عند جمهور
المحدثين إلا عند الجوز في فإنه يعد المتن إذا اتفقا على إخراجه ولو من
حديث صحابيين حديثا واحدا كما إذا أخرج البخاري المتن من حديث أبي هريرة
وأخرجه مسلم من طريق أنس.
واعلم أنه تبع المصنف الزين وهو تبع ابن
الصلاح في جعل أعلى أقسام الصحيح ما اتفقا عليه واعترض بأن الأولى أن يكون
القسم الأول هو ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستفاضة وأجاب
الحافظ ابن حجر بأنا لا نعرف حديثا وصف بكونه متواترا ليس أصله في الصحيحين
أو أحدهما.
قلت: ولا يخفي ما في جواب الحافظ ابن حجر فإنه لو سلم أن كل
متواتر في الصحيحين فلا خفاء في أنه أرفع رتب الصحة وحينئذ فالمتعين أن
يقال إلى المراتب في الصحة ما تواتر في الصحيحين من أحاديثهما ولك أن تقول
الكلام إنما هو الصحيح من الحديث الأحادي فإن التدوين له وكذا في شرائطه
وأما المتواتر فلا مدخل للبحث عنه هنا.
ثم قال الحافظ: والحق أن يقال:
إن القسم الأول وهو ما اتفقا عليه يتفرع فروعا :
أحدها : ما وصف بكونه متواترا.
ويليه: ما كان مشهورا كثير الطرق.
ويليهما : ما وافقهما عليه الأئمة الذين التزموا الصحة على تخريجه الذين أخرجوا السنن والذين انتقوا المسند.
ويليه : ما وافقهما عليه بعض من ذكره.
ويليه : ما انفرد بتخريجه.
فهذه أنواع للقسم الأول- وهو ما اتفقا عليه- إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه.
ثم قال: فائدتان :
إحداهما : إن اتفاقهما على التخريج عن راو من الرواة يزيده قوة، فحينئذ ما يأتي،
من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد.
أحدهما: أي بالرواية عنه.
والثانية : أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به أحدهما.
ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا أخرجا الحديث من حديث صحابي واحد، وفيه إشارة إلى خلاف الجوزقي كما قدمنا.
ثم
قال: بعم قد يكون في ذلك الحديث أيضا قوة من جهة أخرى، وهو أن المتن الذي
تعددت طرقه أقوى من المتن الذي ليس اه إلا طريق واحدة، والذي يظهر من هذا
أنه لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي، بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث
صحابي واحد، إذا لم يكن فردا غريبا، أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي
غير الصحابي الذي أخرجه الآخر، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من
صحابي واحد فردا غريبا، فيكون ذلك أقوى. انتهى كلامه.
"والثاني" من الأقسام السبعة "ما أخرجه البخاري" منفردا به.
"والثالث" منها "ما أخرجه مسلم" منفردا به، فيقدم ما انفرد به البخاري على ما انفرد به مسلم.
قال
الحافظ ابن حجر: هذه الأقسام للصحيح التي ذكرها المصنف- يريد ابن صلاح-
ماشية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد، إلا أنها قد تطرد لأن الحديث الذي
انفرد به مسلم مثلا إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى يباغ التواتر أو الشهرة
القوية أو يوافقه على تخريجه مشترطوا الصحة مثلا ى يقال فيه إن ما انفرد
البخاري بتخريجه إذا كان فردا ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك، فليحمل
إطلاق ما ذكر على الأغلب.
قلت: أو يقال مرادهم أن ما انفرد به مسلم أو
انفرد به البخاري مقيد بقيد الحيثية أي ما انفرد به مسلم من حيث انفراده
دون ما انفرد به البخاري من تلك الحيثية فلا ينافي تقديم ما انفرد به مسلم
من حيثية أخرى.
"والرابع" من الأقسام "ما هو على شرطهما" أي الشيخين ولم يخرجه واحد منهما وإلا لكان من القسم الثاني.
واعلم أنه قد قال ابن الهمام في شرح الهداية من قال أصح الأحاديث ما في
الصحيحين
ثم ما اشتمل على شرط أحدهما تحكم لا يجوز التقليد فيه إذا الأصحية ليست
إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها فإذا وجدت تلك الشروط في
رواة حديث في غير الكتابين أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين
التحكم. اهـ.
قلت: قد يجاب بأن ما أخرجاه ونصا على رواته يعلم أنهما قد
ارتضيا رواته وأما ما كان على شرطهما فإنه لم يتم دليل على تعيين شرطهما بل
أئمة الحديث تتبعوا شرائط في الرواة وقالوا هي شرط الشيخين ولم يتفقوا على
ذلك بل رد بعضهم على بعض كما سنعرفه فالحديث الذي يقال فيه على شرطهما لا
يفيد إلا ظنا ضعيفا أنه على شرطهما لعدم تصريحهما بشرطهما بخلاف من رويا
عنه في كتابيهما فإنه يحصل الظن بأنهما قد ارتضياه وإن قدح في بعض رجالهما
والأغلب عدم ذلك والحكم للأغلب عند الظن نعم إذا روي حديث بنفس رجالهما من
غير نقص فله حكم ما فيهما.
"والخامس ما هو على شرط البخاري" فيقدم.
"والسادس ما هو على شرط مسلم" كما قدم ما انفرد بإخراجه والعلة العلة.
"والسابع ما هو صحيح عند غيرهما" أي غير الشيخين "من الأئمة المعتمدين وليس على شرط واحد منهما" .
هذا
التقسيم هو المعروف في كتب علوم الحديث وفائدة هذا التقسيم تظهر عند
الترجيح هذا وأما الحاكم أبو عبد الله فإنه قسم الصحيح عشرة أقسام خمسة
متفق عليها وخمسة مختلف فيها ذكره ابن الأثير:
الأول من المتفق عليه :
اختيار الشيخين وهو الدرجة العليا من الحديث وهو الحديث الذي يرويه الصحابي
المعروف بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ثم
يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان تثقان ثم يرويه
عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة من الطبقة الرابعة
ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته فهذه
الدرجة العليا من الصحيح والأحاديث المروية بهذه الشرطة لا يبلغ عددها عشرة
آلاف.
الثاني من المتفق عليه : الحديث الذي ينقله العدل عن العدل
فيرويه الثقات الحفاظ إلى الصحابي وليس لهذا الصحابي غلا راو واحد مثل حديث
عورة ابن مدرس الطائي،
قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
المزدلفة فقلت: يا رسول الله أتيتك من جبل طي أكلل فرسي وأتعبت مطيتي والله
ما تركت من جبل إلا وقد وقفت عليه... الحديث1 فهو حديث من أصول الشريعة
منقول بين الفقهاء ورواته كلهم ثقات ولم يخرجه البخاري إذ ليس له راو عن
عروة بن مدرس إلا الشعبي.
الثالث من المتفق عليه : إخبار جماعة من التابعين عن الصحابة ثقات إلا أنه ليس لكل واحد منهم إلا الراوي الواحد.
الرابع
من المتفق عليه : الأحاديث الأفراد التي يرويها الثقات وليس لها طرق مخرجة
في الكتب مثل حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان"2
وقد أخرج مسلم أحاديث العلاء أكثرها في كتابه وترك هذا وأشباهه مما تفرد به
العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.
الخامس من المتفق عليه : أحاديث جماعة من
الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم عن أجدادهم إلا
عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وجده عبد الله بن عمرو ابن العاص
ومثل بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وأحاديثهما على كثرتها محتج بها في كتب
العلماء وليست في الصحيحين.
وأما الخمسة المختلف فيها :
فأولها المراسيل : فقد اختلف الأئمة في قبولها والعمل بها ويأتي كلام المصنف فيها.
الثاني
من المختلف فيه : رواية ا لمدلسين إذا لم يذكروا سماعهم في الرواية
فيقولون قال فلان ممن هو معاصرهم رواه أو لم يروه ولا يكون لهم فيه سماع
ولا إجازة ولا طريق من طرق الرواية وأنواع التدليس كثيرة وسيأتي ذكرها.
الثالث
من المختلف فيه : خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين بسنده
ثم يرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلون وهذا القسم كثير وهو صحيح على مذهب
الفقهاء والقول فيه عندهم قول من زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقة وأما
أهل الحديث فالقول عندهم فيه قول الجمهور الذين وثقوه وأرسلوه لما يخشى من
ـــــــــــــــــــ
1
ا[و داةد في: المناسك: ب "28"، والترمذي في: الحج ب "57"، والنسائي في:
المناسك: ب "211"، والدارمي في: المناسك: ب "54"، وأحمد "4/261".
2 أبو داود "2337"، والبيهقي "4/209".
الوهم على الواحد.
والرابع من المختلف فيه : رواية محدث صحيح السماع صحيح الكتاب معروف بالرواية ظاهر العدالة غير أنه لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه.
قال الحاكم: كأكثر محدثي زماننا هذا وهو محتج به عند أكثر أهل الحديث وجماعة من الفقهاء فأما أبو حنيفة ومالك فلا يريان الاحتجاج به.
الخامس من المختلف فيه : روايات المبتدعة وأصحاب الأهواء وهي عند أكثر أهل الحديث مقبولة إذا كانوا فيها صادقين.
وكان
أبو بكر محمد ابن اسحق بن خزيمة يقول حدثني الصدوق في روايته المتهم في
دينه وفي البخاري جماعة من هؤلاء وأما مالك فإنه كان يقول لا يؤخذ حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب
يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم أنه يكذب على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
قال الحاكم: هذه وجوه الصحيح المتفقة والمختلفة قد
ذكرناها لئلا يتوهم متوهم أنه ليس يصح من الحديث إلا ما أخرجه البخاري
ومسلم انتهى منقولا من مقدمات جامع الأصول وصوبه صاحب جامع الأصول وبني على
ما قاله من شرط الشيخين وأطال في ذلك بما هو معروف.
وخالفه الحافظ ابن
حجر فتعقب كلام الحاكم فقال بعد نقل معناه لولا أن جماعة من المصنفين
كالمجد ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه أي الحاكم بالقبول
لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث
والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه هذا فإن حكايته خاصة تغني اللبيب الحاذق فأقول
أما القسم الأول الذي ادعى أنه شرط الشيخين فمتقوض بأنهما لم يشترطا ذلك
ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لمن نظر في كتابيهما.
وأما ما زعمه بأنه ليس في الصحيحين شيء من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مذكورة في أثناء الكتاب.
وأما
قوله إنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود أيضا
بما أخرج البخاري عن الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يروه عنه
الزهري في أمثلة قليلة.
وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في
الصحيحين منها شيء فليس كذلك بل فيهما قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء
الدين المقدسي في جزء مفرد.
وأما قوله: ليس فيهما من روايات من روي عن
أبيه عن جده، مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن
أبيه عن جده برواية عبد الله ابن محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك
ومن ذلكما تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما.
وأما الأقسام
الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شيء فالأول كما قال
نعم قد يخرجان منه في الشواهد وفي الثاني: نظر يعرف من كلامنا في التدليس.
وأما ما اختلفا في إرساله ووصله بين الثقات ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدار قطني بعضه في التتبع له وأجبنا عن أكثره.
وأما روايات الثقات غير الحفاظ ففي الصحيحين منه جملة أيضا لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلا يقويه.
وأما
روايات المبتدعة إذا كانوا صادقين ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك لكنهم
من غير الدعاة ولا الغلاة وأكثر ما يخرجان من هذا القسم في غير الأحكام نعم
قد أخرجا لبعض الدعاة والغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما إلا
أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه وقد فات الحاكم من الأقسام
المختلف فيها قسم نبه عليه القاضي عياض وهو رواية المستورين فإن روايتهم
مما اختلف في قبولها وردها ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك تلقي حديثهم
اسم الصحة عليه بل الذين قبلوه جعلوه من قسم الحسن بشرطين:
أحدهما : أن لا تكون روايتهم شاذة.
وثانيهما : أن يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية كما قرر في الحسن. انتهى.
"قلت:
والوجه في هذا" أي في تقديم ما انفق الشيخان عليه إلى آخر الأقسام السبعة
أي دليل على ما ذهبوا إليه من الحكم بالصحة للأقسام السبعة وعلى ترتبيها
المذكور "عند أهل الحديث: هو تلقي الأمة للصحيحين بالقبول ولا شك أنه" أي
التلقي
من الأمة بالقبول للصحيحين "وجه ترجيح".
اعلم أن معنى
تلقي الأمة للحديث بالقبول هو أن تكون الأمة بين عامل بالحديث ومتأول له
كما في غاية السول وغيرها من كتب الأصول وهذا التلقي لأحاديث الصحيحين
يحتاج مدعيه في إثبات هذه الدعوى إلى دليل فتقول هذه الدعوى تحتاج إلى
استفسار عن طرفيها هل المراد كل الأمة من خاصة وعامة كما هو ظاهر الإطلاق
أو المجتهدون من الأمة وهو معلوم بأن الأول غير مراد فالمراد الثاني: وهو
دعوى أن كل فرد فرد من مجتهدي الأمة تلقي الكتابين بالقبول ولا بد مت إقامة
البينة على هذه الدعوى ولا يخفي أن إقامته عليها من المتعذرات عادة كإقامة
البينة على دعوى الإجماع فإن هذا فرد من أفراده.
وقد جزم أحمد ابن حنبل
وغيره بأن من ادعى الإجماع فهو كاذب وإذا كان هذا في عصره قبل عصر تأليف
الصحيحين فكيف بعده مع أن هذا الإجماع بتلقي الأمة لها لا يتم إلا بعد عصر
تأليفهما بزمان حتى ينتشروا يبلغا مشارق الأرض ومعاربها وينزلا حيث نزل كل
مجتهد مع أنه يغلب في الظن أن في العلماء المجتهدين من لا يعرف الصحيحين
فإن معرفتهما بخصوصهما ليست شرطا في الاجتهاد قطعا ولاحاصل منع هذه الدعوى.
ثم
إن سلمت هذه الدعوى في هذا الطرق ورد سؤال الاستفسار عن الطرق الثاني: وهو
هل المراد من تلقي الأمة لهذين الكتابين الجليلين معرفة الأمة بأنهما
تأليف الإمامين الحافظين فهذا لا يفيد إلا صحة الحكم بنسبتهما إلى مؤلفيهما
ولا يفيد المطلوب أو المراد تلقيها لك فرد فرد من أفراد أحاديثهما بأنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو المفيد للمطلوب إذا هو الذي رتب
عليه الاتفاق على تعديل روايتهما إذا التلقي بالقبول هو ما حكم المعصوم
بصحته ضمنا كما رسمه المصنف في كتبه وهو يلاقي معنى ما أسلفناه عن
الأصوليين من أنه ما كانت الأمة بين متأول له وعامل به، إذ لا يكون ذلك إلا
بما صح لهم ولكن هذه الدعوى لا يخفي عدم تسليمها في كل حديث من أحاديث
الصحيحين غيرما استثنى إذ المعصوم هو الأمة جميعا أو مجتهدوها ولا يتم أن
كل حديث حكم المعصوم بصحته ضمنا إذا ذلك فرع إطلاع كل فرد من أفراد
المجتهدين على كل فرد من أفراد أحاديث الكتابين.
على أن التحقيق أن الأمة إنما عصمت عن الضلالة لا عن الخطأ كما قررناه في
الدراية حواشي شرح الغاية فحكم الأمة بصحة حديث من الأحاديث الأحادية وهو غير صحيح في نفس الأمر ليس بضلالة قطعا.
ولئن
سلمنا أن مجتهدي الأمة كلهم تلقوا أحاديث الصحيحين بالقبول وصاروا بين
عامل بكل فرد من أحاديثهما ومتأول فإنه لا يدل ذلك على المدعى وهو الصحة
لأن الحسن يعمل ويتأول فلي التلقي بالقبول خاصا بالصحيح فقول المصنف إن
التلقي بالقبول حكم من المعصوم بصحته ضمنا لا يتم إلا إذا لم يعمل المعصوم
بالحسن ولا يتأوله والمعلوم خلافه ولئن سلم ما ادعاه المصنف ومن سبقه ووجه
دعواهم ثم ذلك وجها لأحاديث الصحيحين لا غير لا لما هو على شرطهما إذ لا
شرط لهما مقطوع به كم ستعرفه حتى يشمله التلقي بالقبول ولا يشمل ذلك الوجه
القسم السابع وهو ما صححه إمام من الأئمة لاختصاص التلقي بالصحيحين ثم إذا
كان وجه أرجحتهما هو التلقي المذكور فهما متلقيان على السوية فلا وجه لجعل
ما اتفقا عليه مقدما على ما إذا انفرد كل واحد منهما ولا يجعل ما انفرد به
البخاري أرجح من حيثية التلقي لاستواء الجميع فيه إذا عرفت ما في هذا
الاستدلال على تقدم الصحيحين هو إخبار مؤلفيهما بأن أحاديثهما صحيحة وقد
علم أنهما عدلان بلا ريب وخبر العدل واجب القبول فقول البخاري هذه أحاديث
صحيحة بمثابة قوله رواة هذه الأحاديث عدول ضابطون ولا شذوذ فيها ولا علة
وحينئذ فيجب قبول خبره كما يقبل تعديله للمجهول، وإخباره بضبطه وخلوص
الحديث عن العلة والشذوذ لأن لفظ صحيح متكفل بهذه المعاني كما قررناه في
رسالتنا إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد تقريرا بليغا وقال المصنف في
العواصم إن الثقة العارف إذا قال إن الحديث صحيح عنده وجزم بذلك وجب قبوله
بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد ولم يكن ذلك تقليدا
له ولعله يأتي.
وأما أنهما أصح من غيرهما فقد يستأنس له بما علم من
تحريهما في الرجال وعدم التساهل في ذلك بحال إلا أنه ليس حكما على كل حديث
حديث بل حكم على الأغلب وقد بحثنا في استدلالهم بتلقي الأمة للصحيحين
بالقبول بقريب مما هنا في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر.
"وقد اختلف هل يفيد" أي تلقي الأمة للصحيحين بالقبول "القطع بالصحة" لما
فيهما
"كما سيأتي" في مسألة حكم الصحيحين "فأما قوة الظن فلا شك فيها" أي في
إفادته لها "وإن لم يسلم لهم" أي للمحدثين "إجماع الأمة" لأن دعواهم تلقي
الأمة بالقبول يتضمن إجماعها "فلا شك في إجماع جماهير النقاد من حفاظ الأثر
وأئمة الحديث على ذلك والترجيح يقع بأقل من ذلك على ما يعرفه من له أنس
بعلم الأصول" هو كما قال إلا أنه خروج عن دعوى تلقي الأمة المتضمن للصحة
كما قرره ورجوع إلى أن حديث الصحيحين أرجح من غيره من الصحيح.
وكأنه يقول المصنف إذا لم يتم التلقي بالقبول ثم الترجيح وعلى التقديرين فأحاديث الصحيحين أرجح من غيرها من جهة الصحة.
"واعلم
أن هذا الفصل يشتمل على أمرين أحدهما أن ما في البخاري ومسلم من الحديث
المسند صحيح متلقي بالقبول من الأئمة" لا يخفي أنه كان يكفي هذا عن قوله
صحيح لن التلقي يتضمن الصحة بل هو دليلها "وذلك هو الظاهر فقد ذكر صحتهما
المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في كتابه العقد الثمين وفي غيره وذكر
الأمير الحسين" أي ابن محمد مؤلف كتاب شفاء الأوام "صحيح البخاري في كتابه
الشفاء بلفظ الصحيح" وكذلك الزمخشري في الكشاف ذكره بلفظ الصحيح في العواصم
للمصنف أن الزمخشري ذكر صحيح مسلم بلفظ الصحيح فينظر هل ذكر فيه البخاري
أيضا كما هنا إلا أنه قد يقال إن ذكر من ذكرهما بلفظ الصحيح لا يدل على أنه
قائل بصحتهما بالمعنى المراد هنا وذلك لأن لفظ الصحيح قد صار لقبالهما في
العرف فإنه لا اسم لها إلا الصحيح البخاري وصحيح مسلم ثم إنه استدل بأنه
ذكرهما من ذكر بلفظ الصحيح وليس من ذكر كل الأمة وكأنه يريد الاستدلال على
قول الزيدية بصحتهما لا على قول الأمة إذ قد علم أن من عدا الزيدية قائل
بصحتهما وإنما الحاجة إلى بيان أنهم قائلون أيضا بصحتهما فذكر منهم المنصور
بالله والأمير الحسين إلا أنه لا يناسبه ذكر الزمخشري إذ ليس من الزيدية
وإن وافقهم في بعض قواعد المعتزلة ثم ذكر جماعة من الزيدية بقوله "ونقل
عنهما وعن غيرهما" أي عن غير الصحيحين ولا حاجة إلى ذكره إذ الكلام في
الصحيحين "المصنفون" من الزيدية "كالمتوكل على الله" هو الإمام أحمد بن
سليمان في كتابه أصول الأحكام "والأمير الحسين في شفاء الأوام ولم يزل
العلماء" من الزيدية "يحتجون بما فيهما قال المنصور بالله" عبد الله بن
حمزة "في المهذب ولم يزل أهل التحصيل" يريد من
الزيدية لقوله
"يحتجون بأحاديث المخالفين لهم في الاعتقاد" في المسائل الأصولية كخلق
الأفعال والإمامة والرؤية ونحوها "بغير مناكرة" لعل هذا آخر كلامه.
ثم
استأنف المصنف فقال: "وهذه" يعني أحاديث الصحيحين إذ الكلام فيها "أصح
أحاديث المخالفين بغير مناكرة وقد استمر ذلك" أي استدلال أهل التحصيل
بأحاديث المخالفين في الاعتقاد "وشاع وذاع ولم ينقل عن أحد فيه نكير وهذه"
أي صورة الاستدلال الشائع الذائع الذي لم ينكره أحد "طريق من طرق الإجماع
السكوتي" إذ حقيقته عند أئمة الأصول أن يقول المجتهد قولا أو يفعل وينتشر
ويعلم به الباقون من المجتهدين ولا ينكرونه ويعلم أن سكوتهم رضا بقوله
أوفعله وهذه صورة ثم هذا مبني على أن الإجماع السكوتي هنا حجة شرعية وقد
بحثنا في ذلك في الدراية على الغاية والهداية وحققنا ما في القول بحجيته.
"بل
هذه أكثر طرق الإجماع المحتج به بين العلماء" فإن غاية ما يقوله الباحثون
والمدعون للإجماع إنه قيل هذا القول أو فعل هذا الفعل ولم ينكره أحد فكان
إجماعا وأما الإجماع المحقق وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه
وسلم على قول في عصر بعده فقد قال أحمد بن حنبل من ادعاه فهو كاذب وذهب
إلى إحالته جماعة من أئمة الأصول فلذا قال المصنف إن الإجماع السكوتي أكثر
طرق الإجماع "وهذا" أي ما ذكر من استدلال أهل التحصيل إلى آخره "في ديار
الزيدية" إلا أنه لا يخفي أنه قد يقال إنه لا يتم دعوى الإجماع المذكور لأن
قبول أخبار المخالفين في الاعتقاد هي مسألة قبول كفار التأويل وفساقه
وسيأتي أنها مسألة خلافية.
وقد تكرر أنه لا نكير في الخلافيات وحينئذ
فالسكوت على ذلك وعدم النكير لكون المسألة خلافية لا أنه للرضا من الساكت
حتى يكون هذا من الإجماع السكوتي فالحق أن هذا الاستدلال المذكور بأحاديث
المخالفين فرع عن قبول كفار التأويل وفساقه فاستدلال من ذكر بأحاديثهم دليل
على قبولهم وسيأتي دعوى الإجماع على ذلك وتحقيق المسألة إن شاء الله
تعالى.
"فأما بلاد الشافعية وغيرهم من الفقهاء" أتباع مالك وأبي حنيفة
وأحمد "فلا شك في ذلك وقد أشرت إلى ذلك في العواصم وبينت أكثر من هذا
فليطالع هنا لك" قال فيها والظاهر بن إجماع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم
القول بما قاله الفقهاء من صحة هذه الكتب إلا ما ظهر القدح فيه وإنما قلنا
إن الظاهر إجماعهم على ذلك لأن
الاحتجاج بصحيح ما في هذه الكتب
ظاهر في مصنفاتهم شائع في بلادهم ثم ذكر نقل الإمام أحمد بن سليمان والأمير
الحسين وعبد الله بن حمزة وأنه إجماع سكوتي ثم قال وأقصى ما في الباب أن
ينقل إنكار ذلك عن بعض العلماء في بعض الأعصار فذلك النقل في نفسه ظني نادر
واعتبار القدح بالظني النادر في عصر مخصوص لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر
وذكر مثل ما هنا.
وأيما أطال هنا لك في قول أبي نصر الوائلي السجزي حيث
قال أجمع أهل العلم والقدماء وغيرهم أن رجلا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في
البخاري مما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صح عنه وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لا شك فيه أنه لا يحنث ولامرأة بحالها في حبالته
فقال المصنف في العواصم بعد نقله الظاهر إجماعهم على ذاك وإجماع غيرهم لأن
المعروف في كتب الفقه أن من حلف بالطلاق على صحة أمر وهو يظن صحته ولم
ينكشف بطلانه لم يحنث لأن الأصل بقاء الزوجية ولا تطلق بمجرد الاحتمال
المرجوح كما لو ظن في طائر أنه غراب فحلف بالطلاق أنه غراب ثم غاب عن يصره
ولم يتمكن من أخذ اليقين في ذلك فإن زوجته لا تطلق انتهى.
ثم ذكر في هذا المحل أربعة عشر بحثا إلا أنه لا تعلق لها بما نحن فيه.
"وأما
الأمر الثاني: وهو أن البخاري ومسلما أصح كتب الحديث فهذا مما لا يوجد
للزيدية فيه نص والظاهر من مذهبنا أن رواية أئمتنا" في العلم "إذا تسلسل
إسنادها بهم" يأتي تفسير المسلسل "ولم يكن بينهم من هو دونهم أنها أصح
الأسانيد مطلقا" لم يستدل المصنف لهذا الظاهر وقد قال الإمام عبد الله ابن
حمزة مشيرا إلى هذا:
كم بين قولي عن أبي عن جده وأبي أبي فهو الإمام الهادي
وفتى
يقول روي لنا أشياخنا ما ذلك الإسناد من إسناد "ولكنه يقل وجودها على هذه
الصفة" حتى إنه ذكر المصنف في إيثار الحق وغيره أنه ليس في كتاب الأحكام
للإمام الهادي إمام مذهب الزيدية حديث مسلسل بآبائه إلا حديثا واحدا وهو
قوله حدثني أبي وعماي محمد والحسن عن أيها القسم بن إبراهيم عن أبيه عن جده
إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام
عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم
نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله إنهم
مشركون1. انتهى بلفظه من الأحكام فلذا قال المصنف إنه يقل وجود الأحاديث بهذه الصفة لأهل مذهبه.
واعلم أن قول المصنف مذهبنا وأصحابنا جريا على المألوف وإلا فإنه لا يعنزي إلى فريق في مذهبه كما أشار إليه في أبياته الدالية ومنها:
والكل إخوان ودين واحد كل مصيب في الفروع ومهتدي
هذي
الفروع وفي العقدية مذهبي ما لا يخاف فيه كل موحد "وأما كتب الحديث في
أنفسها فلعل أصحابنا لا يخالفون في أن أصحها البخاري ومسلم لغزة شرطهما وما
فيه" أي شرطهما "من التحري والاحتياط" ولما تكرر من المصنف ذكر شرطهما في
تقسيم الصحيح وهنا توجه عليه ذكر شرطهما فقال: "وقد اختلف المحدثون في
تفسير شرط البخاري ومسلم" اعلم أنه لم ينقل عن الشيخين شرط شرطاه وعيناه
إنما تتبع العلماء الباحثون عن أساليبهما وطريقتهما حتى تحصل لهم ما ظنوه
شروطا لها ولذا اختلفوا فيه لاختلاف أفهامهم فيها فإنهم اختلفوا فيها على
ثلاثة أقوال:
الأول : ما أفاده قوله: "فقال محمد بن طاهر2" المقدسي "في
كتابه في شروط الأئمة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة
نقلته" أي عدالة وضبطا "إلى الصحابي المشهور" فيه دليل على أنه يرى أن شرط
الشيخين متحد وأنه شيء واحد قلت: ولا يخفي أنه لا يوافق ما سلف من تقسيم
الصحيح ومن قولهم ثم ما على شرط البخاري ثم ما على شرط مسلم.
"قال زين
الدين: وليس مما قاله ابن طاهر بجيد" حيث قال: المجمع على ثقة نقلته فإنه
غير صحيح "لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما" فلم تتم دعوى
ابن طاهر أن رواتهما مجمع على ثقتهم.
"قلت: ما هذا" أي تضعيف جماعة من
رواة الشيخين "مما اختص به النسائي بل شاركه في ذلك غير واحد من أئمة الجرح
والتعديل كما هو معروف في كتب هذا
ـــــــــــــــــــ
1 الحلية 4/95 والعلل 1/160, وابن أبي عاصم 2/475.
2
محمد بن طاهر المقدسي الحافظ العالم الجوال قال ابن منده: كان أحد الحفاظ
حسن الاعتقاد جميل الطريقة كثير التصانيف لازما للأثر مات سنة 507. له
ترجمة في: العبر 4/14. وتذكرة الحفاظ 4/1242.
الشأن" كأنه لم يرد
الزين إلا التمثيل وإلا فإنه لا يخفى على مثله أن غير النسائي قدح في جماعة
من رواتهما "ولكنه" أي ما ضعف به من قدح فيه من رواتهما "تضعيف مطلق" فسر
المطلق بقوله "غير مبين السبب" فهو وصف كاشف "وهو غير مقبول على الصحيح كما
سيأتي بيان ذلك في موضعه من هذا المختصر" سيأتي للمصنف رحمه الله تعالى في
مراتب الجرح في الفائدة السادسة أن الجرح الذي لم يبين سببه غير مفيد
للجرح ولكن يوجب الريبة والوقف في غير المشاهير بالعدالة والأمانة فلا يؤثر
فيهم ولا مفتر بأن الجرح مقدم على التعديل فذاك الجرح المبين للسبب انتهى.
قلت:
إلا أنه لا يخفى أنه ليس كل من جرح من رجال الصحيحين جرحه مطلق مطلقا بل
فيهم جماعة جرحوا جرحا مبين السبب منهم من جرح بالإرجاء كأيوب بن عائد بن
مفلح أخرج له الشيخان قال النسائي وأبو داود كان مرجئا وقال غيرهما كان يرى
الإرجاء إلا أنه صدوق وبالنصب فإنه أخرج البخاري لثور بن يزيد الحمصي وكان
يرمي بالنصب قال ابن معين كان يجالس قوما ينالون من أمير المؤمنين علي رضي
الله عنه لكنه كان لا يسب وأخرج البخاري لجرير بن عثمان الحمصي قال الفلاس
كان يبغض عليا قال الحافظ بن حجر جاء عنه ذلك من غير وجه وجاء عنه خلاف
ذلك روي عنه أنه تاب.
وبالتشيع أخرج البخاري عن خالد القطواني قال ابن
سعد كان متشيعا مفرطا وبالقدر أخرج لهشام بن عبد الله الدستوائي كان حجة
ثقة إلا أنه كان يرمي بالقدر قاله محمد بن سعيد وفيهم عوالم ممن رمي ببدعة
وقد سقنا في ثمرات النظر جماعة من ذلك.
وقد أخذوا السلامة من البدعة في
رسم العدالة فالبدعة قادحة عندهم فيها وفيهم من هو داعية إلى بدعته حتى
بالغ ابن القطان وقال في رجالهما من لا يعرف إسلامه نقله عن العلامة
المقبلي وإن كنا لا نرى هذا إلا من العلو فأنه من المعلوم أنه لا يروى أئمة
الحديث عن غير مسلم على أنه لو سلم للمصنف أنه ليس في رجالهما إلا من جرح
جرحا مطلقا فإنه قال إنه يوجب الريبة والتوقف وهذا كاف يما تعقب به زين
الدين ابن طاهر حيث قال إن شرطهما أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلت:ه
إذ الثقة لا يتوقف في قبول روايته لسلامته عن الجرح مطلقا مفسرا فقول
المصنف وهو أي التضعيف المطلق غير مقبول على الصحيح خلاف يأتي
له من أنه يقتضي الريبة والتوقف لا أنه يجزم بعدم القبول له كما هنا.
القول
الثاني : مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله "قال الحازمي" كما نقله
عنه زين الدين "في شروط الأئمة ما حاصله إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل
إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخفوا عنه ملازمة طويلة" هذا لا
يوافق ما نقل عن البخاري من أنه يشترط اللقاء ولو مرة بل هذا يدل على أنه
إنما يكتفي بالمرة في حق أهل الطبقة الثانية الذين أشار إليهم بقوله: "وأنه
قد يخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن
رووا عنه فلم يلازموه إلا ملازمة يسيرة وأن شرط مسلم" عطف على قوله أن شرط
البخاري "أن يخرج أحاديث هذه الطبقة الثانية" لا يخفي أن مسلما لا يشترط
اللقاء أصلا كما صرح به في مقدمة صحيحة كما يأتي لفظه.
وأهل هذه الطبقة
يشترط فيهم اللقاء ولو يسيرا كما عرفت فإن أريد أن مسلما قد يخرج لأهل هذه
الطبقة فنعم ويخرج لأهل الأولى وهم على شرطه وزيادة وليسوا شرطه إلا أن
يريد هنا تخريجه بغير العنعنة إذ هي التي لا يشترط فيها اللقاء فلا بأس لكن
كان عليه أن يصرح بذلك هنا.
"وقد يخرج مسلم أحاديث من لم يسلم عن غوائل
الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت اللبناني
وأيوب" قال الذهبي في الميزان احتج مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدة في
الأصول وتحايده البخاري قال الحاكم: في المدخل ما خرج مسلم لحماد بن سلمة
في الأصول إلا في حديثه عن ثابت قال الذهبي وحماد إمام جليل مفتي أهل
البصرة مع اسحق ابن أبي عروبة انتهى ولم يذكر فيه جرحا إلا أنه ساق عنه
أحاديث فيها نكارة.
"قال زين الدين: هذا حاصل كلام الحازمي" ونقل النووي
في شرح مسلم عن ابن الصلاح أن شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل
الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما عن الشذوذ والعلة.
وقال النووي أيضا ذكر مسلم في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:
الأول : ما رواه الحفاظ المتقنون.
والثاني : ما رواه المستورون المتوسطون في الإتقان والحفظ.
و الثالث : ما رواه الضعفاء والمتروكون.
وأنه
إذا فرغ من هذا القسم الأول أتبعه الثاني: وأما الثالث: فلا يعرج عليه
فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الإمامان الحافظان أبو عبد الله
الحاكم وصاحبه أبو بكر البيهقي1 إن المنية اخترمت مسلما قبل إخراج القسم
الثاني: وإنما ذكر القسم الأول.
قال القاضي عياض وهذا مما قبله الشيوخ
والناس من الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه قال القاضي وليس الأمر على ذلك
لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد فإنك إذا نظرت في تقسيم مسلم في كتابه
الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال فذكر أن القسم الأول حيث الحفاظ
وإنه إذ انقضى أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق والإتقان مع كونهم من أهل
الستر والصدق وتعاطي العلم ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع العلماء أو اتفق
الأكثر منهم على تهمته وبقي من ذكره بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا
ووجدته ذكر في كتابه حديث الطبقتين الأوليين بالأسانيد الثابتة عنهما بطريق
الاتباع للأولى والاستشهاد وحيث لم يجد في الباب من الأولى شيئا ذكر
أقواما تكلم فيهم قوم وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أوانهم ببدعة وكذا
فعل البخاري فتبين أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتبه في
كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص عليه.
قلت: وهي التي تأتي في عبارته بقوله وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه.
والحاكم
لم يذكر إلا ثلاث طبقات كما عرفت فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل
طبقة كتابا ويأتي بأحاديثها خاصة مفردة وليس ذلك مراده بل إنما أراد ما ظهر
في تأليفه وبأن من غرضه أن يجمع ذلك على الأبواب ويأتي بأحاديث الطبقتين
فيبتدئ بالأولى ثم يأتي ب الثانية على طريق الاستشهاد والإتباع حتى يستوفي
جميع الأقسام الثلاثة.
ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم و الثالثة هي التي
ـــــــــــــــــــ
1
أبو بكر البيبهقي هو: الإمام الحافظ شيخ خراسان أحمد بن الحسين بن علي بن
موسى الخسر وجردى لزم الحاكم وتخرج به وأكثر عنه جدا وانفرد بالإتقان
والضبط مات سنة 458. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/94. والعبر 3/242.
ووفيات الأعيان 1/20.
طرحها وكذلك علل الأحاديث التي ذكرها ووعد أنه
يأتي بها وقد جاء بها في مواضعها من الأبواب من اختلافهم في الأسانيد
كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين وهذا يدل على
استيفائه غرضه في تأليفه وإدخاله في كتابه كل ماوعد به.
قال القاضي وقد
فاوضت في تأويلي هذا ورأيي من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا إلا صوبه وبان
له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع الأبواب انتهى.
قلت: قد اضطرب1 العلماء في فهم مراد مسلم فلننقل لفظه ولنبين ما يفهمه.
قال مسلم في مقدمة صحيحه2 إنه يقسم الرواة على ثلاث طبقات من الناس:
أما
القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها
وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوه ولم يوجد
في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش ثم قال فإذا نحن تقصينا أخبار هذا
الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف
بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم فبلهم على أنهم وإن كانوا ممن وصفنا فإن اسم
الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم ثم قال وأما ما كان منها عن قوم هم عند
أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فأنا لا نتشاغل بتخريج أحاديثهم ثم
قال وكذلك من كان الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثه
ثم قال أيضا فلسنا نصرح بتخريج حديثهم ولا نتشاغل به لأن حكم هؤلاء عند أهل
العلم والذي يعرف من مذهبهم في قبول ما انفرد به المحدث من الحديث أن يكون
قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا وأتقن في ذلك على الموافقة
لهم انتهى جملة ما قاله بلفظه إلا حذف ما أتى به من تعداد رجال من أهل كل
صنف.
إذا عرفت هذا فالذي عبارته أنه يخرج أحاديث أهل القسم الأول وهم
أهل الاستقامة في الحديث والإتقان لما نقلوه وهؤلاء المعروفون بتمام الضبط
المأخوذ قيدا في رسم الصحيح ثم يخرج أحاديث الصنف الثاني: وهم الذين خف
ـــــــــــــــــــ
1 اضطرب: اختلف.
2 1/4- 5.
ضبطهم
وهم من أهل الستر والصدق وتعاطي العلم وهؤلاء هم شرط الحسن فإنهم الذي خف
ضبطهم مع عدالته ثم ذكر أنه يترك الصنفين الآخرين بالكلية وهما قسمان :
الأول : المتهمون عند أهل الحديث أو عند الأكثر و الثاني : من الغالب على
حديثه المنكر أو الغلط فإنه صرح بأنه لا يتشاغل بأهل هذين القسمين ولا يخرج
أحاديثهم فعرفت أنه ذكر أنه قسم الرواة ثلاث طبقات وتحصل من كلامه أربع
طبقات فكأنه جعل من لا يتشاغل بحديثه قسما واحدا وبعد تحقيقك لما ذكرناه
تعرف أن قول القاضي إنه أتى مسلم بالطبقات الثلاث خلاف صريح قول مسلم بأنه
لا يتشاغل بحديث المتهمين عند أهل الحديث أو عند الأكثر فإن هؤلاء هم أهل
الطبقة الثالثة في كلامه وقول القاضي إنه طرح الرابعة صحيح لكنه أيضا طرح
الثالثة فإنه حكم على أهل الثالثة والرابعة أنه لا يتشاغل بحديثهم وقول
القاضي ويحتمل أنه أراد بالطبقات الثلاث من الناس الحفاظ ثم الذي يلونهم
والثالثة التي طرح يقال هذا هو الاحتمال الذي يتبادر إليه كلام مسلم لكنه
طرح الثالثة والرابعة أيضا.
وبعد هذا تعرف أن تأويل الحاكم بأنه إنما
أتى بأهل الطبقة الأولى غير صحيح لأنه صرح مسلم أنه بعد تقضي أخبار أهل
الطبقة الأولى يأتي بأهل الطبقة الثانية والظاهر أنه يأتي بهم في كتابه هذا
لا في غيره فتبين أنه أتى بأهل طبقتين وترك أهل طبقتين هذا ما يفيده كلامه
في المقدمة من دون نظر إلى ما في أبواب الكتاب ولا بد لنا من عودة إلى هذا
ونذكر ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله فيما يأتي.
وقد اتضح لك أن صحيح مسلم في الصحيح والحسن بصريح ما قاله واتضح لك أن الأمر أوسع دائرة مما قاله الحازمي.
"قلت:
ومراده" أي الحازمي "بإخراج مسلم لحديث من لم يسلم من غوائل الجرح إذا كان
طويل الملازمة هو" أي من لم يسلم من غوائل الجرح "أن يكون متكلما عليه
بضعف في حفظه لا في دينه" فهو خفيف الضبط "فإن ضعف الحفظ ينجبر بطول
الملازمة" فتلحقه طول الملازمة بالحفاظ المتقنين "وهذا معروف من عرف
المحدثين ولذا نجدهم يقولون في كثير من الرواة إنه قوي إذا روي عن فلان
ضعيف إذا روي عن فلان" فهذا كلام حسن جدا وفائدة جليلة فإنه قد يقول الناظر
إذا رأي أئمة الحديث يقولون مثلا في إسماعيل بن عباس إنه مقبول إذا روى عن
أهل الشام ضعيف في روايته عن غيرهم إنه كيف يقبل في قوم ويضعف في آخرين
فإنه إذا كان فيه شروط الرواية كاملة قبل في الفريقين وإلا رد فيها ولذا
وصى المصنف رحمه الله بمعرفة
هذا بقوله "فاعرف ذلك" لنفاثته.
الثالثة
: مما قيل إنه شرط الشيخين ما أفاده قوله: "وقال النووي إن المراد بقولهم"
أي أئمة الحديث "على شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما لأنه ليس
لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما قال زين الدين: وقد أخذ" أي النووي
"هذا من ابن الصلاح فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال إنه أودعه ما
رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما إلى آخر كلامه" وهو
قوله أو على شرط البخاري وحده أو على مسلم وحده "وعلى هذا" الذي ذكره ابن
الصلاح "عمل الشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه
لحديث على شرط البخاري مثلا" أي يقول بعد إخراجه في المستدرك على شطر
البخاري "ثم يعترض" الشيخ تقي الدين "عليه" على الحاكم "بأن فيه" أي الحديث
الذي صححه الحاكم على شرط البخاري مثلا "فلانا ولم يخرج له البخاري وكذلك
فعل الذهبي في مختصر المستدرك" فدل هذا منه ومن الشيخ تقي الدين أنهما جعلا
شرط البخاري ومسلم وجود رجال الإسناد في كتابيهما وأن شرطهما هو روايتهما
عن الراوي في كتابيهما كما قاله النووي وتبعهم الحافظ ابن حجر فقال في
النخبة وشرحها والمراد به أي شرطهما رواتهما مع باقي شروط الصحيح "وليس ذلك
منهم" أي من ابن الصلاح والنووي وابن دقيق العيد والذهبي "بجيد" أي جعلهم
شرط الشيخين ما ذكر غير جيد "فإن الحاكم صرح في خطبة كتابه المستدرك بخلاف
ما فهموه عنه فقال وأنا أستعين بالله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات
قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما" فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا أنهم
أنفسهم وحينئذ فلا يصح جعل شرطهما ما ذكره ابن الصلاح ومن تبعه إذا كان
مستندهم هو صنيع الحاكم في المستدرك فإن كلامه في الخطبة لا يوافق ما
قالوه.
قلت: ولكنه يبقى الإشكال في قول الحاكم على شرطهما ولم يخرجاه
فإنه قد أثبت لهما شرطا في الرواة فلينظر ما أراد بقوله على شرطهما فإنه
غير مبين ولا معلوم ووجود من ليس من رواتها في حديث يقول فيه على شرطهما
دليل على أنه لا يقول بأن شرطهما رواتهما وكيف يجهل رجالهما مع شدة عنايته
بكتابيهما ويجهل شرطهما مع أنه قد ذكر ابن الأثير في مقدمة كتابه جامع
الأصول ما نقلناه عنه في البحث الرابع في الكلام على رسم الصحيح فإنه قال
نقلا عن الحاكم شرط
الشيخين أن يرويا حديث الصحابي المشهور بالرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان إلى آخر ما قدمناه رجحه
ابن الأثير وذهب إليه ابن العربي المالكي وهذا قول رابع في شرط الشيخين
وحينئذ فإذا يقال الحاكم: على شرطهما فالمراد ما ذكره هو وقد نقله عنه
الحافظ ابن حجر في شرح النخبة ولكنه رده كما قدمناه.
وإذا عرفت هذه
الأربعة في شرطهما وعرفت أنها مدخولة كلها بما ذكر فاعلم أنه يرد على ما
ذكروه من جعلهم لشرط الشيخين متحدا كما هو الذي دل له كلام محمد بن طاهر
وكلام ابن الصلاح ومن تبعه من الثلاثة المحققين إشكال من جهتين.
الأولى :
أنهم قسموا الصحيح أقساما أحدهما ما كان على شرطهما ثم ما كان على شرط
البخاري ثم ما كان شرط مسلم وقد قرروا أن شرطهما شيء واحد متحد فكيف يتصور
انفراد شرط أحدهما عن الأخر وحينئذ فيسقط قسمان من السبعة الأقسام من أقسام
الصحيح وتبقى خمسة.
و الثانية : أنهم جعلوا ما هو على شرطهما قسما ولم يتعين لهما شرط فهو إحالة على مجهول.
نعم
يتم انفصال شرط أحدهما على شرط الآخر على كلام الحازمي وهو الذي أفاده
كلام الحافظ ابن حجر فيما نقلناه سابقا في مرجحات البخاري على مسلم وأن شرط
البخاري اللقاء ولو مرة وشرط مسلم مجرد المعاصرة ولو يسيرة إلا أن الخلاف
بين الشيخين في اللقاء وعدمه إنما هو في روايته العنعنة لا مطلقا.
قلت: ولا يخفي أن هذا خلاف ما صرح به مسلم في مقدمة صحيحه بعدم شرطية اللقاء بل هجن على من اشترطه غاية التهجين كما سيأتي لفظه.
وقال
الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها إن الصفات التي تدور عليها شروط الصحة من
العدالة وتمام الضبط في كتاب البخاري وأتم منها في كتاب مسلم وأشد وشرطه
أي البخاري أقوى وأسد إلى آخر كلامه الصريح في اختلاف شرط الشيخين.
وأنا
شديد التعجب حيث لم أجد من نبه على هذا مع وضوحه والتحقيق عندي أن العمدة
في الصحة وجود شرط البخاري لأنه أخص من شرط مسلم كما قررناه ووجود الأخص
لازم لوجود الأعم فإذا وجد الأخص فهو الأقوى وحينئذ فشرطهما
وشرط
البخاري قسم واحد وأقرب الأقوال إلى شرطهما كلام الحازمي لأنه فرق بين
الشرطين إلا أنه يرد عليه أنه قال شرط مسلم أن يخرج عمن هم في أعلى درجات
الإتقان ولازموا من أخذوا عنه ملازمة طويلة أو عمن ليسوا في أعلى درجات
الإتقان ولا لازموا من رووا عنه ملازمة طويلة فأفاد أن مسلما يشترط اللقاء
إذ هو لازم الملازمة طويلة كانت أو غير طويلة وقد عرفت أن مسلما صرح بخلاف
هذا بل هو مهجن على من اشترطه إلا أن يخص كلام الحازمي بغير ما رواه مسلم
بالعنعنة وفيه بعد هذا الحمل تأمل.
وأما الحافظ ابن حجر فإنه يتناقض
كلامه في النخبة وشرحها فذكر ما سمعته قريبا من أن شرط بالبخاري غير شرط
مسلم وذكر ما سمعنه قريبا من أن شرطهما وراتهما مع باقي شروط الصحة إلا أن
يقال مراده شرطهما رواتهما وكل واحد منهما له في رواته شروط يمتاز بها عن
رواة الآخر اتجه كلامه وسلم لكن قوله مع باقي شروط الصحة وهي السلامة عن
الشذوذ والعلة يفت في عضد هذا لأن من كملت عدالته وأتقن ضبطه قد لا تسلم
روايته عن العلة والشذوذ.
ثم من الأدلة على عدم اتحاد شرطهما ما ذكره
النووي في شرح مسلم أن أبا الزبيير المكي وسهيل بن أبي صالح وحماد بن سلمة
أحاديثهم صحيحة لأنهم على شرط مسلم اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت
عند البخاري ذلك فيهم وكذا فيما أخرجه البخاري من حديث عكرمة عن ابن عباس
واسحق بن محمد القروي وغيرهما مما احتج به البخاري ولم يحتج به مسلم انتهى
بمعناه وهو مبني على أن شرطهما رواتهما كما سلف.
ولكنه لا يخفي بعد هذا
كله أن جعل شرطهما ما ذكر من أحد الأربعة الأقوال إنما هو تظنن وتخمين من
العلماء أنه شرط لهما إذ لم يأت عنهما تصريح ما شرطاه نعم مسلم قد أبان في
مقدمة صحيحه من يخرج عنه حديثه كما عرفت.
ثم بقي بحث في تعقب الشيخ تقي
الدين على الحاكم حيث يقول على شرطهما فيقول فيه فلان لم يخرج له البخاري
وذلك أن ترك البخاري التخريج عن شخص ليس دليلا على أنه ليس على شرطه عند
الحكم فإن الحاكم قائل بأن شرطهما على ما قدمناه عنه بلفظه وأشرنا غليه
قريبا فتصريحه بشرطهما عنده يدل على أنه لا يقول بأن شرطها رواتهما وبما
صرح به من شرطهما ينبغي أن يتعقب كلام ابن دقيق العيد في
تعقبه
للحاكم بأن فلانا لم يخرج له البخاري مثلا وذلك لأن عدم إخراج البخاري عن
فلان ليس دليلا أنه ليس على شرطه عند الحاكم بل كل من وجدت فيه الصفات التي
ذكرها الحاكم وجعلها شرط رواة الشيخين فهو على شرطهما وإن لم يخرجا عنه
فإذا أريد الانتقاد على الحاكم إذا قال على شرطهما ثم وجدنا فيه رجلا لم
يخرجا عنه نظرنا في صفات ذلك الرجل هل هو جامع لما ذكره الحاكم من الصفات
في شرط رواتهما فلا اعتراض عليه بأنه لم يخرج له الشيخان مثلا فالمعتبر
وجود الشرط في الراوي لا وجوده عندهما أو عند أحدهما.
وبعد هذا تعرف أن
قوله في خطبة المستدرك قد احتج بمثلها أي مثل رواتها في صفاتهم التي ذكرها
وقد يكونون هم أنفسهم أو من اتصف بصفاتهم إذ ذلك هو المعتبر عنده لا أن
شرطهما عنده وجود الراوي في كتابيهما كما عرفته من كلامه الذي قاله عنه ابن
الأثير والحافظ ابن حجر وإن كان كلاما غير مقبول لكن المراد تطبيق كلامه
على ما صرح هو به لا على كلام غيره كما فعله زين الدين ويلزم زين الدين أن
الحاكم لم يخرج عمن خرجا عنه في كتابه المستدرك أصلا ولذا قال الزين لا
أنهم أنفسهم وهذا خلاف الواقع فلم يرد الحاكم في خطبته إلا مثل من كان على
صفة رواتهما التي هي شرطهما عنده أعم من أن يكون نفس رواتهما أو غيرهما ممن
له تلك الصفات "ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث" فيكون ضمير يمثلها
للأحاديث لا لرواتهما "وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها" وبهذا
الاحتمال يتم ما ادعاه ابن الصلاح ومن تبعه.
قلت: ولا يخفى ما قصدناه
قريبا من أن الحاكم قد بين في كتابه المدخل شرط الشيخين وتصريحه مقدم على
شيء تحتمله عبارة خطبته بل تصريحه يعين أحد المحتملين وقد أوضحناه قريبا.
إما العجب كيف يؤخذ من كلامة المحتمل شرط الشيخين ويترك ما صرح به من أنه شرطهما؟
وإذا
عرفت ما أسلفناه في شروطهما عرفت أنه يتعين الإمساك عن الجزم بوصف حديث لم
يخرجا في كتابيهما بأنه على شرطهما لأن شرطهما غير معلوم جزءا فكيف تجزم
بوصف حديث لم يخرجاه ونصححه مع الشك فيما يوجبه ويتفرع عنه تصحيحه والشك لا
يتفرع عنه يقين ولا يهاب إطباق المحققين على قولهم في حديث
لم يخرجاه إنه على شرط الشيخين فإن الحجة في الدليل لا في مجرد الأقاويل.
"قال
زين الدين: وقد بينت المثلية في الشرح الكبير" إلا أنه قال الزين قبل هذا
وفيه نظر أي في احتمال أن يراد بمثل تلك الأحاديث نفس رواتها فأفاد أنه لم
يرتض الاحتمال الذي به يتم مراد ابن الصلاح ومن تبعه ثم قال وقد بينت
المثلية إلى آخره.
"قلت: المثلية تقتضي الغيرية" أي حقيقة وإلا فإنه
يأتي في الكتابة أنه قد يراد بالمثل غير المغاير نحو مثلك لا يبخل أي أنت
لا تبخل ومنه قوله:
ولم أقل مثلك أعنى به سواك يا فراد بلا مشبه إلا أن
قول المصنف "وقد تبين أن مراد الحاكم ما ذكره زين الدين بإخراجه" أي الحاكم
"لحديث من لم يخرج حديثه البخاري ومسلم" يقتضي أنه لم يرد الحاكم بالمثل
إلا الغير أو الأعم منه "وكلامه" أي الحاكم "يقتضي ذلك من غير هذه القرينة"
التي هي إخراجه لحديث من لم يخرج له الشيخان "فكيف معها؟ والله أعلم".
واعلم
أنه لا ريب أ في كتاب الحاكم جماعة من رجال الشيخين قطعا وجماعة من غير
رجالها قطعا فلا يتم حمل المثلية في خطبة المستدرك على غير رواتهما وحصل
فيه شرطهما الذي قرره الحاكم نفسه في المدخل كما قررناه قريبا فقول المصنف
إنه قد تبين أن مراد الحاكم بالمثل ما ذكره الزين غير صحيح إذا ظاهر أنه
ليس في كتاب الحاكم أحد رجال الصحيحين وهذا باطل وقول المصنف إنه قد أخرج
حديث من لم يخرج له الشيخان مسلم لكن من أين له أنه لم يخرج لمن أخرج له
الشيخان كيف وقد قدم المصنف كلام الذهبي بأن في المستدرك قدر النصف صحيحا
على شرط الشيخين والمراد به أنه رواه برجالهما لأن ذلك شرطهما عند الذهبي
كما قاله الزين آنفا ثم قال وقدر الربع على غير شرطهما أي ليس رجاله رجال
الصحيحين فلذا قلنا قطعا في الطرفين وبه يتبين لك أن الحق في كلام الحاكم
في المثلية ما ألهمنا الله إليه لا ما قاله زين الدين والمصنف.
مسألة 10
[في إمكان التصحيح في كل عصر ومن كل إمام]"إمكان التصحيح مطلقا" أي: عصر
من الأعصار ومن أي إمام من الأئمة "اعلم أن التصحيح على ضربين :
أحدهما:
أن ينص على صحة الحديث أحد الحفاظ المرضيين المأمونين فيقبل ذلك منه" وهذا
القسم قد تقدم فإنه أحد الأقسام السبعة الماضية لكنه ذكره هنا استيفاء
للأقسام ولأجل الاستدلال عليه بقوله: "للإجماع وغيره من الأدلة الدالة على
وجوب قبول خير الآحاد كما ذلك مبين في موضعه" من أصول الفقه وقد استدل ابن
الحاجب بالإجماع بعد ذكره لخلاف القاشاني والرافضة وأبي داود واستدل أحمد
والقفال وابن سريج وأبو الحسن على وجوب العلم بخير الآحاد بالعقل وبيانه
بالدليل العقلي مذكور في مختصر ابن الحاجب واستدل الجمهور بإجماع الصحابة
والتابعين قالوا بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد وعملهم به في
الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى وقد تكرر ذلك مرة بعد أخرى وشاع وذاع
بينهم ولم ينكر عليهم أحد غلا لنقل وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول
الصريح وإن كان احتمال غيره قائما في كل واحد واحد هكذا قرر الاستدلال عضد
الدين في شرح المختصر وتأتي الأدلة على ذلك في قبول رواية كفار التأويل
وفساقه وهو من باب الاستدلال بالإجماع السكوتي.
"ولا يجوز ترك ذلك" أي
العمل بخبر الواحد بصحة الحديث الذي نحن بصدده "متى تعلق الحديث بحكم شرعي"
وذلك لأنا قد تعبدنا بالأحكام الشرعية قطعا وقد قام الدليل على وجوب قبول
خبر الآحاد وأكثر تفاصيل الشرعيات أحادية فيجب قبوله وسره أن قول العدل هذا
حديث صحيح في قوة هذا حديث عدلت نقلت:ه وثبت إتقانهم في الضبط وسلم الحديث
من الشذوذ والعلة والعدل إذا عدل غيره
وجب قبول خبره وإذا شهد له
بالإتقان في حفظه وجب قبول خبره أيضا وقد بسطنا هذا في رسالتنا المسماة
إرشاد النقاد بسطا شافيا وبينا أن قول العدل فلان عمل عبارة إجمالية معناها
أنه آت بالواجبات مجتنب للمقبحات ولما فيه خسة من الصغائر محافظ على
المروءة وكما وقع الإجماع على قبول تلك العبارة الإجمالية يجب قبول قول
القائل من الأئمة هذا حديث صحيح فإنه إخبار عما تضمنه الإجمال من التفصيل
وهذا الذي ذكره المصنف هنا هو الحق لا ما تقدم له من قوله إن من قلد في ذلك
لا يكون مجتهدا وسيأتي زيادة في بحث المرسل إن شاء الله تعالى.
"إلا أن
تظهر علة قادحة في صحة الحديث من فسق في الراوي حفي على من صحح حديثه أو
تغفيل كثير أو غير ذلك من قبول الثقات" حاصلة أن قبول خبر العدل بأن الحديث
صحيح مقتض للعمل به ما لم يعارضه المانع.
واعلم أنه قد سبق أنه إذا صحح
الحديث إمام من المتقدمين كابن خزيمة وابن حبان قبل تصحيحه وجوبا على ما
ذكره المصنف إذا تضمن حكما شرعيا وهذان الإمامان اللذان نص على التمثيل
بهما قد قدمناه ما قيل في كتابيهما ومثلهما تصحيح الترمذي فإنه قال ابن حجر
الهيتمي في فهرسته فإن قلت: قد صرحوا بأن عنده أي الترمذي نوع تساهل في
التصحيح فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث في سننه وحسن فيها بعض
ما انفرد به رواته كما صرح هو بذلك فإنه يورد الحديث ثم يقول عقيبه إنه حسن
غريب وحسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من الوجه قلت: هذا كله لا يضره لأن ذلك
اصطلاح جديد له ومن بلغ النهاية في الإمامة والحفظ لا ينكر عليه ابتداع
اصطلاح يختص به وحينئذ فلا مشاححة في الاصطلاح وبهذا يجاب عما استشكلوه من
جمعه بين الصحة والحسن على متن واحد مع ما هو معلوم من تغايرهما انتهى.
قلت:
إذا كان اصطلاح الترمذي أن الحسن والصحيح شيء واحد فإنه لا يصح حمل قوله
صحيح على المعنى الذي نحن بصدده بل يحمل على أنه قسم من الحسن وسيأتي كلام
آخر في وجه جمعه بين الوصفين على أنه لا يتم ما قاله ابن حجر إلا إذا أريد
بالحسن الذي يرادف الصحيح في اصطلاح الترمذي الحسن لذاته لا الحسن لغيره
فإنه قال ابن حجر أيضا إن أبا داود قال في خطبة كتابه ذكرت الصحيح وما
يشابهه وما يقاربه ثم قال والذي يتجه أن المراد بما يشبه الصحيح الحسن
لذاته
وبمقاربة الحسن لغيره وقد تقرر أن كلام من هذين معتمد قال
وإنما حملتهما على ذلك لأن الحسن لذاته في الاحتجاج به مثله أي مثل الصحيح
اتفاقا بخلاف الحسن لغيره فإنه بعيد عن الصحيح لأنه باعتبار ذاته وحده ضعيف
لكنه لما انجبر بغيره صارت له قوة عرضية وصار بسبب ما عرض له من تلك القوة
حجة أيضا انتهى.
وقد وقع للبغوي في المصابيح اصطلاح آخر في الصحيح
والحسن فجعل الصحيح ما رواه الشيخان أو أحدهما في كتابيهما والحسن ما رواه
غيرهما واعترضه ابن الصلاح والنووي وغيرهما أن تخصيصه الصحاح بما رواه
الشيخان أو أحدهما في كتابيهما والحسان بما رواه أبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجه والدرامي اصطلاح لا يعرف بل هو خلاف الصواب إذا الحسن
عند أهل الحديث ليس عبارة عن هذا الذي ذكره لما أنه وقع في كتب السنن
الصحيح وهو كثير والضعيف وهو كثير.
وقد أجاب التاج التبريزي بأن هذا
الاعتراض عجيب إذ من المشهور المقرر عند أرباب العلوم العقلية والنقلية أن
لا مشاححة في الاصطلاح وحينئذ فتخطئه المرء في اصطلاحه بعيد عن الصواب وقد
اخترع غيره له اصطلاحا آخر كالحاكم والخطيب فإنهما اصطلحا على إطلاق الصحة
علىجميع ما يف سنن أبي داود والنسائي ورافقهما في النسائي جماعة منهم أبو
على النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والدار قطني انتهى ملتقطا من فهرسة ابن
حجر الهيتمي.
وإنما نقلته لئلا يقف الناظر على تصحيح الترمذي أو تحسين
البغوي فيظن أنه من قسم ما صححه إمام من الأئمة أو تحسين بالمعنى الذي ذكره
المصنف وغيره للصحيح بل لا بد من معرفة اصطلاح الإمام الذي قال صحيح أو
حسن قبل ذلك.
على أنه قد تعقب الحافظ ابن حجر كلام التبريزي في اعتراضه
على ابن الصلاح فقال وعندي أن ابن الصلاح لم يسق كلامه اعتراضا على البغوي
وإنما أراد أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان
ليستغني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث يخرجه منها خرجه أصحاب السنن أو
بعضهم.
وكلامه يكاد يكون صرحا في ذلك حيث قال هذا اصطلاح لا يعرف فبين
أنه اصطلاح وأنه حادث ثم قال وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك حتى
لا يظن أنه ليس فيها إلا الحسن الذي تقدم تعريفه ثم قال الحافظ ابن حجر
والحاصل أنا لا نسلم أن البغوي أراد الحسن المتقدم تعريفه ولا نسلم أن ابن
الصلاح
اعترض عليه انتهى.
"الضرب الثاني من ضربي التصحيح: أن لا
ينص على صحة الحديث أحد من المتقدمين ولكن تبين لنا رجال إسناده" أي الحديث
"وعرفناهم" بصفاتهم "من كتب الجرح والتعديل الصحيحة بنقل الثقات سماعا أو
غيره من طرق النقل كالإجازة والوجادة" يأتي بينهما "فهذا" الذي لم يصححه
أحد من المتقدمين "وقع فيه" أي في تصحيحه "خلاف لابن الصلاح فإنه ذكر أنا
لا نجزم بصحة ذلك" أي التصحيح بل ولا التحسين كما سنعرفه من لفظه "لعدم خلو
الإسناد في هذه الأعصار ممن يعتمد على كتابه من غير تمييز لما فيه" لفظه
إذا وجدنا فيما يروي من كتب الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد ولم نجده في
أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة
المشهورة فأنا لا تتجاسر على سوم الحكم بصحته فقد تعذر في هذه الأعصار
الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد لأنه ما من إسناد من ذلك
إلا ونجد في رجاله من يعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في
الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح إلى
الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة انتهى.
قال عليه الحافظ ابن حجر فيه أمور:
الأول
: قوله فيما يشترط في الصحيح من الحفظ فيه نظر لأن الحفظ لم يعده أحد من
أئمة الحديث شرطا للصحيح وإن كان حكى عن بعض المتقدمين من الفقهاء ولكن
العمل في الحديث والقديم على خلافه لا سيما عند رواية الكتب وقد ذكر المؤلف
يريد به ابن الصلاح في النوع السادس والعشرين أن ذلك من مذاهب أهل التشديد
هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ مما يحدث به الراوي بعينه وإن أراد الراوي
شرطه أن يعد حافظا فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه
حافظا وهو المشهور بالطلب والأخذ من أقواه الرجال لا من الصحف والمعرفة
بطبقات الرواة ومراتبهم والمعرفة بالتجريح والتعديل وتمييز الصحيح من
السقيم حتى يكون مما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير
من المتون فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا ولم يجعله أحد من
أئمة الحديث شرطا للحديث الصحيح نهم المصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض
للحفظ أصلا فما قاله يشعر هنا بمشروطيته ومما يدل أنه أراد حفظه ما يحدث
بعينه
أنه قائل به من اعتمد عل ما في كتابه فدل على أنه يعيب من حدث
من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه والمعروف عن أئمة الحديث خلاف ذلك
كالإمام أحمد وغيره.
الأمر الثاني : أن من اعتمد في روايته على ما في كتابه لا بعاب بل هو وصف أكثر رواة الصحيح من بعد الصحابة وكبار التابعين ثم قال:
الأمر
الثالث : قوله فآل الأمر إلخ فيه نظر لأنه يشعر بالاقتصار على ما يوجد
منصوصا على صحته ورد ما جمع شروط الصحة إذا لم يوجد النص على صحته من
الأئمة المتقدمين فيلزم على الأول تصحيح ما ليس بصحيح لأن كثيرا من
الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن
رتبة الصحة ولا سيما من لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن فكم في كتاب ابن
خزيمة من حديث محكوم بصحته وهو لا يرتقى عن رتبة الحسن وكذا في صحيح ابن
حبان وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي ممن يفرق بين الصحيح
والحسن لكنه قد يخفي على الحافظ بعض العلل في حديث فيكم عليه بالصحة بمقتضى
ما ظهر له ويطلع عليه غيره فيرد به الخبر وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح
بين كلاميهما بميزان العدل والعمل بما يقتضيه الإنصاف.
الأمر الرابع :
كلامه يقتضي الحكم بصحة ما تقل عن الأئمة المتقدمين مما حكوا بصحته في
كتبهم المتقدمة المسرودة والطريق التي وصل إلينا بها كلامهم على الحديث
بالصحة وغيرها هي الطريق التي وصلت إلينا بها أحاديثهم فإن أفاد الإسناد
صحة لمقالة عنهم فليقد الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث ويبقى النظر إنما هو
في الرجال الذين فوقهم وأكثرهم رجال الصحيح كما سنقرره.
الأمر الخامس :
ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون
الأسانيد ما فيها سند إلا وفيه من لا يبلغ درجة الضبط والحفظ والإتقان ليس
بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر لأن الكتاب المشهور المغني بشهرته عن
اعتبار الأسانيد إلى مصنفه كسنن النسائي مثلا لا يحتاج في صحة نسبته إلى
النسائي اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه فإذا روي حديثا ولم يعلله
وجمع إسناده شروط الصحة ولم يطلع المحدث المطلع فيه على علة ما المانع من
الحكم بصحته ولو لم ينص على صحته أحد من الأئمة المتقدمين لا سيما وأكثر ما
يوجد من هذا النقل ما رواته
رواة الصحيح.
هذا لا ينازع فيه من
له ذوق في هذا الفن ولذا قال المنصف "وخالفه" أي ابن الصلاح "في دعواه
النووي فقال: الأظهر عندي جوازه" أي التصحيح "لمن تمكن وقويت معرفته قال
زين الدين: وهذا" أي التصحيح لما لم يسبق تصحيحه عن أحد من المتقدمين "هو
الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح ومن
بعده أحاديث لم يجر لمن تقدم فيها تصحيح كأبي الحسن ابن القطان والضياء
المقدسي والزكي عبد العظيم" المنذري "ومن بعدهم" انتهى كلام الزين من شرح
ألفيته قال الحافظ ابن حجر أما استدلال شيخنا بأن من عاصر ابن الصلاح قد
خالفه فيما ذهب إليه وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد لأحد من المتقدمين الحكم
بتصحيحها فليس بدليل ناهض على رد ما اختار ابن الصلاح لأنه مجتهد وهم
مجتهدون فكيف ينقض الاجتهاد بالاجتهاد وما أوردناه في نقض دعواه أوضح فيما
يظهر انتهى.
"واختار ذلك" أي تصحيح المتأخرين لما لم يصححه المتقدمين
"ابن كثير في علوم الحديث له وذكر" انتصارا لما اختاره "أنه قد جمع في ذلك
الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابا سماه المختار ولم يتم
كان بعض مشائخنا يرجحه على مستدرك الحاكم" قلت: لا يخفى أن ذكر المصنف
لاختيار ابن كثير وذكر ابن كثير لجمع الضياء كاستدلال الزين بعمل أهل عصر
ابن الصلاح وغيرهم ويأتي فيه من النظر ما أتى في ذلك إلا أن يقال إن كلام
الجميع إشارة إلى كون المسألة خلافية في عصر ابن الصلاح وبعده وإن لم يخرج
ذلك مخرج الاستدلال بل مجرد حكاية الأقوال "وسوف يأتي بيان كيفية التصحيح
في هذه الأعصار في" مسألة "معرفة من تقبل روايته ومن ترد في آخر الفصل قبل
مراتب التعديل" ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
مسألة:11 [في بيان حكم
ما أسنده الشيخان أو علقاه]"حكم الصحيحين" أي ذكر حكم ما أسنده في الصحيحين
كما يرشد إلى تقدير ذلك قوله والتعاليق فإنه من مسمى الصحيحين وإن لم
تشمله الصحة.
"اختلف الحفاظ من المحدثين والنقاد من الأصوليين فيما
أسنده البخاري ومسلم أو علقاه" وهو الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر
وأغلب ما وقع ذلك في كتاب البخاري وهو في كتاب مسلم قليل جدا قال ابن
الصلاح: في جزء له ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه فهو مقطوع بصدق مخبره
ثابت لتلقي الأمة ذلك بالقبول وذلك يقيد العلم النظري وهو في إفادة العلم
كالمتواتر إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروري وتلقي الأمة يفيد العلم
النظري وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق وصدق
انتهى.
"فأما ما أسنداه" أي الشيخان "أو أحدهما فذكر ابن الصلاح أن
العلم اليقيني النظري واقع به" أي بما أسنداه أو أحدهما "خلافا لقول من نفى
ذلك" أي إفادة اليقين وفي شرح مسلم ما يفيد أن هذا الخلاف لبعض محققي
الأصوليين "محتجا بأنه" أي الحديث الصحيح "لا يفيد في أصله" أي في حق كل
واحد من الأمة "إلا الظن" وأما قول ابن الصلاح في الاستدلال على إفادتهما
اليقين يتلقى الأمة لها بالقبول فجوابه قوله "وإنما تلقته" أي حديث
الكتابين "الأمة بالقبول" لأنه يفيد الظن "ولأنه يجب عليهم العمل بالظن
والظن قد يخطئ" ولا يتم به اليقين.
"قال" ابن الصلاح: "وقد كنت أميل إلى
هذا وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولا" وهو كونه يفيد
العلم اليقيني النظري "هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم عن الخطأ" وهم الأمة
"لا يخطئ إلى آخر كلامه" وهو قوله ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد
مقطوعا بها وأكثر إجماعات العلماء كذلك وهذه
نكتة نفيسة نافعة ومن
فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري ومسلم يتدرج في قبيل ما يقطع بصحته
لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما انتهى.
وقال إمام الحرمين لو حلف إنسان
بطلاق امرأته بأن ما في كتاب البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي
صلى الله عليه وسلم: لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع المسلمين على
صحتهما قال النووي لقائل أن يقول إنه لا يحنث ولو لم يجمع المسلون على
صحتهما للشك في الحنث فإنه لو حلف على ذلك في حديث ليس هذه صفته لم يخنث
وإن كان رواية فاسقا فعدم الحنث حاصل قبل الإجماع فلا يضاف إلى الإجماع قال
والجواب أن المضاف إلى الإجماع هو القطع بعدك الحنث ظاهرا وباطنا وأما عند
الشك فعدم الحنث حاصل محكوم به ظاهرا مع احتمال وجوده باطنا فعلى هذا يحمل
كلام إمام الحرمين فهو اللائق بتحقيقه. انتهى.
وأقول: في هذا الكلام بحثان :
الأول
: أنه مبني على دعوى تلقي كل الأمة للكتابين بالقبول وقد قدمنا أن هذه
دعوى على الأمة كلها وهي غير صحيحة كما أوضحناه في ثمرات النظر وغيرها وقد
أقر ابن الصلاح بعدم تمامها فإنه قال إن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا
يعتد بخلافه ووفاقه ولا يخفى أن مسمى الأمة ودليل العصمة شامل لكل مجتهد
والقول بأنه لا يعتد بمجتهد وإخراجه عن مسمى الأمة لا يقبله ذو تحقيق وإلا
لادعى من شاء ما شاء بغير دليل وقد قدمنا سؤال الاستفسار عن هذا التلقي هل
هو لأصل الكتابين من حيث الجملة أو لكل فرد فرد من أحاديثهما الأول مراد لا
يفيد المطلوب الثاني: هو المراد ولا يتم فيه الدعوى كما أشرنا إليه سابقا
وقررناه في ثمرات النظر وفي غيرها.
البحث الثاني : بعد تسليم الدعوى
الأولى أن التحقيق أن الأمة معصومة عن الضلالة وعليها دلت الأدلة كما
حققناه في حواشينا على شرح الغاية المسماة بالدراية وقد أشرنا إليه سابقا
والخطأ ليس بضلالة وتأتي زيادة في هذا.
"وقد سبقه" أي ابن الصلاح "إلى
نحو ذلك محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن عبد
الخالق بن يوسف واختاره ابن كثير وحكى في علوم الحديث1
ـــــــــــــــــــ
1 ص 29.
له أن ابن تيمية1 حكى ذلك عن أهل الحديث وعن السلف وعن جماعات كثيرة من الشافعية والحنابلة والأشاعرة والحنفية وغيرهم والله أعلم".
رأيت
في بعض رسائل ابن تيمية ما لفظه ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم
علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم: قاله تارة بتواتره
عندهم وتارة لتلقي الأمة له بالقبول وخير الواحد المتلقي بالقبول يفيد
العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول
أكثر أصحاب الأشعري كالأسفرائيني وابن فوزك فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد
إلا الظن لكنه لما اقترن به إجماع علماء أهل الحديث على تلقيه بالتصديق كان
بمنزلة إجماع أهل العلم بالصحة على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس
أو خبر واحد فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور وإن كان بدون الإجماع
ليس بقطعي انتهى.
وفيه أنه حكم على أكثر متون الصحيحين وأن ذلك إجماع
أئمة الحديث وهذا حسن ولكنه ليس بالإجماع الذي ادعاه ابن الصلاح فإن أراد
ابن كثير هذا الكلام الذي لابن تيمية فلا يخفى أنه لا يحسن ضمه إلى ابن
الصلاح ومن سبقه لأن أولئك ادعوا الإجماع من الأمة على التلقي وابن تيمية
يقول إنه تلقاه علماء الحديث أي تلقوا أكثر متونهما بالقبول وإنه بمنزلة
الإجماع وإن علماء الحديث هم يعلمون علما قطعيا أنه صلى الله عليه وسلم قال
ما في الصحيحين مما نسب إليه وهذا قول عدل إلا أن الدليل عليه كونه بمنزلة
الإجماع ولا يخفى أن الدليل إنما هو الإجماع لا ما هو بمنزلة لأنه ليس
إجماعا ضرورة واتفاقا إذ الدليل هو الإجماع كما في علم الأصول لا ما هو
بمنزلتة.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ابن تيمية إلا أنه بأبسط من هذه
العبارة وضمه إلى من ضمه ابن كثير وقوله غير قول من ضموه إليهم ولا بد من
حمل كلامهم على كلامه لأن من يعتبر تلقيه بالقبول إنما هو من يعرف الفن
ويميز بين صحيحه وسقيمه ويعرف رجاله وذلك خاص بأهل الحديث وأئمة هذا الشأن
وهم الذين تروج دعوى
ـــــــــــــــــــ
1 ابن تيمية هو شيخ الإسلام
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني عني بالحديث وخرج
وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه مات سنة 728. له ترجمة في شذرات
الذهب 6/80. وانجوم الزاهرة 9/271. والبداية والنهاية 14/163.
ذلك
عليهم لا الأئمة كلها فلو قال ابن الصلاح: وغيره مثل هذا لقبل منه وأما
دعوى القطعية بعد تسليمه هذا القدر من التلقي ففيها خفاه وإنما قلنا إنه لا
بد من رد كلامهم إلى كلامه لأنه الواقع وهو يفيد أرجحية ما فيها كما أشار
إليه المصنف فيما سلف لا القطعية المدعاة.
"قال النووي" في شرح مسلم
"وخالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا يفيد الظن ما لم يتواتر ونحو
ذلك حكى زين الدين عن المحققين واختاره" قال النووي:
فإنهم أي المحققين
قالوا إن أحاديث الصحيحين التي ليست متواترة إنما تفيد الظن لأنها آحاد
والآحاد إنما تفيد الظن كما تقرر ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك
وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيها وهذا متفق عليه فإن
أخبار الآحاد في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد الظن وكذا
الصحيحان وإنما يفترق الصحيحان وغرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا
يحتاج إلى النظر فيه بل يجب العمل به مطلقا وما كان في غيرهما لا يعمل به
حتى ينظر فيه وتوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما
فيهما إجماعهم على أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم: انتهى.
واعلم
أنه قال الحافظ ابن حجر إن شيخه يريد زين الدين أفر كلام النووي هذا وفيه
نظر وذلك أن ابن الصلاح لم يقل إن الأمة أجمعت على العمل بما فيهما وكيف
يسوغ له ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من
حيث التفصيل لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض أو ناسخ
انتهى.
قلت: ولا يخفي أنه وهم فإن القائل إن الأمة أجمعت على العمل بما
فيهما هو النووي نفسه لا أنه نقله عن ابن الصلاح ثم إن قوله أجمعت على
العمل إنما مراده مما تعبدنا بالعمل به فالمنسوخ والمخصص قد خرجا من ذلك.
ثم
إنه نقل عن الأستاذ أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك تفصيلا في المتلقي
بالقبول فقال الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته ثم فصل ذلك فقال
إن اتفقوا على العمل به لم يقطعوا بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب
العلم بخبر الواحد وإن تلقوه بالقبول قولا وفعلا حكم بصدقه قطعا ثم قال
إنما اختلفوا فيما إذا أجمعت الأمة على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على
صحته أم لا؟ على
قولين فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحا بذلك
وذهب عيسى ابن أبان إلى أنه يدل على صحته قال وقد تعقب شيخنا شيخ الإسلام
في محاسن الاصطلاح يريد به البلقيني قول النووي إن ابن الصلاح خالفه
المحققون والأكثرون فقال هذا ممنوع فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين عن جمع من
الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي
تلقته الأمة بالقبول.
قلت: وكأنه عنى بهذا البعض الشيخ تقي الدين ابن تيمية ثم ذكر ما أسلفناه من كلام ابن تيمية.
قلت:
إلا أن هاهنا بحثا فإنه لا يخفي اختلاف أحوال العلماء وغيرهم فيما
يستفيدونه اعتقادا فمنهم من يفيده خبر الآحاد العلم وقد قدمنا في شرح رسم
الصحيح شيئا من ذلك ومنهم من يفيده الظن ومنهم من لا يفيده علما ولا ظنا
ولذا اختلف فيما يفيده خبر الآحاد الاختلاف الذي سبق ذكره هنالك أيضا
فالتلقي بالقبول لا يجزم بإفادته القطع لكل أحد محقق لاختلاف الناس في
الاعتقاد فدعوى إفادته القطع لكل أحد غير صحيحة وأيضا إنما يستوي الناس في
البديهيات ككون الكل أعظم من الجزء ونحوه وأما في الأمور النقلية فلا فإنه
يتواتر الأمر لشخص دون شخص فيكون حجة على الأول دون الثاني.
إذا عرفت
هذا فالرد على ابن الصلاح بأن جماعة قالوا لا يفيد إلا الظن والرد على من
رد عليه بأن جماعة قالوا يفيد القطع غير صحيح في الطرفين لأن هذه أمور
وجدانية يختلف فيها الناس فلا يحكم أحد على غيره بما عند نفسه ولو كان
المتلقي بالقبول يفيد القطع لكل أحد أو الظن لما وقع اختلاف في المسألة.
ثم
اعلم أن هذا التلقي المدعى مراد به تلقي العلماء هو من بعد تأليف الصحيحين
وهي الطبقة الأولى من بعد ذلك وأما من بعدهم من أهل الأزمنة المتأخرة
فالدليل عيه نقل تلك الطبقة التلقي بالقبول ولعله قد يكون آحادا فلا يفيده
أو متواترا فتقوم الحجة بنقل تلقي الأمة لهما بالصحة.
ولما قال ابن
الصلاح: إن ظن من هو معصوم لا يخطئ قال المصنف "قلت: والمسألة دقيقة وقد
بسطت القول عليها في العواصم وهي في أصول الفقه مذكورة وحاصل الجواب" على
ابن الصلاح في قوله إن ظن من هو معصوم ع الخطأ لا يخطئ "أن المعصوم معصوم
في ظنه عن الخطأ الذي هو خلاف الصواب" قال المصنف في مختصره
في علوم
الحديث والحق أنه أي الخطأ لا يناقضها أي العصمة حيث خطؤه فيما طلب لا
فيما وجب ولا يوصف خطؤه حينئذ بقبح "لا عن الخطأ الذي هو خلاف الإصابة
كالخطأ في رمي" المؤمن "الكافر حيث رماه" فأصاب مؤمنا فإنه غير آثم قطعا.
"وفي
الحكم بشهادة العدلين في الظاهر" وهما في الباطن غير عدلين "ومن ذلك صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة" كما في صلاته الأربع خمسا "أو نقصان"
كم في صلاته الأربع اثنتين أخرجه الستة من حديث ابن بحينة وسماها الظهر
"حيث سها وظن أنه ماسها" فإنه قال له صلى الله عليه وسلم ذو اليدين أقصرت
الصلاة يا رسول الله أم نسيت قال لم تقصر ولم أنس وسيأتي.
"فمن جوز هذا
على المعصوم" كالرسول صلى الله عليه وسلم "لأنه خطأ لغوي" وهو الخطأ
المرفوع عن الأمة في حديث رفع عن أمتي الخطأ "وهو في الحقيقة صواب لأنه
مأمور به مثاب عليه" وقد استدل المصنف لجوازه بالعقل والنقل في مختصره حيث
قال لنا لو وجب القطع بانتقائه لبطل كونه ظنا والفرض أنه ظن فهذا خلف
ولوجوب الترجيح عند تعارض المتلقي بالقبول ولا ترجيح مع القطع ومن السمع
قول يعقوب في قصة أخي يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً}
[يوسف: 18] وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وقوله في
حديث إنما أقطع له قطعة من نار1 أخرجه الشيخان مرفوعا من حديث أم سلمة
وأوله إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على
نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئا الحديث وأحاديث سهوه صلى
الله عليه وسلم في الصلاة ولا يمتنع أن يدخل الظن في استدلال الأمة ثم يجب
القطع باتباعهم كخبر الواحد وطرق الفقه ولذلك يسمى الفقه علما فبطل القطع
بأن حديث البخاري ومسلم معلوم كما ظنه ابن الصلاح وابن طاهر وأبو نصر.
"قال"
جواب من جوز "إن تلق الأمة لخبر الواحد لا يفيد العلم القاطع ومن لم
يجوزه" أي الخطأ الذي هو خلاف الصواب "على المعصوم قال إنه يفيد العلم
القاطع والله أعلم" ثم لا يخفي أن ابن الصلاح قال في دعواه إن المتلقي
بالقبول يفيد العلم اليقيني النظري قال الحافظ ابن حجر لو اقتصر على قوله
العلم النظري لكان أليق
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
بهذا
المقام أما العلم اليقيني فمعناه القطعي فلذلك أنكر عليه من أنكر لأن
المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده وإنما يقع الترجيح بين مفهوماته ونحن
نجد علماء هذا الشأن قديما وحديثا يرجحون بعض أحاديث الكتاب على بعض بوجوه
من الترجيحات النقلية فلو كان الجميع مقطوعا به ما بقي للترجيح مسلك انتهى
وهذا مناد على أن مرادهم أنه تلقي بالقبول كل فرد فرد من أفراد أحاديث
الصحيحين إلا ما استثنوه مما يأتي.
"قال زين الدين: ولما ذكر ابن الصلاح
أن ما أسنداه مقطوع بصحته قال سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد
كالدار قطني وغيره" كأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني الجياني "وهي" أي
الأحرف اليسيرة "معروفة عند أهل هذا الشأن" قال البقاعي في النكت الوفية
قال شيخنا إن الدار قطني ضعف من أحاديثهما مائتين وعشرة يختص البخاري
بثمانين واشتركا في ثلاثين وانفرد مسلم بمائة قال وقد ضعف غيره أيضا غير
هذه الأحاديث انتهى وقدمنا كلام الحافظ ابن حجر في عدة ذلك.
"قال زين
الدين: روينا عن محمد بن طاهر المقدسي ومن خطة نقلت: قال سمعت أبا عبد الله
بن أبي نصر الحميدي" صاحب الجمع بين الصحيحين "يقول: قال لنا أبو محمد بن
حزم" هو الظاهري المعروف صاحب المؤلفات البديعية "ما وجدنا للبخاري ومسلم
في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديثين لكل واحد منهما حديث تم عليه
في تخريجه مع إتقانهما وحفظهما وصحة معرفتهما فذكر" أبو محمد "من البخاري
حديث شريك عن أنس في الإسراء وأنه قبل أن يوحى إليه وفيه شق صدره قال ابن
حزم والآفة فيه من شريك" وهو شريك بن عبد الله بن أبي نمير المدني تابعي
صدوق قال ابن معين والنسائي ليس بالقوي وقال ابن معين في موضع آخر لا بأس
به ذكر هذا الذهبي في المغني.
"والحديث الثاني: حديث عكرمة بن عمار"
بفتح العين المهملة وتشديد الميم "عن أبي زميل" بضم الزاي وفتح الميم وسكون
المثناة التحتية فلام هو سماك ابن الوليد تابعي "عن ابن عباس: كان الناس
لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث
أعطيكهن قال نعم قال عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان
أزوجكها قال نعم الحديث قال ابن حزم هذا موضوع لا
شك في وضعه والآفة
فيه من عكرمة بن عمار" قال النووي في شرح مسلم واعلم أن هذا الحديث من
الأحاديث المشهورة بالإشكال لأن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح وكان النبي
صلى الله عليه وسلم: إنما تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل وجزم ابن حزم
أنه موضوع ويف رواية عنه أنه وهم والآفة فيه من عكرمة بن عمار الراوي عن
أبي زميل وأنكر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح هذا على ابن حزم وبالغ في
الشناعة عليه قال وهذا القول من جسارته وكان هجوما على تخطئة الأئمة الكبار
وإطلاق اللسان فيهم ولا نعلم أحدا نسب إلى عكرمة وضع الحديث وقد وثقه وكيع
ويحيى بن معين وغيرهما وكان مستجاب الدعوة.
وأما ما توهمه ابن حزم من
منافاة هذا الحديث لتقدم زواجها فغلط منه وغفلة وجهل لأنه يحتمل أنه سأله
تجديد عقد النكاح تطبيبا لقلبه لأنه ربما رأى عليه غضاضة في رياسته ونسبه
أن تزوج منه بغير رضاه وأنه ظن أن إسلام الأب في مثل هذا يقتضي تجديد العقد
انتهى.
وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: جدد العقد ولا قال
لأبي سفيان إنه يحتاج إلى تجديده فلعله قال له نعم وأراد أن مقصودك يحصل
وإن لم يكن بحقيقة العقد وكأن المصنف لم يرتض هذا الجواب فقال: "قلت: قد رد
الحفاظ على ابن حزم ما ذكره وجمع ابن كثير الحافظ جزءا مفردا في بيان ضعف
كلامه وفي الحديث غلط ووهم في اسم المخطوب لها النبي صلى الله عليه وسلم:
وهي عزة" بفتح العين المهملة وتشديد الزاي "أخت أم حبيبة خطب أبو سفيان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وخطبته لها أختها أم حبيبة كما ثبت في
الصحيحين فأخبرها بتحريم الجمع بين الأختين وقد ذكر له تأويلات كثيرة هذا
أقربها" ووجه قربه أن التأويل في لفظة واحدة أسهل "والموجب للتأويل ما علم
من تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة قبل إسلام أبي سفيان".
قلت:
ولم يتعرض المصنف لتأويل حديث شريك الذي أورده ابن حزم على صحيح البخاري
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري في الحديث العاشر والمائة مما
اعترض على البخاري تخريجه في صحيحه حديث شريك عن أنس في الإسراء بطوله وقد
خالف فيه شريك أصحاب أنس في سنده ومتنه ووجه إشكال حديث شريك ما فيه من
قوله إن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم فإنه
أخرجه
الشيخان عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمير بلفظ أنه سمع أنس ابن مالك يقول
ليلة الإسراء أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه
ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه.
وقد قال مسلم إنه قدم فيه شيئا وأخر وزاد
ونقص يعني شريكا قال النووي في شرح مسلم في رواية شريك في هذا الحديث أوهام
أنكرها عليه بعض العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم شيئا وأخر وزاد
ونقص وذلك قوله قبل أن يوحى إليه فإنه غلط لم يوافق عليه فإن الإسراء أقل
ما فيه إنه كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا وهو قول
الزهري وقال الحربي كان ليلة سبعة وعشرين من ربيع قبل الهجرة بستة وقال
الزهري كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين قلت: ولعل للزهري فيه قولين وقال ابن
اسحق أسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل قال النووي وأشبه الأقوال قول
الزهري وابن اسحق.
قلت: ومثله قال القاضي عياض واستدل بقوله إذ لم
يختلفوا أن خديجة صلت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه ولا خلاف
أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل بثلاث سنين وقيل بخمس كما أن العلماء
مجمعون أنه كان فرض الصلاة قبل الإسراء فكيف يكون هذا كله قبل أن يوحى
إليه؟.
قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين بعد ذكر رواية شريك إنه قد
زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة فقد روي حديث الإسراء
جماعة من الحفاظ المتثنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني
وقنادة يعني عن أنس ولم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحفاظ
عند أهل الحديث وكذلك أنكر من حديث شريك قوله إن شق صدره وغسله في تلك
الليلة لأن المصحح أنه شق صدره وهو في بني سعد عند حليمة قال القاضي عياض
وقد جود الحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وأتقنه وفصله حديثين وجعل شق
الصدر في صغره والإسراء بعد ذلك بمكة وهو المشهور الصحيح.
إذا عرفت هذه الأقاويل عرفت أنه لا اعتراض على مسلم في إيراده لحديث شريك بعد بيانه ما فيه من الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير.
"وذكر
الذهبي شرط مسلم في ترجمته من النبلاء وطول القول في ذلك وأجاد وأفاد
فينبغي مراجعته ونقله من النبلاء" قلت: إلا أنه لا يخفي أنه شرط تخميني
لتصريحهم بأنه لم ينقل عن الشيخين ولا عن أحدهما ذلك نعم مسلم قد ذكر في مقدمة صحيحه ما قدمنا لفظه فهو شرطه.
"قال
زين الدين: وقد ذكرت في الشرح الكبير أحاديث غير هذين" مما انتقده الحفاظ
على الشيخين ويأتي غيرهما في كلام المصنف "وقد أفردت كتابا لما ضعف من
أحاديث الصحيحين مع الجواب عنها فمن أراد الزيادة في ذلك فليقف عليه" أي
على الكتاب الذي أفرده "ففيه فوائد ومهمات" قال الحافظ ابن حجر بعد نقل
كلام شيخه ما لفظه كأن مسودة هذا التصنيف ضاعت وقد طال بحثي عنها وسؤالي من
الشيخ أن يخرجها فلم أظفر بها ثم حكى ولده أنه ضاع منها كراسان أو لا فكان
ذلك سبب إهمالها وعدم انتشارها.
واعلم أنه قد سبق عن ابن الصلاح أن
الأمة تلقت الصحيحين بالقبول قال سوى أحرف يسيرة قد تكلم عليها بعض أهل
النقد من الحفاظ قال زين الدين إن الذي استثناه من المواضع قد أجاب العلماء
عنها ومع ذلك أنها ليست بيسيرة قال الحافظ ابن حجر تعقبا له اعترض الشيخ
أولا على ابن الصلاح استثناء المواضع اليسيرة بأنها ليست يسيرة بل كثيرة
وبكونه قد جمعها وأجاب عنها وهذه لا يمنع استثناءها أما بكونها يسيرة فهو
أمر نسبي نعم هي بالنسبة إلى ما لا طعن فيه في الكتابين يسيرة جدا وأما
كونها يمكن الجواب عنها فلا يمنع ذلك استثناءها لأن من تعقبها من جملة من
ينسب إليه الإجماع بالتلقي فالمواضع المذكورة متخلفة عنده عن التلقي فيتعين
استثناءها انتهى.
"قلت: وقد ذكر النووي في مقدمة شرحه لكتاب مسلم قطعة
حسنة في ذلك وذكر من صنف في ذلك كأبي مسعود الدمشقي وأبي على الغساني
والدار قطني وذكر أنه يبين جميع ذلك أو أكثره ويجيب عنه في شرح مسلم" وذكر
فصلا مستقلا فيما عيب به مسلم فقال فيه عاب عائبون مسلم بروايته في صحيحه
عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذي ليسوا
من شروط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الإمام أبو
عمرو بن الصلاح:
أحدها : أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده بل
نقل عن الخطيب وغيره أنه قال ما احتج به البخاري ومسلم وأبو داود من جماعة
علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت المؤثر مفسرا قلت: وهذا هو
الذي أشار إليه
المصنف آنفا.
الثاني : أن يكون واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول.
الثالث : أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه باختلاطه وذلك غير قادح فيما رواه من قبل في زمن الاستقامة.
الرابع
: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على
العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل هذا الشأن ذلك وهذا
العذر قد رويناه تنصيصا انتهى وذكر أمثلة لما ذكره يطول ذكرها قلت: ولا
يخفي على الناقد ما في هذه الوجوه.
"قال النووي وينبغي أن يكون هذا
مخرجا عن حكم المجمع على صحته المتلقي بالقبول مستثنى من الخلاف المقدم في
القطع بصحة المجمع عليه" وهذا هو الذي قد أشار إليه ابن الصلاح واستثناه
بقوله سوى أحرف يسيرة "وهذا الكلام فيما أسنداه وقد قصر هؤلاء في هذا
الموضع وجوده الحافظ ابن حجر في مقدمة شرح البخاري فذكر مما اعترضه حفاظ
الحديث على البخاري مائة حديث وعشرة أحاديث" وقال في نكته على ابن الصلاح
إنه تتبع الدار قطني ما فيهما من الأحاديث المعلة فزادت على المائتين "
ولكنها اعتراضات لطيفة في مشكلات اصطلحوا عيها أكثرها من علم العلل التي لا
يقدح بها الفقهاء وأهل الأصول ثم أشار إلى الخلاف في كل حديث في البخاري
مروي عن مدلس بالعنعنة" سيأتي بيان التدليس وأقسامه والعنعنة إن شاء الله
تعالى "وهذا غير ما ذكر في كل حديث روي من طريق راو مختلف فيه وهم" أي
الرواة المختلف فيهم "خلق كثير ثم مسألة الخلاف فيما عدا ذلك كله فاعرف ذلك
والله أعلم" .
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر جملة الانتقادات من قبل
التفصيل من وجوه منها ما هو مندفع بالكلية ومنها ما قد يندفع فمنها الزيادة
التي قد تقع في بعض الأحاديث إذا انفرد بها ثقة ولم يذكرها من هو مثله أو
أحفظ منه فاحتمال كون هذا الثقة غلط ظن مجرد وغايتها أنها زيادة ثقة فليس
فيها منافاة لما رواه الأحفظ والأكثر فهي مقبولة.
ومنها المروي من حديث
تابعي مشهور عن صحابي سمع منه فيعلل بكونه روي عنه بواسطة كالذي يروي عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة ويروي عن سعيد عن أبيه
عن أبي هريرة فإن
مثل هذا لا مانع أن يكون التابعي سمعه بواسطة ثم سمعه بدون تلك الواسطة
ويلتحق بهذا ما يرويه التابعي عن صحابي فيروي من روايته عن صحابي آخر فإن
هذا يمكن أن يكون سمعه منهما فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وهذا إنما
يطرد حيث يستوي الضبط والإتقان.
ومنها ما يشير صاحب الصحيح إلى علته
كحديث يرويه مسندا ثم يشير إلى أنه روي مرسلا فذلك مصير منه إلى ترجيح
رواية من أسنده على من أرسله.
ومنها ما تكون علته مرجوحة بالنسبة إلى
صحته كالحديث الذي يرويه ثقات متصلا ويخالفهم ثقة فيرويه منقطعا أو يرويه
ثقة متصلا ويرويه ضعيف منقطعا ومسألة التعليل بالانقطاع وعدم اللقاء قل أن
تقع في البخاري بخصوصه لأنه معلوم أن مذهبه عدم الاكتفاء في الإسناد
المعنعن بمجرد إمكان اللقاء.
وإذا اعتبرت هذه الأمور من جملة الأحاديث
التي انتقدت عليهما لم يبق بعد ذلك مما انتقد عليهما سوى مواضع يسيرة جدا
ومن أراد حقيقة ذلك فليطالع المقدمة التي كتبتها لشرح صحيح البخاري فقد
بينت فيها ذلك بينا شافيا بحمد الله بحذف يسير.
"وأما ما وقع فيهما" وهو
عطف على قوله فأما ما أسنداه "غير مسند وهو المعبر عنه بالتعليق" أي
المسمى به عندهم "و" حقيقته "هو أن يسقط البخاري أو غيره" عبارة النخبة من
تصرف مصنف "من أول إسناده" أي بالنظر إليه ومنهم من يعبر عنه بمبدأ السند
"راويا فأكثر" ولا يشترط التوالي بين الساقطين وإن صرح به ملا على قاري في
حواشيه على النخبة وشرحها "ويعزو الحديث إلى من فوق المحذوف بصيغة الجزم
كقول البخاري في الصوم1 قال يحيى بن أبي كثير عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن
أبي هريرة قال فإذا قآء فلا يفطر قال ابن الصلاح: ولم أجد لفظ التعليق
مستعملا فيما سقط منه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره" فلذا قال في
حقيقته من أول إسناده "ولا" مستعملا "فيما ليس فيه جزم كيروي" بصيغة
المجهول ولذا قال المصنف في حقيقته أيضا بصيغة الجزم.
"قال زين الدين: استعمل غير واحد من المتأخرين التعليق في غير المجزوم به منهم
ـــــــــــــــــــ
1 ب 32.
الحافظ
المزي" بكسر الميم وبتشديد الزاي نسبة إلى بلد بالشام وهو الحافظ الكبير
أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحيم بن يوسف القضاعي الكلبي "في الأطراف"
كتابه له سيأتي ذكره وذكر حقيقتها قال زين الدين: كقول البخاري في باب مس
الحرير من غير لبس ويروي فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى
الله عليه وسلم: وذكره في الأطراف وعلم عليه علامة تعليق البخاري.
"قلت:
أما ما سقط فيه رجل من وسط الإسناد يسمى المقطوع والمنقطع" ولذا قيل في
رسم التعليق من أول إسناده "وما سقط من آخره فهو المرسل كما يأتي جميع ذلك"
أي كل ما ذكر "وأما إذا سقط الإسناد كله وقال قال النبي صلى الله عليه
وسلم: أو ذكر الصحابي فقط من رجال الإسناد فقال ابن الصلاح: تعليق" قال ابن
الصلاح: إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حذف من مبتدأ إسناده واحد
فأكثر حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد مثال ذلك قوله قال صلى الله
عليه وسلم كذا وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما كذا وكذا قال سعيد بن
المسيب كذا وكذا عن أبي هريرة كذا وكذا.
قلت: وبه تعرف أن ابن الصلاح
نقله عن غيره لا أنه له ولذا قال الزين حكاه ابن الصلاح عن بعضهم وتعرف
أيضا أنه إذا ذكر الصحابي أو التابعي يكون على هذا القول تعليقا أيضا
واقتصر المصنف على الصحابي فقط "ولم يذكره" أي هذا القسم "المزي تعليقا في
الأطراف" لفظ الزين ولم يذكر هذا المزي في الأطراف في التعليق بل ولا ما
اقتصر فيه على ذكر الصحابي غالبا وإن كان مرفوعا.
"وأما إذا روي" أي
البخاري "عن شيخه بصيغة الجزم ولم يقل حدثنا ولا أخبرنا" قال الزين كقوله
قال فلان وزاد فلان "فمتصل حكمه كحكم العنعنة كما يأتي" قال الزين أي حكمه
أي المعنعن الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس واللقاء في شيوخه أي
البخاري معروف والبخاري سالم من التدليس فله حكم الاتصال انتهى.
قلت:
فهذا يختص بالبخاري ومن هو مثله في شرط اللقاء لا أنها قاعدة من قواعد علوم
الحديث "كذا عند ابن الصلاح واختاره الزين" فإنه قال بعد نقله لكلام ابن
الصلاح أنه الصواب قال ابن الصلاح: ولا الثقات إلى أبي محمد ابن حزم الحافظ
الظاهري في رده ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبو مالك الأشعري عن
رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن في أمتي...", الحديث1 وسيأتي في كلام
المصنف قريبا "خلاف لبعض المغاربة والمزي وابن منده" وهذا البعض من
المغاربة غير ابن حزم لأنه ساق كلامه بعد رده على ابن حزم فإنه قال أي زين
الدين بعد ذلك وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من
التعليق ثانيا وأضاف إليه قول البخاري في غير موضع من كتابه وقال لي فلان
وزدنا فلان فوسم كل ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث
المعنى وقال متى رأيت البخاري يقول وقال لي فاعلم أنه إسناد لم يذكره
للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به وكثيرا ما يعبر المحدثون بهذا اللفظ
لما جرى بينهم في المذكرات والمناظرات وأحاديث المذاكرة قل ما يحجون بها.
قلت:
ما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري وهو
العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري فقد روينا عنه أنه قال كل ما في
البخاري قال لي فلان فإنه عرض ومناولة2 وانتهى.
قلت: ولا يخفي أنه لا يقوم كلام غيره حجة غيره حجة عليه بمجرد قوله.
"وقال"
أي ابن الصلاح "وذلك" أي مثال ما يسقط من أوله واحد "مثل قول البخاري
عفان" لفظ الزين قال عفان "وقال القعنبي" بالقاف مفتوحة فعين مهملة ساكنة
فنون فموحدة نسبة إلى قعنب "وأخطأ ابن الصلاح في تمثيل التعليق بذلك مع
اختياره أنه ليس بتعليق" عبارة الزين فقوله قال عفان قال القعنبي كذا في
أمثلة ما سقط من أول إسناده واحد مخالف لكلامه الذي قدمناه عنه لأن عفان
والقعنبي كلاهما شيخ البخاري حدث عنهما في مواضع من صحيحه متصلا بالتصريح
فيكون قوله قال عفان قال القعنبي محمولا على الاتصال كالحديث المعنعن وهذا
المثال ذكره ابن الصلاح في الفائدة السادسة من النوع الأول وهذا إيضاح
لكلام المصنف.
"قال ابن الصلاح3: وكأنه مأخوذ من تعليق الجدار" فال ملا
على في شرح شرح النخبة انتقد المصنف يريد ابن حجر أخذه من تعليق الجدار
ولعل وجهه أن الطرفين أو أحدهما في تعليق الجدار باق على حاله غير ساقط
بخلاف تعليق الحديث
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 7/138. وأبو داود 4039.
2 علوم الحديث ص 93.
3 علوم الحديث ص 93.
"وتعليق الطلاق ونحوه لما يشترك فيه الجميع من قطع الاتصال وقد ذكر ابن الصلاح أن التعليق وقع فيهما" أي في الصحيحين.
"قال
وأغلب ما وقع ذلك في البخاري وهو في مسلم قليل جدا قال زين الدين" في شرح
ألفيته بعد نقل كلام ابن الصلاح "في كتاب مسلم من ذلك" أي من التعليق "موضع
واحد في التيمم وهو حديث أبي الجهيم بن الحارث" بضم الجيم وفتح الهاء
فمثناة تحتية وهو عبد الله بن الحارث ابن الصمة وقع في صحيح مسلم أبو الجهم
بفتح الجيم من دون مثناة قال النووي في شرح مسلم هكذا في مسلم وهو غلط
وصوابه ما وقع في صحيح البخاري أبو الجهيم وضبطه بما ضبطناه فهذا المشهور
في كتب الأسماء وكذا ذكره مسلم في كتابه في أسماء الرجال "ابن الصمة" بسكر
الصاد المهملة وتشديد الميم "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر
جمل" بفتح الجيم والميم وفي رواية النسائي الجمل "قال فيه مسلم وروي الليث
بن سعد ولم يوصل مسلم إسناده إلى الليث1" قال النووي هكذا وقع في صحيح
مسلم من جميع الروايات منقطعا بين مسلم والليث قال وهذا النوع يسمى معلقا
"وقد أسنده البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث ولا أعلم في مسلم بعد مقدمة
الكتاب حديثا لم يذكره إلا تعليقا غير هذا الحديث وفيه مواضع أخر يسيرة
رواها بإسناده المتصل ثم قال ورواه فلان وهذا ليس من باب التعليق إنما أراد
ذكر من تابع رواية الذي أسنده من طريقه عليه أو أراد بيان اختلاف في السند
كما يفعل أهل الحديث وبدل على أنه ليس مقصودة بهذا إدخاله في كتابه أنه
يقع في بعض أسانيد ذلك من ليس هو من شرط مسلم كعبد الرحمن بن خالد بن
مسافر" وهذا بناء على أن شرطهما رواتهما وقد تقدم الكلام فيه "وقد بينت
بقية المواضع" التي علقها مسلم "في الشرح الكبير" انتهى كلام الزين.
"فإذا
عرفت هذا" هو جواب قول المصنف وأما ما وقع فيهما وفيه نبوة والمعنى على أن
قوله "فاعلم" هو الجواب إذا لا جواب أما "أن المحققين قسموه" أي التعليق
"ثلاثة أقسام" ولكنهم ذكروا المعلق من حيث هو منقسم المردود مع أن بعض
أقسامه مقبول يعمل به وإنما ردوه للجهل يحال من حذف من إسناده.
ـــــــــــــــــــ
1 والحديث رواه أحمد 4/169.
"أحدهما
ما يورده البخاري بصيغة الجزم ويكون رجاله" غير من حذف فإنه مجهول "رجال
الصحيح فيحكم" أي يوقع الحكم من الناظر فيه "بصحته لأنه" أي البخاري "لا
يستجيز أن يجزم بذلك" أي بنسبته جزما "إلا وقد صح عنده" وقى قسم مثل هذا
القسم في الصحة أشار إليه الحافظ أين حجر في شرح النخبة حيث قال وقد يحكم
بصحته إن عرف المحذوف بالعدالة والضبط بأن يجيء مسمى أي موصوفا باسمه أو
كنيته أو لقبه من وجه آخر أي من طريق أخرى. انتهى.
ولا يخفى أن وجه هذا
الثاني: من التصحيح واضح وأما الأول فمرجع الحكم بصحته حسن الظن بالبخاري
في أنه لا يجزم إلا بما صح إلا أن قوله:
"وثانيها ما يورده بصيغة الجزم
أيضا ولكن يجزم يه عمن لا يحتج به" أي البخاري يفت في عضد حسن الظن في
الطرف الأول إذ العلة هي جزمه وقد حصل في القسمين "فليس فيه" أي هذا
الثاني: "إلا الحكم بصحته عمن أسنده إليه وجزم به عنه كقول البخاري" في أول
باب من آداب الغسل كذا قال بن الصلاح.
قلت: ورجعت البخاري فرأيت كره في
الثامن عشر من أبواب الغسل "وقال بهز" بفتح الموحدة وسكون الهاء فزاى وهو
مقول البخاري "عن أبيه" هو حكيم "عن جده" هو معاوية بن حيدة صحابي معروف
"عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحى منه" هذا مقول قول بهز.
"قال
ابن الصلاح": بعد سياقه لهذا الكلام "فهذا" أي بهز عن أبيه عن جده "ليس من
شرط البخاري قطعا ولذلك" أي لكونه ليس من شرط البخاري "لم يورده الحميدي
في الجمع بين الصحيحين" قال الحافظ في الفتح إن يهزا وأباه ليسا من شرطه
قال ولهذا لما علق في النكاح شيئا من حديث جد بهز لم يجزم به بل قال ويذكر
عن معاوية بن حيدة انتهى.
قلت: وهذا مبني أيضا على أن شرط رواته كما سلف وفيه ما سلف.
"وثالثها:
أن يورده" أي البخاري "ممرضا وصيغة التمريض عندهم" وهي خالف صيغة الجزم
"أن يقول ويذكر أو يروي" مبني للمجهول مضارع "أو نقل وذكر" ماضيا "ونحوها
فهذا لا يحكم بصحته" واعلم أن هذا أمر عرفي وأن إتيان الراوي بصيغة المجهول
دليل على ضعف ما يرويه وإلا فإن الإتيان بصيغة المجهول في علم البيان نكتا
معروفة "كقوله" أي البخاري في بابا ما يذكر في الفخذ "ويروي عن ابن العباس
وجرهد"
بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء فدال مهملة هو ابن خويلد صحابي "ومحمد
بن جحش" بالجيم المفتوحة فمهملة ساكنة فشين معجمة وهو محمد بن عبد الله بن
جحش نسبة إلى جده ولأبيه عبد الله صحبة وكان محمد صغيرا في عصره صلى الله
عليه وسلم "عن النبي صلى الله عليه وسلم: الفخذ عورة لأن هذه الألفاظ" أ ي
صيغ التمريض "استعمالها في الضعيف أكثر وإن استعملت" نادرا "في الصحيح"
والحمل على الأغلب أولى.
واعلم أن ابن الصلاح جعل القسمين واحدا أي ما
جزم به عمن يحتج به وما أورده بصيغة التمريض وقال إنهما ليسا على شرطه قطعا
ولفظه قول البخاري باب ما يذكر في الفخذ ويروى عن ابن عباس إلى آخر ما
ذكره المصنف ثم قال وقوله في أول باب من أبواب الغسل وقال بهز إلى آخره ثم
قال فهذا قطعا ليس من شرطه انتهى.
وإنما كان حديث ابن عباس ليس من شرطه
لأن فيه يحيى القنات بقاف ومثناتين من فوق وهو ضعيف وحديث جرهد ضعفه
البخاري للاضطراب في إسناده وحديث محمد بن جحش فيه أبو كثير قال الحافظ ابن
حجر لم أجد فيه تصريحا "وكذا قوله" أي البخاري "وفي الباب يستعمل في
الأمرين معا" في الصحيح والضعيف إلا أنه لا أغلبية له في أحدهما على الآخر
حتى يحمل عليه الفرد المجهول بل يتوقف الأمر على البحث.
"قال ابن
الصلاح: ومع ذلك" أي مع كونه أورده بصيغة التمريض "فإيراده له" أي البخاري
للحديث عن الممرض "في أثناء الصحيح" أي كتابه المسمى بذلك "مشعر بصحة أصله
إشعارا يؤنس به ويركن إليه" هذا كلام ابن الصلاح.
واعلم أن هذا يفيد أن
التعليقات المجزومة ممن التزم صحة كتابه وإن لم يصرح بأن ما علقه صحيح يحكم
بصحتها إذا لم يجزم بمن لا يحتج به وذلك بأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك إلا
وقد صح عنده وكذا أيضا بعض ما روي بغير بصيغة الجزم وهذا لا يوافق ما قاله
الجمهور من أنه إذا قال راوي المعلق مثلا جميع من أحذفه ثقات فإن لا يقبل
حتى يسمى قالوا لاحتمال أن يكون ثقة عنده دون غيره فإذا ذكر يعلم حاله وكذا
قول من قال حدثني الثقة فإذا لم يقبل هذا فكيف يقبل قول من قال قد التزمت
في كتابي أن لا أذكر إلا الصحيح فيجعل التزامه أبلغ من قوله حدثني
الثقة
بل غاية التزامه هذا يفيد ما يفيده قول الراوي برفعه وأما ما قيل من
المناقشة لكلام الجمهور بأنه تقديم للجرح المتوهم على التعديل الصريح فليس
بشيء لأن التعديل الصريح للمبهم المجهول ليس بشيء.
"وشذ ابن حزم فلم
يقبل شيئا من تعليقات الصحيح وتراجمه" سواء أوردها بصيغة الجزم أو غيرها
ولعل وجه ما ذهب إليه هو ما قدمناه قريبا من عدم قبول الجمهور لمسألة
التعديل على الإبهام فالأولى عدم قبول تعليق من التزم الصحة.
ولما كان
في صحيح البخاري ما ليس بصحيح قطعا احتاج المصنف أن يذكر ما قاله ابن
الصلاح في التلفيق بين ما قاله البخاري وبين ما وجد في كتابه فقال "وحمل
ابن الصلاح قول البخاري ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وقول الأئمة في
الحكم بصحته" أي صحة كتابه "على مقاصد الكتاب وموضوعه ومتون الأبواب دون
التراجم ونحوها" وقد تقدم هذا.
"وأما الحافظ ابن حجر فصرح في مقدمة شرح
البخاري" المسماة هداية الساري "بأن جميع تعاليقه" بجزم أو تمريض "غير
صحيحة عنده" أي عند البخاري "يعني على شرطه وإن كان يمكن تصحيح بعضها على
شرط غيره إلا أن يسند" أي البخاري "المعلق" أي الحديث الذي علقه "مرة
ويعلقه أخرى ويكون تعليقه المرة الأخرى اختصارا".
قلت: اعمل أن المصنف رحمه الله تعالى أجمل ما نقله عن مقدمة الفتح وبيانه أنه قسم في المقدمة تعليقات البخاري إلى قسمين:
الأول
: المعلق بصيغة الجزم ثم قسمة إلى صحيح على شرطه وهو الذي أشار إليه
المصنف بقوله إلا أن يسند المعلق وهذا في الحقيقة معلق صورة عنده لا حقيقة
وإلى حسن تقوم به الحجة وإلى ضعيف بسبب انقطاع يسير.
الثاني : ما علقه
بصيغة التمريض فإنه قسمه إلى خمسة أقسام صحيح على شرطه صحيح على شرط غيره
جزما لا إمكانا كما قاله المصنف حسن ضعيف غير منجبر ضعيف منجبر فهذه خمسة
أقسام.
إذا عرفت هذا عرفت أن تعاليق البخاري لا يتم الحكم على المروي
منها بشيء من الصحة ولا الحسن ولا الضعيف إلا بعد الكشف والفحص عن حال ما
علقه وعرفت أن هذا الذي ذكره الحافظ في المقدمة مجمل لا بيان فيه وقد بسطت
الكلام على كلامه
في هامش مقدمة الفتح.
نعم قد بين الحافظ هذا الإجمال في نكته على ابن الصلاح وأتى بأمثلته فقال:
أقول: الأحاديث المرفوعة التي لم يوصل البخاري إسنادها في صحيحه:
منها: ما يوجد في محل آخر من كتابه موصولا.
ومنها: ما لا يوجد إلا معلقا.
فإما
الأول : فالسبب في تعليقه أن البخاري من عادته في صحيحه أن لا يكرر شيئا
إلا لفائدة وإذا كان المتن يشتمل على أحكام كرره في الأبواب بحسبها أو قطعه
في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى ومع ذلك لا
يكرر الإسناد بل يغاير بين رجاله إما بشيوخه أو بشيوخ شيوخه أو نحو ذلك
فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد واشتمل على أحكام واحتاج
إلى تكريرها فإنه والحال هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد وهذا أحد
الأسباب في تعليق الحديث الذي وصله في موضع آخر.
وأما الثاني : وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقا فهو على صورتين:
إما بصيغة الجزم وإما بصيغة التمريض:
فأما
الأول : فهو صحيح إلى من علقه عنه وبقي النظر فيما أبرز من رجاله فبعضه
يلتحق بشرطه والسبب في تعليقه له إما لكون لم يحصل له مسموعا وإنما أخذه
على طريق المذاكرة أو الإجازة أو كان قد خرج ما يقوم مقامه فاستغنى بذلك من
إيراد هذا المعلق مستوفي السياق أو لمعنى غير ذلك ولتقاعده عن شرطه وإن
صححه غيره أو حسنه وبعضه يكون ضعيفا من جهة الانقطاع خاصة.
وأما الثاني :
وهو المعلق بصيغة التمريض مما لم يورده في مواضع أخر فلا يوجد ما يعلق
بغير شرطه إلا مواضع يسرة قد أوردها بهذه الصيغة لكونه ذكرها بالمعنى.
نعم
فيه ما هو صحيح وإن تقاعد عن شرطه إما لكونه لم يخرج لرجاله أو لوجود علة
فيه عنده ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف وهو على قسمين:
أحدهما : ما يجبر بأمر آخر.
وثانيهما : ما لا يرتقي عن مرتبة الضعيف وحيث يكون بهذه المثابة فإنه يبين ضعفه ويصرح به حيث يورده في كتابه.
ثم سرد أمثلة لما ذكره انتزعها عن عدة أبواب من صحيح بخاري لا نطول بنقلها
ثم
قال فقد لاح بهذه الأمثلة واتضح أن الذي يتقاعد عن شرط البخاري من العليق
الجازم جملة كثيرة وأن الذي علقه بصيغة التمريض حين أورده في معرض الاحتجاج
والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف ينجبر وإن أورده في موضع الرد فهو
ضعيف عنده وقد بينا كونه يبين كونه ضعيفا والله الموفق.
وجميع ما ذكرناه
يتعلق بالأحاديث المرفوعة وأما الموقوفات فإنه يجزم بما صح عنده منها ولو
لم يبلغ شرطه ويمرض ما كان من ضعف وانقطاع وإذا علق عن شخصين وكان لهما
إسنادان مختلفان مما يصح أحدهما أو يضعف الأخر فإنه يعبر فيما هذا سبيله
بصيغة التمريض والله أعلم.
وهذا كلام فيما صرح بنسبته إلى النبي صلى
الله عليه وسلم: وإلى أصحابه أما ما لم يصرح بإضافته إلى قائل وهي الأحاديث
التي يوردها في تراجم الأبواب من غير أن يصرح بكونها أحاديث فمنها ما يكون
صحيحا وهو الأكثر ومنها ما يكون ضعيفا كقوله اثنان فما فوقهما جماعة لكن
ليس شيء من ذلك ملتحقا بأقسام التعليق التي قدمناها إذا لم يسقها مساق
الأحاديث وهي قسم مستقل ينبغي الاعتناء بجمعه والتكلم عليه وبه بالتعاليق
يظهر كثرة ما اشتمل عليه البخاري من الأحاديث ويوضح سعة اطلاعه ومعرفته
بأحاديث الأحكام جملة وتفصيلا انتهى.
إنما أطلنا بنقله لإفادته ولأن
المصنف رحمه الله تعالى اختصر اختصارا مخلا مع الإشارة إلى كلام الحافظ وقد
عرفت معنى قوله "قال" أي الحافظ ابن حجر "وقد عرفت ذلك من مقصد البخاري
فإن الحديث لو كان على شرطه في الصحة ما ترك وصل إسناده وهذا الذي ذكره هو
الصواب ومن أمثلة التعليق المختلف فيها" بين ابن الصلاح ومن تبعه وابن حزم
"قول البخاري قال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد قال ثنا عبد الرحمن بن
زيد بن جابر ثنا عطية ابن قيس قال ثنى عبد الرحمن بن غنم قال ثنى أبو عامر
أو أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليكونن في
أمتي أقوام يستحلون الخز" بالخاء المعجمة والزاي ويروى بالحاء المهملة
والراء "والحرير والخمر والمعازف" بالعين المهملة والزاي بعد الألف ثم فاء
قال في القاموس المعازف الملاهي كالعود والطنبور والعازف اللاعب بها
والمعنى "الحديث" تمامه "ولينزلن قوم إلى جنب علم تروح عليهم سارحتهم
يأتيهم سائل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم وتمسخ
أخرى قردة وخنازير إلى
يوم القيامة1 "فنعد ابن الصلاح وزين الدين
ومحيي الدين النووي أن حكمه حكم المتصل بالعنعنة" مصدر مأخوذ من عن فلان عن
فلان كالسبحلة والحولقة ويأتي تحقيقها "وهي صحيحة ممن لا يدلس" يأتي بيان
التدليس وأقسامه "والبخاري ممن لا يدلس وذلك" أي وجه كونها كالعنعنة من غير
المدلس "لأن هشام بن عمار من شيوخ البخارى حدث عنه بأحاديث" متصلة بلفظ
حدثنا "وقد مثل المزي والشيخ تقي الدين" ابن دقيق العيد "التعليق بهذا
الحديث" وهذا على رأيهما لا على رأي ابن الصلاح فإنه ليس عنده بتعليق كما
تقدم أنه إذا روي البخاري عن شيخه بصيغة الجزم فإنه متصل وتقدم تخطئه
المصنف له حيث مثل المعلق بهذا الحديث.
"وقال أبو عبد الله بن منده" في
جزء له في اختلاف الأئمة في القراءة والسماع والمناولة والإجازة ما لفظه
"أخرجه البخاري في كتابه الصحيح قال لنا فلان وهي إجازة وقال فلان وهو
تدليس قال وكذلك مسلم أخرجه على هذا قلا الشيخ زين الدين انتهى كلام ابن
منده ولم يوافق عليه وقال" أبو محمد "ابن حزم في المحلى" بضم الميم فحاء
مهملة ولام مشدده من النحلية "هذا حديث من قطع لم يتصل ما بين البخاري
وصدقة بن خالد ولا يصح في هذا الباب" أي باب النهي عن المعازف "شيء أبدا
وكل ما فيه" من حديث "فموضوع" .
قلت: قال ابن القيم في إغاثة اللهفان
بعد ذكره لهذا الحديث وتصحيحه له ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا
كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري
لم يصل سنده وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها : أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني
: أنه لو لم يسمعه منه لم يستجز الجزم به إلا وقد صح عنه أنه حدث به وهذا
كثير ما يكون لكثرة من رواه عن ذلك الشيخ وشهرته والبخاري أبعد خلق الله عن
التدليس.
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنه ما فعل ذلك.
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
الرابع
: أنه علقه بصيغة الجزم دون صبغة التمريض فإنه إذا توقف في هذا الحديث أو
لم يكون على شرطه قال ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ويذكر عنه ونحو
ذلك فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد جزم وقطع بإضافته
إليه.
الخامس : أنا لو أضربنا عن هذا صفحا فالحديث صحيح متصل عند غيره ثم ساقه بإسناده عن أبي داود انتهى.
وأما
قول ابن حزم إن كل حديث في الملاهي موضوع فليس كما قال بل هي أحاديث منها
حسن ومنها ما فيه لين وبمجموعها يثبت الحكم وقد أطلنا الكلام في ذلك في
حواشينا على ضوء النهار.
"وقال ابن الصلاح: ولا التفات إلى ابن حزم في
رده ذلك وأخطأ في ذلك من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح"
وكأنه قيل فإذا كان كذلك فلم صنع البخاري فيه هذا الصنيع فقال "والبخاري قد
يفعل ذلك لكون الحديث معروفا من جهة الثقات" عن الشخص الذي علقه عنه "أو
لكونه ذكره في موضع آخر من كتابه متصلا".
قلت: هذا العذر يوهم أن قول
البخاري وقال هشام غير متصل وأنه أخرج البخاري حديث هشام بن عمار متصلا في
كتابه في موضع آخر وهو خلاف ما هو بصدد تقريره "ولغير ذلك من الأسباب التي
لا يصحبها خلل الانقطاع قال الحافظ زين الدين" مقررا لكلام ابن الصلاح
"والحديث" أي حديث هشام بن عمار "متصل من طرق طريق هشان وغيره" فهو يرد قول
من قال إنه غير متصل إلا أنه لا يخفي أن ابن حزم قال هو غير متصل عند
البخاري ولم يتعرض طريقه نعم قوله توكل ما فيه فموضوع يشمل حديث هشام إلا
أن يقال تقد كلامه عليه بخصوصه يخصصه عن العموم اللاحق "قال" أبو بكر
"الإسماعيلي في المستخرج" على البخاري "حدثنا الحسن وهو ابن سفيان النسوي
الإمام قال ثنا هشام بن عمار فذكره" فهذا اتصال بالاتفاق برجال البخاري
"وقال" أبو أيوب "الطبراني في مسند الشاميين حدثنا محمد بن يزيد بن عبد
الصمد ثنا هشام بن عمار" انتهى كلام الزين.
قال المصنف "والصحيح صحة
الحديث" أي حديث هشام بن عمار "بلا ريب" لما عرفت من ثبوت اتصاله "ولكن
دلالته على التحريم" أي تحريم الملاهي "ظنية معارضة:
================
ج2. كتاب : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار
تأليف: أبي إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد المعروف بالأمير الصنعاني
أما
كونها ظنية فلأنه ذمهم باستحلال مجموع أشياء بعضها" أي استحلال بعضها "كفر
وهو استحلال الخمر" أي عده حلالا لأنه رد لما علم من ضرورة الدين فالكفر
من هذه الجهة "والذم بمجموع أمور لا يستلزم القطع على تحريم كل واحد منها
لجواز أن يذم الكافر الفاسق بأفعال بعضها مكروه مثاله قوله: {خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ} إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ
وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} " يريدوا الحض على طعام المسكين
ليس بواجب ولك أن تقول إنه يجب ويراد به إطعامه لسد رمقه ويؤيده قوله ذلك
وهم في دركات جهنم وقد قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ
نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ويحتمل أن
قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} لا يحض نفسه إلى
إطعامه فيكون مثل: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} .
"ويقوي هذا
أنه جعل استحلال الخز" بالخاء المعجمة والزاي وهذه اللفظة قد اختلف في
ضبطها ففي تيسير الوصول أنها بالحاء المهملة والراء وهو الأوفق لعطف الحرير
لما يأتي "من جملة صفات أولئك المذمومين مع أن جماعة من جملة الصحابة
والتابعين قد لبسوه واستحلوه" فإن لبس الجملة من فريقي السلف للخز يدل على
أنه لا نهي عنه ولا يتعلق به الذم الأولى بجلالة شأنهم وبعدهم عن المكروهات
فلبسهم إياه دليل على لفظ الحديث عندهم الحر بالحاء المهملة والراء
والمراد به استحلال الزنا وهذا أولى مما يفهمه كلام المصنف من أنه بالخاء
المعجمة والزاي لأنه لا ريب في كراهة لبسه لهذا النهي وإن لك يكن محرما
"فيحتمل أن يكون وصفه" أي النبي صلى الله عليه وآله وصل "لهم" أي القوم
المذكورين في حديث هشام بن عمار "بذلك" أي بلبسهم الخز واستحلالهم المعازف
"تمييزا لهم عن غيرهم" لا لأجل أن لوصفهم بذلك دخلا لهم في الخسف بهم
والعقوبة لهم "كما وصف" صلى الله عليه وسلم "الخوارج حين ذمهم بحلق الرؤوس
وصغر الأسنان وخفة الأحلام" ولفظ الحديث عند الشيخين1 من حديث علي رضي الله
عنهم: "سيخرج أقوام في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من
خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون 2 من الدين كما يمرق السهم
من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 9/21. ومسلم في: الزكاة حديث 154.
2 "يمرقون من الدين" الخ أي يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشيء المرمي به ويخرج منه. النهاية 4/320.
فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة", وكون ذو الثدية بضم المثلثة فدال مصغر ثدي "منهم ونحو ذلك والله أعلم".
وقد
بين كيفية الثدية في حديث بلفظ: "آيتهم رجل أسود في إحدى عضديه مثل ثدي
المرأة أو مثل البضعة تدردر" 1 وفي رواية: "إن فيهم رجلا له عضد ليس ذراع
على عضديه مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض" 2.
إذا عرفت هذا فمراد المصنف
أن خفة الأحلام وحداثة الأسنان وحلق الرؤوس ليست من موجبات الأمر بقتلهم
فما ذكرت تمييزا لهم عن غيرهم وليس فيه دلالة عن تحريم تلك الأمور فكذلك
استحلال المعازف والخز ليس من أسباب المسخ بأولئك القوم فلا يدل الحديث على
تحريم المعازف.
وأقول لا يخفي أنه أولا ليس في صفات الخوارج المذكورة
هنا ضم شيء محرم من صفاتهم إلى مكروه أو مباح بل جميع ما ذكر من صفاتهم
مباحة بضم بعضها إلى بعض للتمييز وثانيا أنه احتج في حديث الخوارج إلى ذكر
ما يميزهم من الصفات لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتالهم فاحتيج إلى ذكر
ما يميزهم من الصفات ليقدم على قتالهم على بصيرة لأنهم مسلمون محقونة
دماؤهم في الظاهر بخلاف الذين يمسخون قردة فإنه لا حاجة إلى وصف لهم مميز
إذ لسنا مأمورين فيهم بشيء والأصل فيما ذكر من الأوصاف ورتب عليه الحكم وهو
المسخ هنا كل صفة لها دخل في إثبات الحكم إما بالاستقلال أو بالجزئية ولا
يخرج عن هذا ويصير للتمييز إلا بقرينة كما ذكرناه في الخوارج.
واعلم إن
المصنف جزم بأن الرواية بالخاء المعجمة والزاي لا غير وفي النهاية في حديث
أشراط الساعة يستحل الحر والحرير هكذا ذكره أبو موسى بالحاء والراء وقال
الحر بتخفيف الراء الفرج ثم قال بان الأثير والمشهور في هذا الحديث على
اختلاف طرقه يستحلون الخز بالخاء المعجمة والزاي وهو ضرب ثياب الإبريسم
معروف وكذا جاء في كتاب البخاري وأبي داود ولعله حديث آخر كما ذكره أبو
موسى فهو الحافظ عارف بما روي وشرح ولا يتهم.
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: المناقب: ب 25. ومسلم في: الزكاة حديث 148. واحمد 3/56, 65.
2 مسلم في: الزكاة: حديث 156, وأحمد 1/92.
قلت:
ولا يخفى أن عطف الحرير عليه يناسب أن يكون المهملة والراء لأن الحرير قد
دخل فيه الخز بأحد معنييه وبالمعنى الآخر ليس منهيا عنه.
"قال ابن
الأثير في النهاية الخز المعروف أولا ثياب ينسج من صوف وإبريسم وهي مباحة
وقد لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي عنها لأجل التشبيه بالعجم وزي
المترفين وغن أريد بالخز النوع الآخر المعروف الآن فهو حرام لأن جميعه
معمول من الإبريسم وعليه يحمل الحديث قلت: في هذا الحمل إشكال فإن الحديث
إنما يحمل على ما كان يسمى خزا في زمانه صلى الله عليه وسلم في عرف
المخاطبين وأما الذي ذكره فهو داخل في تحريم الحرير وقد فرق في هذا الحديث
بين الخز والحرير وعطف أحدهما على الآخر فدل على التغاير" هذا الكلام صحيح
لو تعين في الرواية بالخاء المعجمة لكن الرواية من حيث الدراية قد ترددت
بين اللفظين فإن كان ابن الأثير رجح رواية المعجمة من حيث الرواية فهو
معارض بترجيح رواية المهملة من حيث الدراية إذ ضم المحرمات في قرن وجمعها
في حكم هو الأوفق ببلاغته صلى الله عليه وسلم ولأن الخز المخلوط بالإبريسم
غير محرم ولأن الأصل فيما ترتب عليه حكم هو ما عرفناك من أنه السبب أو
جزؤه.
"فهذا مما يدل على أن دلالة الحديث" على تحريم الملاهي "ظنية"
والظني للمجتهد فيه نظرة هذا من حيث الدلالة "وأما أنها معارضة فلأنه صلى
الله عليه وسلم سمع زمارة الراعي" بكسر الزاي وتخفيف الميم ككتابة اسم لفعل
من الزامر يقال زمر يزمر بضم الميم وكسرها زمرا وزمر بتشديد الميم ترميزا
غنى في القصب وفعلها زمارة ككتابة أفادة في القاموس "ولم يكسرها ولا بين له
تحريمها" بل سد أذنيه عن سماعها "وحديثهما صحيح على الأصح" قد قال إن هذه
واقعة عين قرر عليها الراعي فلا يدري على أي وجه وقع فلا تعارض ما ورد من
أدلة كثيرة يفيد مجموعها التحريم.
وأما قوله: "وأباح الضرب بالدف في
العرس والعيد وعند قدوم الغائب ولم يأمر بكسره" فقد يقال هذه رخصة رخص فيها
الأحوال لا غير فيقتصر عليها "ولا شك في كراهة ذلك في غير العرس ونحوه"
مما ذكره "وإنما الكلام في صريح التحريم" الأحسن في قطعية التحريم إذ هو
محل نزاعه فيما سلف "والكف عن النكير
عمن استحل ذلك من أهل العلم
لأنه محرم ظني" لا نكير فيه والمصنف استطرد هذا البحث في حكم الملاهي وليس
هذا محله إذ كتابه مؤلف في اصطلاح أئمة الحديث وكون الغناء محرما أو غير
محرم من علوم الحديث كما لا يخفي وقد يوجد محذوفا في بعض نسخ كتابه هذا.
* * *
مسألة
12 [في أخذ الحديث من الكتب]من علوم الحديث يجوز "نقل الحديث من الكتب
الصحيحة المعتمدة" في الصحة والضبط "لمن يسوغ له عمل بالحديث" زاد ابن
الصلاح والاحتجاج به لذي مذهب1 ثم بين المصنف من الذي يسوغ له العمل بقوله
"وهو العالم بشروط العمل بالحديث وكيفية الاستدلال به وجعل ابن الصلاح شرطه
أن يكون ذلك الكتاب مقابلا بمقابلة ثقة على أصول صحيحة متعددة مروية
بروايات متنوعة" عبارة ابن الصلاح قد قابله هو أو ثقة غيره ثم قال ليحصل
بذلك مع اشتهار هذه الكتب وبعدها عن أن تقصد بالتبديل والتحريف الثقة بصحة
ما اتفقت عليه تلك الأصول "قال" الشيخ محي "الدين النووي فأن قابلها بأصل
معتمد محقق أجزاه2" قال الزين وفي كلام ابن الصلاح في موضوع آخر ما يدل على
عدم اعتبار ذلك3.
قلت: المعتبر حصول الظن فإن كان الأصل صحيحا عليه خط
إمام من الأئمة أو جماعة أجزأه وإن كان ليس كذلك فلا بد من ضم أصول غليه
ليحصل الظن بالصحة.
"قال زين الدين: وقال بان الصلاح في قسم الحسن حين
ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله حسن أو حسن صحيح أو نحو ذلك فينبغي أن
تصحح أصلك بجماعة أصول وتعتمد على ما اتفقت عليه فقوله فينبغي قد يشير إلى
عدم اشتراط ذلك" أي تعدد النسخ "وإنما هو مشعب وهو كذلك".
قال الحافظ
ابن حجر تعقبا لشيخه ما لفظه ليس بين كلامه أي ابن الصلاح هنا مناقضة بل
كلامه هنا مبني على ما ذهب إليه من عدم الاستدلال بإدراك الصحيح بمجرد
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 43.
2 التقريب والتيسير 1/150.
3 التقييد والإيضاح ص 43.
الأسانيد
لأنه علل صحة ذلك بأنه ما من إسناد إلا ونجد فيه خللا فقصية ذلك إلا يعتمد
على أحدها بل يعتمد على مجموع ما تنفق عليه الأصول المتعددة ليحصل بذلك
جبر الخلل الواقع في أثناء الأسانيد وغما قوله في الموضع الآخر ينبغي أن
تصحح أصلك بعدة أصول فلا ينافي كلامه المتقدم لأن هذه العبارة تستعمل في
اللازم أيضا انتهى.
قلت: ومراده بالعبارة ينبغي وقد وقعت في اللازم في
حديث: "إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد" 1 مع ورودها في لفظ آخر بلفظ لا
تحل ولكن الزين قد مرض ما قاله بقوله قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك فلم يجزم
بإشارته إنما لا حط مجرد الاحتمال ثم استدل الزين لمختاره بما نقله بقوله
"قال الحافظ أبو بكر محمد بن خير2" بالمعجمة فمثناة تحتية ابن عمر الأموي
بفتح الهمزة الأشبيلي وهو خال أبي القاسم السهيلي قال: "وقد اتفق العلماء
على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا حتى
يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات لقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 3 رواه الجم
الغفير من الصحابة قبل أربعون وقيل اثنان وستون ومنهم العشرة المبشرة
بالجنة ولم يزل العدد على التوالي في ازدياد "وفي بعض الروايات علي مطلقا
من غير تقييد" بالتعمد.
"قلت: ومن روى بالوجادة الصحيحة فقد صار الحديث
له مرويا بأوسط وجوه الروايات كما سيأتي في باب الوجادة" وهي أن يجد بخطه
أو بخط شيخه أو خط من أدركه من الثقات فيأخذ حظا من الاتصال وإن كانت
منقطعة في الحقيقة ويقول إذا روي وجدت بخط فلان ويأتي كلام المصنف تاما في
ذلك فهذا بعضه "فلا معنى لاعتراض زين الدين بذلك على ابن الصلاح والنووي"
لا يعزب عنك أن الزين نقل عن الأموري الأشبيلي الاتفاق على أنه لا يصح
لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلى الله
ـــــــــــــــــــ
1 مسلم في: الزكاة حديث 167, 168. وأبو داود في: الإمارة ب 20. والنسائي في: الزكاة ب 95. وأحمد 3/402.
2
أبو بكر محمد بن خير الأشبيلي كان محدثا متقنا أديبا نحويا لغويا ولم يكن
له نظير في هذا الشأن مات سنة 575هـ. له ترجمة في: العبر4/225. وتذكرة
الحفاظ 4/1366.
3 البخاري 1/38. وأبو داود 3651. وأحمد 1/78, 167.
عليه
وسلم كذا حتى يكون عنده ذلك القوم مرويا ولو على أقل وجوه الروايات فلعله
يقول من روي بالوجاده فقد روي على وجه من وجوه الرواية ولعله المراد بأقلها
فهو حينئذ داخل تحت شرط الاتفاق فليس كلام الزين اعتراضا على ابن الصلاح
ومن تبعه لأن ابن الصلاح شرط في النقل مقابلة المنقول منه على أصول صحيحة
متعددة مروية بروايات متنوعة وهذا نقل بوجادة صحيحة ثم نقل الزين تقرير ذلك
عن الأموي وأنه اتفاق فأين الاعتراض إلا أنه لا يخفي أن كلام الأموي في
الرواية عنه صلى الله عليه وسلم جزما ونسبة الحديث إليه وكلام ابن الصلاح
في النقل والنقل أعم من الرواية إذ قد يكون للعمل لا للرواية ولهم في العمل
شرائط غير شرائط الرواية كن يأتي وقد يقال أنه إذا امتنع في الوجادة أن
يقال حدثنا امتنع فيما أن يقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وحينئذ
فلا تكون الوجادة طريقا للرواية بلفظ قال فلا يفسر بها أقل وجوه الرواية في
كلام الأموي فتأمل.
"وأما قوله في بعض الروايات من كذب علي مطلقا من
غير تقييد فالمطلق يحمل على المقيد" فيكون الحكم للمقيد "وشواهد هذا
التقييد كثيرة في القرآن" {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ
بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. ونحوها وكثيرة
في السنة: "رفع عن أمتي الخطأ" 1 ونحوه "ولم يسلم من الوهم في الروايات أحد
من الثقات غالبا والله أعلم" قد عرفت أن الكذب عند الجمهور ما لم يطابق
الواقع فمن أخبر به متعمدا كان كاذبا آثما ومن أخبر به غير متعمد كان كاذبا
غير آثما فالواهم غير آثم قطعا.
إذا عرفت هذا فالراوي بالسماع عن
الشيوخ مثلا حاك عنهم أنهم قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فهو
غير كاذب قطعا ولو فرض أن الحديث كذب في نفس الأمر وكذا من رواه بأي الطرق
الآتية فإنه راو لما كاتبه به فلان أو وجد بخطه أو أجاز له أن يروى عنه.
نعم
لا بد أن يعرف من حدثه أو وجد بخطه صادق فيا رواه وإلا كان راويا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما يجوز أنه كذب وراوي الكذب أحد الكذابين.
ـــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة في: الطلاق: ب 16.
مسألة
13 [في بيان القسم الثاني: وهو الحديث الحسن]ولما فرع المصنف من التكلم
على الصحيح أخذ في التكلم على الحسن فقال "القسم الثاني الحسن" تقدم له أنه
قسم الخطأ بي الحديث إلى ثلاثة أقسام ثانيهما الحسن.
قال الشيخ تقي
الدين بن تيمية إثبات الحسن اصطلاح للترمذي وغير الترمذي من أهل الحديث ليس
عندهم إلا صحيح وضعيف والضعيف عندهم ما انحط عن درجة الصحيح ثم قد يكون
متروكا هو أن يكون رواية متهما أو كثير الغلط وقد يكون حسنا بأن لا يتهم
بالكذب قال وهذا معنى قول أحمد العمل بالضعيف أولى من صحاب القياس "وفيه"
أي وفي هذا البحث المذكور فيه الحسن "ذكر شروط أهل السنن الأربعة" وشروط
"أهل المسانيد وغيرهم" كأنه يريد أهل الأطراف.
"اختلفت أقوال الأئمة" من
أهل الحديث "في حد الحديث الحسن فقال" في تعريفه "أبو سليمان الخطابي
الحسن ما عرف مخرجه" بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء قال الحافظ
ابن حجر إنه فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون الحديث من
رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلد كقتاة في البصريين وأبي اسحق
السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين وأمثالهم فإن حديث البصريين إذا جاء
عن قتادة مثلا كان مخرجه معروفا وإذا جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذا
"واشتهر رجاله" أي كان رجال سنده مشهورين غير مستورين وعرفه الحافظ في
النخبة بتعريف الصحيح وإنما فرق بينهما بخفة الضبط في رجال الحسن ومثله صنع
المصنف في مختصره في علوم الحديث "وعليه مدار أكثر أهل الحديث وهو الذي
يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء انتهى كلام الخطابي قال زين
الدين: ورأيت في كلام بعض المتأخرين أن قوله ما عرف مخرجه احتراز عن
المنقطع وعن حديث المدلس قبل أن يبين تدليسه" لا يخفي أن كلام ابن العربي
الذي نقلناه آنفا دال على أنه خرج بذلك
القيد الشاذ.
"قال الشيخ
تقي الدين" ابن دقيق العيد "ليس في عبارة الخطابي كثير تلخيص وأيضا فالصحيح
قد عرف مخرجه واشتهر رجاله فيدخل الصحيح في حد الحسن" على تعريف الخطابي
قال الشيخ تقي الدين متأولا للخطابي "وكأنه" أي الخطابي "يريد ما لم يبلغ
درجة الصحيح" قد أجاب عن هذا الشيخ أبو سعيد العلائي فقال إنما يتوجه
الاعتراض على الخطابي أن لو كان عرف الحسن فقط أما وقد عرف الصحيح أولا ثم
عرف الحسن فيتعين حمل كلامه على أنه أراد بقوله عرف مخرجه واشتهر رجاله ما
لم يبلغ درجة الصحيح ويعرف هذا من مجموع كلامه انتهى.
قلت: هذا هو
الجواب الذي أشار إليه الشيخ تقي الدين آخرا لكنه أورد عليه الحافظ ابن حجر
أنه على تسليم هذا الجواب فهذا القدر غير منضبط انتهى.
قلت: ويقال
للحافظ وكذلك تعريفك الحسن في النخبة وشرحها بقولك فإن خف الضبط أي قل مع
بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح فحسن لذاته غير منضبط أيضا فإن خفة
الضبط أمر مجهول ومثله تعريف المصنف له في مختصره والجواب بأنه مبني على
العرف أو على المشهور غير نافع إذ لا عرف في مقدار خفة الضبط.
"قال
الشيخ تاج الدين التبريزي في كلام الشيخ تقي الدين نظر لأنه ذكر من بعد أن
الصحيح أخص من الحسن ودخول الخاص" وهو الصحيح هنا في "حد العام" وهو الحسن
هنا "أمر ضروري" لوجود العام في ضمن قيود الخاص ضرورة أن الخاص هو العام
وزيادة "والتقييد بما يخرجه" أي الخاص "عنه" أي عن حد العام "مخل للحد"
فإنه ليس ذلك حقيقة العام والخاص.
"قال زين الدين: وهو اعتراض متجه" قال
الحافظ بن حجر بين الحسن والصحيح عموم وخصوص من توجه وذلك بين واضح لمن
تدبره فلا يرد اعتراض التبريزي إذ لا يلزم من كون الصحيح أخص من الحسن من
وجه أن يكون أخص منه مطلقا حتى يدخل الصحيح في الحسن انتهى.
"قلت: بل
هو" أي تنظير التبريزي "اعتراض غير متجه" على ابن دقيق العيد "لأن العموم
والخصوص إنما يقع على الحقيقة في الحدود الحقيقية المعرفة للذوات المركبة
المشتملة على الأجناس والفصول وليس في الحديث الصحيح والحسن شيء من ذلك" قد
عرفت مما سلف أن رسم الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله...
إلخ
ورسم الحسن بأنه ما اتصل سنده برواية من خف ضبطه إلى آخره فقيد الضبط قد
أخذ في الرسمين إنما اختلفت صفة خفته وخلافها فقد تغايرا تغاير الخاص
والعام فكل صحيح حسن وزيادة كما أن كل إنسان حيوان وزيادة والعموم والخصوص
يجري بين المفاهيم عرضية كانت أو ذاتية نعم رسم الترمذي للحسن على ما
سنحققه مغاير لرسم الصحيح مغايرة ظاهرة فإنه لا يشترط فيه الاتصال الذي لا
بد منه في الصحيح لعدم اشتراطه في رجال ما يشترط في رجال الصحيح فأما قول
الحفاظ إن بينهما عموما وخصوصا من وجه فلا يتم على تقدير إرادة الحسن لذاته
أو الحسن لغيره بل على الأول بينهما عموم وخصوص مطلق وعلى الثاني: بينهما
تباين كما ستعرفه وقول المصنف "لأن لكل واحد منهما" أي من الصحيح والحسن
"أمارة يجب العمل عندها وبعضها أقوى في الظن من الأخرى" صحيح لكنه لا ينافي
كون أحدهما أخص من الآخر بل فيه الإقرار بأنه قد جمعهما وجوب العمل كما
يجمع العام والخاص أمر يعمهما ثم يفترقان بأمر يختص به أحدهما "لا أن
القوية" أي الإمارة القوية هي أمارة الصحيح "متركبة من الضعيفة" وهي أمارة
الحسن "ومن أمر آخر" أي كما هو شأن الذاتيات مثل الإنسان والحيوان فإن
الخاص مركب من الأعم بزيادة قيد الناطقية مثلا ويجاب بأنه قد حصل في مفهوم
الرسمين من التغاير ما يحصل بين العام والخاص وأما كونه ذاتيا أو غير ذاتي
فليس التغاير يختص بالذاتيات بل يقع بين المفاهيم وهو المراد هنا وقوله
"فإن الحديث الصحيح المروي عن ابن سيرين لم يتركب من الحديث الحسن المروي
عن ابن اسحق ومن الحديث الصحيح المروي عن ابن سيرين وأمثال ذلك" خارج عم
محل النزاع إذ الكلام في رسم الصحيح والحسن ومفهومها لا في معروضها فهو
انتقال من المعارض وهو الصحيح والحسن إلى المعروض وهو أفراد الأسانيد.
"وبالجملة
فالحد الحقيقي" أي التام وهو الذي يجمع الجنس والفصل القريبين والناقص من
الحد ما كان بالجنس البعيد والفصل القريب والرسم التام ما كان بالجنس
القريب والخاصة والرسم الناقص ما كان بالخاصة وحدها أو بها وبالجنس البعيد
"متعذر هنا" بل قد قيل إنه غير مقطوع به في مثل الحيوان الناطق الذي جزم به
المناطقة بأنه حد حقيقي لجواز أنهما ليسا ذاتيين وعلى تجويز ذلك فيجوز
أنهما غير قريبين "وإنما تفيد تمييز الاعتبارات المصطلح عليها بعضها من
بعض" قد قدمنا لك هذا بعينه
في أو ل بحث الصحيح فتذكر "وذكر الحدود
المحققة أمر أجنبي عن هذا الفن فال حاجة إلى التطويل فيه" قد عرفت قريبا
أقسام التعريف الأربعة للحد والرسم إلا أن هاهنا بحثا وهو أن الرسوم يقال
لها تعاريف كما يقال للحدود إذ تعريف الشيء هو الذي يلزم من تصوره تصور ذلك
الشيء أو امتيازه عن كل ما عداه كما هو معروف في كتب الميزان الرسالة
الشمسية وغيرها فالرسوم لا بد فيها من جنس قريب وخاصة وهو التام أو خاصة
فقط أو مع الجنس البعيد وهو الناقص فإذا عرفت هذا عرفت أن العموم والخصوص
يجري في الرسوم كما يجري في الحدود.
"وقال أبو عيسى الترمذي" وهو محمد
بن سورة "في العلل التي في أواخر الجامع ما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن
فإنما أردنا به حسن إسناده وحقيقته" عنده "هو كل حديث يروى ولا يكون في
إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروي من غير وجه نحو ذلك فهو
عندنا حسن" قلت: قد أورد على كلام الترمذي أنه لا حاجة إلى قوله ولا يكون
شاذا إذ قوله ويروى من غير وجه يغني عنه وقال الحافظ ابن حجر ليس في كلامه
تكرار والشاذ عنده ما خالف فيه الراوي من هو أحفظ منه أو أكثر سواء تفرد به
أو لم يتفرد كما سرح به الشافعي وقوله ويروي من غير وجه شرط زائد على ذلك
وإنما يتمشى ذلك على رأي من يزعم أن الشاذ ما تفرد به الراوي مطلقا وحمل
كلام الترمذي على الأول أولى لأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على
التأكيد سيما في التعاريف انتهى.
"قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي
بكر المواق" عبارة الزين ابن المواق معترضا على الترمذي "لم يخص الترمذي
الحسن بصفة تميزه عن الصحيح" فإن شرائط الحسن هذه لا بد منها في الصحيح
"فلا يكون" الحديث "صحيحا إلا وهو غير شاذ" كما عرفت في رسم الصحيح "ويكون
رواته غير متهمين" لأنا قلنا في رسمه بنقل العدل الضابط والمتهم غير عدل
"بل ثقات فظهر من هذا" الرسم الذي ذكره الترمذي للحسن "أن الحسن عند أبي
عيسى صفى لا تخص هذا القسم بل قد يشركه فيه الصحيح قال" أبو عبد الله "فكل
الصحيح عنده حسن وليس كل حسن عنده صحيحا" ظاهر كلامه أن الترمذي أتى بقيود
الصحيح في رسم الحسن ولم يميزه بقيد يخصه به وإذا كان كذلك فقياسه أن يقول
فكل صحيح حسن وكل حسن صحيح.
"قلت: هذا" أي القول بالأعمية والأخصية المطلقة "مثل كلام تاج الدين" التبريزي
"المقدم"
وقد رده المصنف بما رددناه "وليس ما قاله" ابن الموإق "بلازم للترمذي" من
اتحاد الصحيح والحسن "لأنه يشترط في رجال الصحيح من قوة العدالة" .
قلت:كلامهم
كلهم ومنهم المصنف في مختصره وقد نقلنا عبارته قاض بأنه لا يخالف الحسن
الصحيح إلا بخفة ضبط رواته لا بضعف العدالة على أن في تحقق ضعف العدالة
تأملا لا يخفي "وقوة الحفظ والإتقان" هذا صحيح وبهذا تعرف أن الحسن يتميز
عن الصحيح بزيادة شروط في القيود ولا يخفي أن الحافظ ابن حجر والمصنف لم
يفرقا بين الصحيح والحسن إلا بخفة ضبط الراوي فقط وزاد المصنف هنا الإتقان
في شرائط رواة الصحيح ولم يذكره فيما مضى إلا أن يقال إن قولهم في حد
الصحيح الضبط التام عبارة تفيد شرطية الإتقان "ما لا يشترط في رجال الحسن"
حينئذ فالحسن يتميز عن الصحيح بزيادة قيود في شروط الصحيح وقد عرفت غير مرة
أنه لم يفرق المصنف والحافظ ابن حجر بين الحسن والصحيح إلا بخفة ضبط
الراوي لا غير.
"ولكن يعترض عليه" أي على الترمذي "كونه لم يورد ذلك" أي
لم يورد ما يدل على اشتراطه بقوة رجال الصحيح عدالة وحفظا وإتقانا وقد
يقال إذا لم يورد ذلك فبأي شيء عرف أنه يشترطه فأجاب بأنه "يمكن أن يجاب
عنه بأنه مفهوم من عبارته حيث شرط في رجال الحسن أن يكونوا غير متهمين
بالكذب لأن الثقة الحافظ لا يوصف في عرف المحدثين بأنه غير متهم بالكذب فقط
لأن عدم التهمة بذلك قد يوصف بها الضعفاء" الذين ضعفوا بسوء الحفظ أو
الغفلة أو نحو ذلك "وقد بين مراده بقوله بعد ذلك ويروي من غير وجه نحو ذلك
يعني حتى ينجبر ما فيه من الضعف" فإنه لما خص رسم الحسن بهذا الاشتراط كان
قرينة قوية على مراده في صفات رجاله وإلا لو حملنا صفة رجال الصحيح للزم من
زيادة هذا القيد أن يكون الحسن أقوى من الصحيح والمعلوم خلافه على أنه لا
يتم هذا إلا في القسم الثاني: من الحسن كما ستعرفه من كالم المصنف "وغرض
الترمذي إفهام مراده لا التحديد المنطقي فلا اعتراض عليه بمناقشات أهل
الحدود" من دعوى العموم والخصوص وقد عرفت ما فيه.
"وأورد الشيخ زين
الدين على كلام الترمذي هذا سؤلا متجها" وذلك أنه شرط في الحديث أن يروي من
غير وجه "وهو أنه قد حسن أحاديث لا تروى إلا من وجه واحد
كحديث
إسرائيل" بن يونس بن أبي اسحق السبيعي "عن يوسف بن أبي بردة" بن أبي موسى
الأشعري "عن أبيه" أبي بردة "عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك قال" الترمذي "فيه" بعد روايته له "حسن
غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف عن أبي برده ولا يعرف في هذا
إلا حديث عائشة" فوصفه بالحسن مع تصريحه بأنه لا يعرف هذا الباب غيره فدل
على أنه لم يأتي من وجه آخر فكان نقضا لما رسم به الحسن.
"وأجاب الشيخ
أو الفتح اليعمري عن هذا الحديث بأن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير ما كان
روايته في درجة المستور" ويأتي تعريفه "ومن لم تثبت عدالته" ولا يخفي أن
هذا زيادة قيد لم صرح به الترمذي "وأكثر ما في الباب من أن الترمذي عرف
الحسن بنوع منه لا بكل أنواعه" والنوع الذي قد عرفه وهو ما كان في رواته
مستور ومن لم تثبت عدالته وحديث عائشة هذا ليس فيه مستور ولا من لم تثبت
عدالته.
"قلت: أظن أن أبا الفتح يريد أن الغرابة في الحديث إنما هي في
رواية يوسف له عن أبيه عن عائشة ولم يتابع يوسف على هذا أحج ويوسف ثقة بغير
خلاف" وإذا كان كذلك فلا يشترط أن يأتي من وجه آخر "وأما إسرائيل فمختلف
فيه" فلا بد بالنظر إليه من إتيان الحديث من وجه آخر وهذا مبني على أن
مراده أي أبي الفتح اليعمري بقوله ومن لم تثبت عدالته لم يتفق على عدالته
ليقابله المصنف بقوله مختلف فيه "لكنه لم ينفرد" إسرائيل "بالحديث عن يوسف"
حتى يلزم أنه حديث فيه من لم تثبت عدالته ولم يرو من وجه آخر بل قد رواه
عن يوسف غير إسرائيل إذا عرفت هذا "فالحديث حسن" أي من هذا النوع من الحسن
"بالنظر إلى رواية إسرائيل ويغره من الضعفاء" لأنه قد وجد في رواته من لم
تثبت عدالته وقد روي من وجه آخر عن جماعة من الضعفاء "عن يوسف" فهو من هذا
النوع أعني الحسن الذي عرفه المصنف لاجتماع الشرائط فيه "وغريب بالنظر إلى
تفرد يوسف بروايته عن أبيه عن عائشة" فيتم وصفه بالحسن والغرابة لوجودهما
فيه.
واعلم أن إسرائيل اعتمده الشيخان في الأصول وقال الذهبي في
الميزان1 هو في الثبت كالأسطوانة فلا يلتفت إلى تضعيف من ضعفه وقال أحمد بن
حنبل ثقة
ـــــــــــــــــــ
1 1/20/- 209//820.
وكان يتعجب
من حفظه وقال الحافظ ابن حجر في التقريب1ثقة تكلم فيه بلا حجة وأما يوسف
بن أبي برده فقال مقبول ولم يذكر فيه قدحا ولا ذكره الذهبي في الميزان لأنه
ليس على شرطه.
"وقال ابن الجوزي2 في العلل المتناهية وفي الموضوعات"
كتاب ابن الجوزي "الحديث الذي فيه ضعف قريب3 محتمل4 هو الحديث الحسن بشرط
الترمذي" الذي عرفته في التحسين.
"وقال ابن الصلاح: وقد أمعنت النظر" في
القاموس أمعن في الأمر أبعد وعبارته قد أمعنت النظر في ذلك والبحث "جامعا
بين أطراف كلامهم ملاحظا مواقع استعمالهم فتنقح لي" كأنه من تنقيح الشعر
تهذيبه "واتضح أن الحديث الحسن" في اصطلاحهم في كلامهم "قسمان أحدهما الذي
لا تخلو رجال إسناده من مستور" فسر الحافظ ابن حجر في التقريب المستور
بقوله بأنه من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق قال وإليه الإشارة بلفظ مستور
أو مجهول الحال وفي شرح ملاقاري للنخبة وشرحها لابن حجر أن المستور الذي
لم يتحقق عدالته ولا جرحه وقال السخاوي المستور الذي لم ينقل فيه جرح ولا
تعديل وكذا إذا نقلا ولم يترجح أحدهما وفي حاشية تلميذه أن الراوي إذا لم
يسم كرجل سمي مبهما وإن ذكر مع عدم تمييز فهو المهمل وإن لم يتميز ولم يرو
عنه إلا واحد فمجهول وإلا فمستور انتهى ويأتي
ـــــــــــــــــــ
1 1/64/460.
2
ابن الجوزي هو: الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبد
الرحمن الصديقي الحنبلي الواعظ حصل له من الخطوة في الوعظ ملم يحصل لأحد
قط. قال الذهبي: لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل
باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه مات سنة 597. له ترجمة في: البداية والنهاية
13/28, والعبر 4/297.
3 ضعف قريب: أي ذاتي أو نسبي فهو شامل للحسن لذاته
والحسن لغيره أما الحسن لذاته فهو ضعيف بالنسبة للصحيح وأما الحسن لغيره
فهو ضعيف أصالة وإنما جاء الحسن مما عضده فاحتمل الضعف لوجود العاضد.
ومعنى قربه: أنه غير شديد الضعف ومعنى شدة ضعفه عدم تأثيره في الاحتجاج به. حاشية الأجهوري ص 24.
4 محتمل: بضم الميم الأولى وفتح الثانية أي مغتفر أي لم يؤثر في الاحتجاج وذكره بعد قريب توكيد له. حاشية الأجهوري ص 24.
للمصنف
كلام ف المستور غير هذا "لم تتحقق أهليته غير أنه لي مغفلا كثير الخطأ
فيما يرويه ولا هو متهم بالكذب في الحديث أي لم يظهر من ه الكذب في الحديث
ولا" متهم "بسبب آخر مفسق" هذا في الراوي "و" في المروي "يكون متن الحديث
مع ذلك قد عرف بأن يروي مثله أو نحوه من وجه آخر" والمثل ما يساويه في لفظه
أو معناه والنحو ما يقاربه في معناه "أو أكثر حتى" يكون قد "اعتضد بمتابعة
من تابع راوية على مثله أو بما له من شاهد وهو ورود حديث آخر مثله فيخرج
بذلك عن أن يكون شاذا أو منكرا وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل" قال
الحافظ ابن حجر إن المعرف عند الترمذي هو حديث مستور.
قلت: وهذا كما
فهمه المصنف ولا يعده كثير من أهل الحديث من قبيل الحسن وليس هو نفي
التحقيق عند الترمذي مقصورا على رواية المستور بل يشترك فيه الضعيف بسبب
سوء الحفظ والموصوف بالخطأ والغلط وحديث المختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا
عنعن وما في إسناده انقطاع خفيف فكل ذلك عنده من قبيل الحسن بالشروط
الثلاثة وهو أن لا يكون فيهم من يتهم بالكذب ولا يكون الإسناد شاذا وأن
يروي مثل ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعدا وليس كلها في المرتبة على
حد سواء بل بعضهم أقوى من بعض ومما قوي هذا ويعضده أنه لم يتعرض لمشروطية
اتصال الإسناد أصلا بل أطلق ذلك ولهذا وصف كثيرا من الأحاديث المتقطعة
بكونها حسانا.
ثم قال فمن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف
السيئ الحفظ ما رواه من طريق شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن
عامر بن ربيعة عن أبيه قال: إن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين, فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين", قالت: نعم,
الحديث قال الترمذي هذا حديث حسن1 وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأبي حدرد
وذكر جماعة غيرهم وعاصم بن عبيد الله قد ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ
وعاب ابن عيينة على شعبة الرواية عنه وقد حسن الترمذي حديثه هذا لمجيئه من
غير وجه كما شرط والله أعلم.
ـــــــــــــــــــ
1 الترمذي 1113, وأحمد 3/445, والبيهقي 7/138, وابن عساكر 7/127.
ومثال
ما حسنه وهو من رواية الضعيف الموصوف بالخطأ والغلط ما أخرجه من طريق عيسى
بن يونس عن مجالد بن أبي الوداك عن أبي سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما
نزلت آية المائدة سألت رسول لله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه ليتيم, فقال
صلى الله عليه وسلم: "أهر يقوه...", الحديث فقال هذا حديث حسن1.
قلت: ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: من حديث أنس وغيره.
ثم
قال ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية من سمع من مختلط بعد اختلاطه
ما رواه من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علاقة قال صلى بنا
المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام فلم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم
أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم وقال هكذا صنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال هذا حديث حسن2.
قلت: والمسعودي اسمه عبد
الرحمن وهو ممن وصف بالاختلاط وكان سماع يزيد بعد أن اختلط وإنما وصفه
بالحسن لمجيئه من أوجه أخر بعضهما عند المصنف أيضا ومن أمثلة ما وصفه
بالحسن وهو من رواية مدلس قد عنعن ما رواه من طريق يحيى بن سعيد عن المثني
بن سعيد عن قتادة عن عبد الله بن بربده عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم: قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين", قال هذا حديث حسن3 وقد قال بعض أهل
العلم لم يسمع قتادة من عبد الله بن بريدة.
قلت: وهو عصريه وبلديه
كلاهما من أهل البصرة ولو صح أنه سمع منه فقتادة مدلس معروف بالتدليس وقد
روي هذا بصيغة العنعنة وإنما وصفه بالحسن لأن له شواهد من حديث عبد الله بن
مسعود وغيره.
ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو منقطع الإسناد ما رواه من
طريق عمرو ابن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله عنه قال: إن النبي صلى
الله عليه وسلم قال
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 5/167, ومسلم في: الصيد: حديث 33, وابن ماجة 3195. وأبو داود في: الأشربة: ب 7.
2الترمذي في: الصلاة: ب 152. حديث: 364. وأحمد 4/253.
3 الترمذي 982. والنسائي 4/6. وابن ماجة 1452. وأحمد 5/357, 360.
لعمر في العباس رضي الله عنه: "إن عم الرجل صنو أبيه" وكان عمر تكلم في صدقته وقال هذا حديث حسن1.
قلت:
أبو البختري اسمه سعيد بن فيروز ولم يسمع من علي رضي الله عنه فالإسناد
منقطع ووصفه بالحسن لأن له شواهد مشهورة من حديث بريدة وغيره.
وأمثلة
ذلك عنده كثيرة ثم ساق الحافظ منها شطرا صالحا وذكر تصريح الترمذي بوصفه
لأحاديث بالحسن مع تصريحه بانقطاعها فإنه قال في محلات هذا حديث حسن وليس
إسناده بمتصل ثم قال الحافظ وذلك مصير منه إلى أن الصورة الاجتماعية لها
تأثير في التقوية وإذا تقرر ذلك كان من رأيه أي الترمذي أن جميع ذلك إذا
اعتضد بمجيئه من أوده أخر نزل منزلة الحسن احتمل أن لا يوافقه غيره على هذا
الرأي أو يبادر للإنكار عليه ما إذا وصف حديث الراوي الضعيف أو ما إسناده
منقطع بكون حسنا فاحتاج إلى التنبيه على اجتهاده في ذلك وأفصح عن مقصده
فيه. انتهى.
قلت: وبه تعرف عدم ورود ما أورده بدر الدين ابن جماعة على
ابن الصلاح أنه يلزم حيث نزل كلام الترمذي على هذا القسم دخول المرسل
والمنقطع في رسم الحسن عند الترمذي إذا كان في رجالهما مستور وروي مثله أو
نحوه من وجه آخر لما عرفت من التزامه دخول ذلك في رسم الحسن إذا روي من وجه
آخر حسن لأنه لا يشترط الاتصال في الحسن وهو شرط في الصحيح اتفاقا وتعرف
أيضا أن الحسن على اصطلاحه غير الحسن على اصطلاح الحافظ ابن حجر والمصنف
كما أشرنا إلى ذلك.
"القسم الثاني" : من الحسن "أن يكون رواية من
المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لا يبلغ درجة رجال الصحيح لكونه يقصر
عنهم في الحفظ والإتقان وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به منكرا
قال" أي ابن الصلاح "ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذا أو
منكرا سلامته" نائب يعتبر "من أن يكون معللا وعلى القسم الثاني: ينزل كلام
الخطابي" حيث قال الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله كما نقله عنه المصنف
آنفا "قال" أي ابن الصلاح "فهذا كلام جامع لما تفرق في كلام من
ـــــــــــــــــــ
1 الترمذي في: المناقب ب 28. ومسلم في: الزكاة حديث 11. وأحمد 1/94.
بلغنا
كلامه في ذلك قال وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن" بتعريفه الماضي "وذكر
الخطابي" فيما مضى من كلامه "النوع الآخر مقتصرا كل واحد منهما على ما رأى
أنه مشكل أو أنه غفل عن البعض" أي غفل كل واحد من الترمذي والخطابي عما
تركه "وذهل انتهى كلام ابن الصلاح في تعريف الحسن" .
قال الحافظ ابن حجر
بين الترمذي والخطابي في ذلك فرق وذلك أن الخطابي قصد تعريف الأنواع
الثالثة عند أهل الحديث فذكر الصحيح ثم الحسن ثم الضعيف وأما الذي سكت عنه
وهو حديث المستور إذا أتى من غير وجه فإنما سكت عنه لأنه عنده ليس من قبيل
الحسن فقد صرح بأن رواية المجهول م قسم الضعيف وأطلق ذلك ولم يفصل والمستور
قسم من المجهول وأما الترمذي فلم يقصد التعريف بالأنواع المذكورة عند أهل
الحديث بدليل أنه لم يعرف بالصحيح ولا بالضعيف بل ولا بالحسن المتفق على
كونه حسنا بل المعروف عنده هو حديث المستور على ما فهمه المصنف ولا يعده
كثير من أهل الحديث من قبيل الحسن.
"قال" أي ابن الصلاح "ومن أهل الحديث
من لا يفرد نوع الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما
يحتج به قال وهو الظاهر من تصرفات الحاكم وهو لا ينكر أنه دون الصحيح
المقدم فهو إذا اختلاف في العبارة انتهى" .
واعلم أنه تحصل من الأبحاث السابقة أن الحسن قسمان :
حسن
لذاته وهو الذي قصد الخطابي تعريفه والذي عرفه الحافظ ابن حجر في النخبة
والمصنف في مختصره فإنهما رسما الصحيح برسمه المعروف ثم قال فإن خف الضبط
فهو حسن لذاته وظاهر كلامهما أنه لا يفارق الصحيح إلا بخفة الضبط لا غير
ولذا قال ابن الصلاح: إن رجاله رجال الصحيح لكنهم يقصرون عنهم في الحفظ
والإتقان وهذا هو الذي يقال إنه أعم من الصحيح مطلقا والصحيح أخص منه وهذا
القسم يشترط فيه الاتصال ولذا نقل المصنف عن البعض أن قول الخطابي ما عرف
مخرجه احتراز عن المنقطع وهذا هو القسم الثاني: الذي ذكره ابن الصلاح فيما
نقله عنه المصنف ونزل عليه كلام الخطابي وهذا القسم لم يتعرض له الترمذي إذ
ليس من اصطلاحه وهو الذي أدرجه بعض المحدثين في الصحيح والقسم الثاني: هو
ما وقع عليه اصطلاح الترمذي وهو الذي لم يشترط فيه الاتصال ولا عدم تدليس
راوية ولا وصفة بالغلط والخطأ ولا عدم ضعفه ولا عدم سماع الراوي من شيخه
بعد
الاختلاط كم قررناه كله بأمثلته عن كلامه وإنما اشترط أن يروي
من غير وجه نحو ذلك فهذا يوصف بالحسن عند الترمذي وهو بهذا الرسم مباين
للصحيح لا يلاقيه بعموم ولا خصوص مباين للحسن أيضا المعنى الأول.
قلت:
ومن هنا تعرف أن كلام ابن المواق غير صحيح حيث زعم أن كل صحيح عند الترمذي
حسن وليس كل حسن صحيحا بل هما عنده متباينان إن كان رأي ابن المواق في
الصحيح رأي الجمهور وإنما هذا العموم والخصوص يجري في الحسن لذاته الذي
رسمه الخطابي وغيره وتعرف أن قول المصنف فيما سلف إن الترمذي يشترط في رجال
الصحيح من قوة العدالة وقوة الحفظ والإتقان ما لا يشترط في رجال الحسن غير
صحيح فإن الترمذي لم يشترط في رجال الحسن إلا عدم التهمة بالكذب ولم يشترط
عدالة ولا إتقانا لا قويا ولا ضعيفا وكيف يشترطهما وقد جعل من أقسام الحسن
رواية الضعيف الموصوف بالغلط والخطأ ورواية من روي عمن سمع عن المختلط ما
سمعه منه اختلاطه وكيف وهو لا يخلو رجال إسناده عن مستور والمستور من لم
يوثق وإنما هذه القيود التي ذكرها المصنف قيود الحسن لذاته فسافر ذهنه
الشريف من أحد الحسنين إلى الآخر فوصف ما هو حسن بالغير بصفة ما هو حسن
بالذات.
تنبيه عرف المصنف الحسن في مختصره بقوله فإن خف وكان له من جنسه
تابع أو شاهد فالحسن وعرفه الحافظ ابن حجر في النخبة1 بقوله فإن خف الضبط
فهو الحسن لذاته وقد عرفت مما قدمناه أن الحسن لذاته لا يحتاج إلى شاهد
وتابع وهذا هو الحسن لذاته الذي عرفه الخطابي.
و الثاني : وهو الذي
يحتاج إلى شاهد وتابع هو الحسن لغيره وهذا هو الذي أراده الترمذي وحملوا
عليه عبارة الترمذي فإذا عرفت هذا عرفت أن المصنف رحمه الله خلط التعريفين
فأخذ خفة الضبط من رسم الحسن لذاته وأخذ اعتبار الشاهد والتابع من رسم
الحسن لغيره فإن الحسن للغير لا يلاحظ فيه خفة ضبط رواته بل يقبل مع حصول
ضعف الراوي أو غلطه كما لا يلاحظ الشاهد أو التابع في رسم الحسن لذاته فرسم
المصنف غير صحيح على التقديرين ولا يقال هذا اصطلاح له لأنه بصدد بيان
اصطلاح أئمة الحديث.
ـــــــــــــــــــ
1 ص 33.
"فإن قيل هل
يجوز العمل بما حكم الترمذي بتحسينه وتصحيحه" لإخفاء أن الكلام في تحسين
الترمذي فذكر تصحيحه استطراد لأجل العلة المذكورة "فإن ابن حزم قد زعم أنه"
أي الترمذي "مجهول" والمجهول لا يعتبر تحسينه ولا تصحيحه "وأن الحفاظ قد
يعترضونه في بعض ما يحسنه أو يصححه" ويثبتون أنه يصحح حديث من لم يجتمع فيه
صفات رواة الصحيح ويحسن حديث من ليس حديثه بحسن "مثل حديث الصلح جائز بين
السملين فإنه رواه" الترمذي1 "من طريق كثير" بالمثلثة "ابن عبد الله بن
عمرو بن عوف المزني المدني ثم صححه وهذا الرجل" يعني كثيرا "متروك بالمرة
ولم ينقل له توثيق عن أحد من أهل الحديث بل قال الشافعي وأبو داود إنه ركن
من أركان الكذب وقال ابن حبان له رواية عن أبيه عن جده نسخة موضوعة" قال
الذهبي في ترجمته في الميزان2 قال ابن معين ليس بشيء وضرب أحمد على حديثه
وقال الدار قطني وغيره متروك وقال أبو حاتم ليس بالمتين وقال النسائي ليس
بثقة.
"وقال الذهبي" في الميزان "وأما الترمذي فروى له حديث: "الصلح
جائز يبن المسلين" وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي انتهى
كلامه في الميزان في ترجمة كثير بين عبد الله المذكور قلنا قد قال الذهبي"
في الميزان "في ترجمة الترمذي إنه حافظ علم ثقة مجمع عليه ولا الثقات إلى
قول أبي بكر محمد بن حزم فيه إنه مجهول فإنه ما عرفه ولا درى بوجود الجامع
ولا" كتاب "العلل التي له انتهى كلامه" .
وقال الذهبي في التذكرة قال
ابن حبان3 في كتاب الثقات كان الترمذي ممن جمع وصنف وحفظ وقال أبو سعيد
الإدريسي كان أبو عيسى يضرب به المثل في الحفظ وقال الحاكم: سمعت عمر بن
علك يقول مات البخاري ولم يخلف بخرسان مثل أبي سعيد في العلم والحفظ والورع
والزهد بكى حتى عمي وصار ضريرا سنين.
ـــــــــــــــــــ
1 رقم 1352. وأبو داود 3594. وابن ماجة 2352. وأحمد 2/366.
2 3/407/6943.
3
ابن حبان هو: الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي صاحب
التصانيف ولي قضاء سمرقند وكان من فقهاء الدين وحفاظ الآثار عالما بالنجوم
والطب وفنون العلم مات سنة 354. له ترجمة في: البداية والنهاية 11/295.
وشذرات الذهب 3/16. والنجوم الزاهرة 3/342.
وقال فيها أيضا قال أبو
نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي الجامع يريد كتاب الترمذي على أربعة
أقسام قسم مقطوع بصحته وقسم على شرط أبي داود والنسائي كما بينا وقسم أخرجه
الصدر وأبان عن علته وقسم رابع أبان عنه فقال ما أخرجت في كتابي هذا إلا
حديثا قد عمل به بعض الفقهاء وقال فيها قال الترمذي صنفت كتابي هذا وعرضته
على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته هذا الكتاب
يعني الجماع فكأنما في بيته نبي يتكلم. انتهى.
"وفيه" أي في كلام الذهبي
"ما يدل على جواز الاعتماد على تصحيح الترمذي وتحسينه لانعقاد الإجماع"
الذي حكاه الذهبي "على ثقته وحفظه في الجملة ولكنه لما ندر منه الغلط
الفاحش استحسنوا اجتناب ما صحح أو حسن" ولما كان ظاهر كلام الذهبي التدافع
وأنه لا يقبل تصحيح الترمذي ولا تحسينه ودفعه المصنف بقوله "وأما قول
الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيحه فلعله يريد لا يعتمدون على تصحيحه
فيما روي عن كثير بن عبد الله كما ذلك موجود في بعض النسخ" أي من الميزان
"وقد قال ابن كثير الحافظ في إرشاده وقد نوقش الترمذي في تصحيح هذا الحديث"
ففي عبارته إرشاد إلي أن المناقشة في تصحيح هذا الحديث بخصوصه لا في كل ما
صححه.
"قلت: هذا خطأ نادر والعصمة مرتفعة من الأئمة الحفاظ والعلماء
وقد نص مسلم أنه ربما أخرج الحديث في صحيحه من طريق ضعيف لعلوه والحديث
معروف عند أئمة هذا الشأن من ريق العدول ولكن بإسناد نازل روي هذا النووي
في شرح مسلم عن مسلم تنصيصا" عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى
المصري فقال مسلم إنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد روي الثقات عن
شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلى عنهم بارتفاع ويكون عندي رواية أوثق منهم
بنزول فأقتصر على ذلك وأصل الحديث معروف من رواية الثقات انتهى "وكذا
الترمذي يحتمل أنه صحح هذا الحديث لثبوته من غير طريق كثير بن عبد الله
المزني هذا فالحديث روي من غير طريق" أي من طرق كثيرة "وقد رواه الحاكم أبو
عبد الله في مستدركه من طريق كثير بن زيد المدني عن الوليد بن رباح عن أبي
هريرة مرفوعا" في الميزان كثير بن زيد الأسامي المدني قال أبو زرعة صدوق
فيه ليس وقال النسائي ضعيف والوليد بن
رباح بالراء والموحدة آخره مهملة قال في التقريب صدوق ولم يذكره الذهبي في الميزان.
"وقال
الحاكم: صحيح على شرطهما" ولكن كثير بن زيد لم يخرجا له "وهو مقرون بعبد
الله بن الحسين المصيصي" نسبة إلى مصيصة بمهملتين بينهما مثناة تحتية بزنة
سفينة ولا تشدد بلد الشام كما في القاموس قال في الميزان في ترجمة عبد الله
بن الحسين المصيصي قال ابن حبان يسرق الأخبار ويقلبها ولا يحتج بما انفرد
به فقول المصنف "وهو ثقة" عجيب فلم يوثقه أحد في الميزان ولا ذكره الحافظ
في التقريب "وأخرج الحاكم له شاهدين عن أنس وعائشة رواهما من رواية عبد
العزيز بن عبد الرحمن الجزري" في الميزان عبد العزيز بن عبد الرحمن
النابلسي عن خصيف اتهمه أحمد وقال النسائي ليس بثقة وضرب أحمد على حديثه عن
خصيف بالمعجمة فصاد مهملة مصغر في التقريب أنه صدوق سيئ الحفظ خلط بأخرى
رمي بالإرجاء وفي الميزان إنه ضعفه أحمد وقال مرة ليس بقوي وقال ابن معين
صالح وقال مرة ثقة.
إذا عرفت هذا فقد وقع للمصنف سبق قلم يجعله عبد
العزيز جزريا وهو نابلسي وإنما الجزري خصوف ثم قد عرفت أن المصنف أراد حمل
تصحيح الترمذي لحديث كثير على ما قاله مسلم إذا روى الحديث عن ضعيف فهو
لعلوه هو ثابت عن العدول بنزول وهذه الطرق الثلاث التي ساقها المصنف كلها
لا تخلو عن مقال فلم يثبت حديث كثير عن العدول حتى يكون صحيحا على نحو ما
قاله المصنف بل غابة ما تفيده هذه الطرق أن تصيره حسنا لغيره على رأي
الترمذي على أنه لا يصح ذلك هنا على رأيه لأنه إما جعل حديث المستور أو
الضعيف أو أحد الخمسة التي ذكرناها حسنا لغيره إذا روي من طرق وأما حديث من
قال فيه الأئمة إنه ركن من أركان الكذب فلا ينطبق عليه ما قاله الترمذي من
أنه حسن لغيره وحينئذ فلا يتم أن حديث كثير صحيح ولا حسن على القولين.
إذا
عرف هذا فلم يبق عذر للترمذي في تصحيحه لحديث كثير بن عبد الله إلا قول
المصنف إن هذا خطأ نادر وإن العصمة مرتفعة عن الحفاظ والعلماء وأما هذه
التكلفات التي أراد بها المصنف ترويج ما وقع من تصحيح الترمذي لحديث كثير
فإنها لم تفد ما دندن حوله وقد نسبه إلى غيره بقوله "ذكر ذلك الإمام الحافظ
تقي الدين في
كتابه الإلمام" لا شك في إمامة الشيخ تقي الدين فإن
كان ما ذكره المصنف كله عنه ففيه ما سمعته من نصوص أئمة الحديثة في رجال ما
ساقه من الأحاديث وأنه لا يتم معها صحة تصحيح حديث كثير ولا تحسينه.
"وذكر
الحافظ ابن كثير الشافعي في إرشاده أن أبا داود روى الحديث عن أبي هريرة
بإسناد حسن هذا كله مع شهادة القرآن بذلك في قوله "والصلح خير" وفي قوله
"أو إصلاح بين الناس" لكن عرفت أن الشواهد على تنفع في حديث من جزم بكذبه
إنما تنفع فيما ذكرناه من أنواع الحسن لغيره وكأنه استشعر المصنف أنه يقال
فإذا أثبت الحديث من طريق حفاظ لا مغمز فيهم فلم اختار الترمذي إيراده من
طريق كثير فقال "وأما اختيار الترمذي لإسناد الحديث من طريق كثير بن عبد
الله فيحتمل وجهين أحدهما أنه لم يرد بالسماع من غير طريقه وقد عرفت قوته
وصحته" من طرق "بالوجادة والإجازة ومذاكرة الشيوخ" لا يخفى أن المصنف قد
اجتهد في البحث عن طرقه فذكر تلك الطرق التي لم تنهض على صحته ولا حسنه
"وثانيهما أن يكون قد رواه من طرق كثيرة في كل منها فقال فاكتفى بإيراد
أحدهما كما قد صح عن مسلم أنه كان يفعله" يريد ما تقدم من نصه لكنه قال إنه
لا يفعل ذلك إلا والحديث معروف عند أئمة هذا الشأن من رواية العدول ولم
يتم هذا في حديث كثير كما عرفت "وكما صح عن أبي داود أيضا أنه كان يفعله بل
قد صح عن البخاري مثل ذلك ولكنه قليل فأنه قد روى نادرا في الصحيح عمن
ضعفه في تاريخه" فيه ما سلف.
"ومما يدل على ذلك" أي على أن حديث كثير
ثابت من غير طريقه "أن الترمذي قد روى حديث التكبير في صلاة العيدين من
طريق كثير بن عبد الله هذا وحسنه" لفظ الترمذي1 ثنا مسلم بن عمرو وأبو عمر
المدني ثنا عبد الله بن نافع الصائغ عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم: كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي
الأخرى خمسا قبل القراءة وفي الباب عن عائشة وابن عمر وعبد الله بن عمرو
قال أبو عيسى يعني الترمذي حديث جد كثير حديث حسن وهو أحسن شيء روي في هذا
الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم: واسمه عمرو بن عوف المزني والعمل على
هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب
ـــــــــــــــــــ
1 في: الجمعة ب 34. حديث 536.
النبي
صلى الله عليه وسلم: وغيرهم وهكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى
في المدينة نحو هذه الصلاة وهو قول أهل المدينة وبه يقول مالك بن أنس
والشافعي وأحمد واسحق انتهى "ولم يصححه فلو كان تصحيحه لحديث الصلح اعتمادا
على كثير بن عبد الله لصحح حديثه في صلاة العيدين ولكنه حسن حديثه في صلاة
العيد لقصور شواهده عن مرتبة الصحة" لا يخفى أنه ذكر الترمذي لحديث كثير
شواهد عن ثلاثة من الصحابة وأنه عمل أهل المدينة وأنه ذهب غليه أربعة من
أئمة المذاهب فهذه الشواهد حسنة وإن كنا عرفناك أنه لا يتم تحسين حديث من
قيل إنه كذاب "وصحح حديثه" أي كثير "في الصلح لارتفاع شواهده إلى مرتبة
الصحة" .
اعلم أنه تطابق الأئمة الثلاثة الذهبي وابن كثير والمصنف على
أن الترمذي صحح حديث كثير في الصلح وراجعت الترمذي فرأيت فيه ما لفظه بابا
ما جاء في الصلح حدثنا الحسن بن علي الخلال ثنا أبو عامر العقدي ثنا كثير
بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلين إلا صلحا حرما حلالا أو أحل حراما
والمسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما" انتهى. بلفظه ولم
يتبعه بحرف واحد من تصحيح ولا تحسين بل قال عقبه باب ما جاء أن اليمين على
ما يصدقه صاحبه ولا نسخة التي راجعناها ظاهرة الصحة فلينظر غيرها من أراد
ذلك.
ثم أنه لم يذكر الترمذي لحديث الصلح هذا شاهدا واحدا وذكر لحديث في
تكبير العيد ما عرفت من الشواهد التي حسنه لأجلها وتحسينه له مع كثرة
شواهده مما يدلك ذلك أنه لم يصحح حديثه في الصلح أصلا لأنه لم يأت له بشاهد
وأما قول المصنف لارتفاع شواهده إلى مرتبة الصحة فقد عرفت أنه نقل المصنف
ثلاثة شواهد لا يخلو واحد منها عن القدح فأيمرتبة صحة ترقي حديث الصلح
يرتفع بها بل حديثه في تكبير العيد له شواهد أكثر مما سقناها من كلامه فلو
صحح للشواهد لصححه لأجلها على أنه لم يمجعل حديث كثير في التكبير حسنا
مطلقا بل قال إنه أحسن شيء روي في الباب على أن كلام المصنف هاهنا يناقض ما
سلف له تقريبا من التصريح بأنه ضعيف بالمرة أي شديد الضعف مردود وذلك كأن
يكون راويه متهما بالكذب فإن حديثه لا يعتد به ولا ترفعه الشواهد إلى درجة
المقبول وسبق كلامه في كثير وأنه من أركان الكذب فتدبر.
"والعجب أن
ابن النحوي ذكر في خلاصته" أي خلافة البدر المنير "عن البيهقي أن الترمذي
قال سألت البخاري عنه يعني حديث كثير بن عبد الله في صلاة العيد فقال ليس
في الباب شيء أصح منه" .
قلت: بل العجب أن الحافظ ابن حجر قال في تلخيص
الجبير بعد ذكره لحديث عمرو بن عوف في تكبير صلاة العيد إنه قال البخاري
والترمذي إنه أصح شيء في هذا الباب انتهى وقد قدمنا لك لفظ الترمذي وأنه
قال أحسن شيء في هذا الباب لا أصح ولم ينقل عن البخاري تصحيحه.
"وقال
ابن دقيق العيد في الإلمام في هذا الحديث في صلاة العيد إن البيهقي روى عن
الترمذي عن البخاري أنه صحيح لكن ابن دقيق العيد رواه عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده ثم عزاه إلى الترمذي وعقبه برواية البيهقي" التي قال فيها إنه
قال البخاري إنه صحيح ومحل التعجب أن المنقول عن البخاري إنما هو تصحيح
رواية كثير ابن عبد الله ونقل البيهقي عن الترمذي إنما هي في رواية كثير
وهي التي
أخرجها الترمذي فاتفق الشيخ تقي الدين وهما أحدهما نقل كلام
البيهقي عن الترمذي عن البخاري أنه صحح رواية عمرو بن شعيب الثانية عزوه
حديث عمرو بن شعيب إلى الترمذي ولم يرو الترمذي في تكبير العيد إلا حديث
كثير ابن عبد الله "ورواية عمرو بن شعيب منسوبة إلى أبي داود وأحمد وابن
ماجه في كثير من كتب الأحكام المستخرجة من الكتب الستة ولم يضفها أحد إلى
الترمذي وكذلك هي غير موجودة في جامع الترمذي من طريق عمرو ابن شعيب والله
أعلم" إنما هي عنده من طريق كثير بن عبد الله كما عرفت.
واعلم أني راجعت
سنن الحافظ أبي بكر البيهقي فرأيت فيه ما لفظه بعد سياقه لحديث كثير بن
عبد الله قال أبو عيسى الترمذي سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال
ليس في الباب شيء أصح من هذا وبه أقول وقال حديث عبد الله بن عبد الرحمن
الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في هذا الباب هو صحيح أيضا انتهى
بلفظه فعرفت أن البخاري صحح الحديثين حديث عمرو بن شعيب وحديث كثير بن عبد ا
لله لأن قوله وقال يريد به البخاري لأن السياق فيه إلا أنه قال في حديث
كثير أنه أصح شيء في الباب وقال في حديث عمرو بن شعيب إنه صحيح.
وبعد
هذا فلا عجب في نقل ابن دقيق العيد عن البيهقي عن الترمذي عن البخاري أنه
قال في حديث عمرو بن شعيب إنه صحيح فإنه نقل صحيح لا عجب فيه ولا وهم وإنما
العجب من المصنف حيث ظن أن كلام الترمذي في نقله عن البخاري ليس في روايته
بتصحيح رواية كثير بن عبد الله بل لرواية عمرو بن شعيب ولو تأمل لفظ ابن
دقيق العيد الذي نقله لعلم أنه غير اللفظ الذي قاله البخاري في رواية كثير
يعين وقد نقله المصنف قريبا فإن لفظها في رواية كثير إنها أصح شيء في الباب
ولفظه في تصحيح رواية عمرو ابن شعيب أنه صحيح وهذا هو اللفظ نقله ابن دقيق
العيد فلو تأمل العبارتين لعلم اختلاف اللفظين.
نعم عزو ابن دقيق العيد
لرواية عمرو بن شعيب إلى الترمذي وهم بلا شك إن صح أنه عزاه إليه فإنا
راجعنا سنن الترمذي في باب التكبير من صلاة العيد فلم نجد فيه إلا رواية
كثير بن عبد الله.
نعم كلامه الذي نقله عن البخاري ونقله عنه البيهقي لم
نجده في جامع الترمذي وكأنه ثبت عنه في غير جامعه فإنه ليس في جامعه على
ما رأيناه إلا قوله بعد سياقه لرواية كثير وهو أحسن شيء في هذا الباب ويف
النسخة الأخرى أنه قال حسن صحيح ولم ينقل عن البخاري فيه شيئا وقد ذكر أن
نسخ الترمذي كثيرة الاختلاف فتراجع نسخه.
ثم أنه قال الحاكم: في رواية
عمرو بن شعيب وكذلك ما روي عن عائشة وابن عمر وعبد العزيز وأبي هريرة أن
طرقها كلها فاسدة وتقال ابن رشد في نهاية المجتهد إنما صاروا يريد في تكبير
العيدين إلى الأخذ بأقاويل الصاحبة لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه
وسلم: فيها شيء انتهى.
قلت: والمصنف قد ذكر رواية أبي هريرة وأنه قال
الحاكم: إنها صحيحه على شرطهما ثم ذكر الرواية عن أنس وعائشة وقد عرفت أن
الحاكم ذكر أن طرق تلك الأحاديث فاسدة وساق منها حديث أبي هريرة فعارض ما
نقله عنه المصنف وإنما قال الحاكم: إن طرقها كلها فاسدة لأن في حديث عائشة
ابن لهيعة قال الطحاوي في معاني الآثار ثنا ابن الجارود قال ثنا سعيد بن
كثير بن عفير ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أبي واقد الليثي عن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى بالناس يوم الفطر والأضحى وكبر في
الأولى سبعا وقرأ سورة ق والقرآن
المجيد وفي الثانية خمسا وقرأ
اقتربت وله طرق أخرى ساقها الطحاوي كلها تدور على ابن لهيعة وكلام الأئمة
فيه معروف ولأنه اضطرب فيه فتارة يرويه عن عقيل وتارة عن خالد بن يزيد عن
شهاب ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة وأبي واقد.
وأما حديث عبد
الله بن عمر فأخرجه الطحاوي أيضا قال حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا عبدوس
العطار عن الفرح بن فضالة عن عامر الأسلمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم: في تكبير العيد في الركعة الأولى سبعا وفي الثانية خمسا
ثم قال الطحاوي إنما تدور على عبد الله بن عامر وهو عندهم ضعيف وإنما أصل
الحديث عن عمر نفسه.
وأما حديث عمرو بن شعيب فإنه يدور على عبد الله بن عبد الرحمن وليس هو عندهم بالذي يحتج به هذا كلام الطحاوي.
قلت:
عرفت ما نقله البيهقي عن البخاري من أن حديث عمرو بن شعيب صحيح ونقله ابن
دقيق العيد ونقله المصنف أيضا ويفه هذا الراوي الذي قال الطحاوي إنه لا
يحتج به عندهم ورأيت في ترجمته في الميزان فقال عبد الله بن عبد الرحمن أبو
يعلي الطائفي الثقفي ذكره ابن حبان في الثقات وقال لابن معين صويلح وقال
مرة ضعيف وقال النسائي وغيره ليس بالقوي وكذا قال أبو حاتم قال ابن عدي أما
سائر أحاديثه يعني عمرو بن شعيب فهي مستقيمة فهو ممن يكتب حديثه قال ثم
خلط من بعده انتهى كلام الذهبي ثم قال الطحاوي ثم هذا أيضا عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده وذلك عندهم ليس بسماع.
وأما حديث أبي هريرة فقال
الطحاوي ثنا أبو بكرة ثنا روح ثنا مالك وصخر بن جويرة ونافع فأما مالك
فالإمام المعروف ونافع مثله وصخر بن جويرة وثقة أحمد وجماعة وقال أبن معين
صالح وقال أبو داود تكلم فيه وأما روح فهو ابن عبادة القيسي فقيه حافظ
مشهور من علماء أهل البصرة تكلم فيه القواريري بلا حجة حدث عن مالك سماعا
وأخرج له الستة أفاد هذا الحافظ الذهبي في الميزان وأما أبو بكرة فشيخ
الطحاوي لا أعرف له ترجمة إلا أنه يعتمده الطحاوي كثيرا.
إذا عرفت هذا
فأحسن الأحاديث في تكبير العيدين حديث أبي هريرة لما عرفت من رجال إسناده
وتكون الأحاديث الأخر شواهد له فيقوي القول بهذه الصفة في
التكبير
ولعل بهذه الشواهد ينهض الدليل على ذلك ولو نقل المصنف رحمه الله هذه
الشواهد لحديث كثير لقللت من التهجين على الترمذي في تصحيحه حديثه إن صح
أنه صححه "فهذا الكلام انسحب من ذكر شروط الترمذي في التحسين والعمل بما
حسنه".
اعمل أنه يظهر من كلام المصنف أنه يعمل بما حسنه الترمذي وقد
عرفت مما سقناه عن الحافظ ابن حجر أنه حسن الترمذي أحاديث فيها ضعفاء وفيها
من رواية المدلسين ومن كثر غلطة وغير ذلك فكيف يعمل بتحسينه وهو بهذه
الصفة وقد نقل الحافظ عن الخطيب أنه قال أجمع أهل العلم على أن الخبر لا
يجب قوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به قال الحافظ أيضا وقد
صرح أبو الحسن بن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل الغرب في كتابه بيان
الوهم والإيهام أن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال
ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو
موافقة شاهد صحيح أو طاهر القرآن وهذا حسن قوي رائق ما أظن منصفا يأباه
ويدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به لأنه أخرج
حديث خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين وقال بعده هذا حديث حسن وليس
إسناده بذاك وقال في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثا في فضل العلم هذا حديث
حسن وإنما لم يقل لهذا الحديث صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فرواه
بعضهم عنه فقال حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة انتهى فحكم له بالحسن للتردد
الواقع فيه وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك لكن في كل من المثالين نظر
لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما أنهما جاءا من وجه آخر كما تقدم تقريره
لكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحاجة أم لا بل
يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل انتهى كلامه.
"وقد اختلف
الناس في العمل بالحسن مطلقا" أي على رأي الجمهور وعلى رأي الترمذي "بعد
تسليم حسنه فذهب البخاري إلى أن الحديث الحسن لا يعمل به في التحريم
والتحليل واختاره القاضي أبو بكر بن العربي في عارضته" أي في كتابه المسمى
بعارضة الأحوذي شرح الترمذي "والجمهور على خلافها والحجة مع الجمهور فإن
راوي الحسن ممن تشمله أدلة وجوب قبول الآحاد" لأنه من أخبار الآحاد فيقبل
خبره وإذا قيل عمل به "فإنه لا بد أن يكون راويه مظنون العدالة مظنون
الصدق" ومن
ظن عدالته وصدقه وجب قبول خبره ولما ذكر أنه لا بد وأن
يكون راوي الحسن مظنون العدالة والصدق أشكل عليه اصطلاح الترمذي فأورده
ودفعه بقوله.
"فإن قلت: إنما شرط الترمذي أن يكون الراوي غير متهم
بالكذب ولا منفرد بالحديث" فإنه معنى قول الترمذي في حقيقة الحسن ولا يكون
الحديث شاذا "وغير المتهم أعم من أن يكون ثقة مخبورا أو مستورا أو مجهولا
فإن كان مجهولا وتابعه مجهول مثله لم يكن في الحديث حجة" فيلزم قبول
المستور والمجهول وأن يكون حديثهما حسنا إذا توبعا ولو بمثلهما.
قلت:
ولا يخفى عليك أن المصنف قد قدم أن الترمذي يشترط في رواة الحسن قوة الحفظ
والإتقان وإنما يجعلها في رجال الصحيح أقوى وحينئذ فلا يرد السؤال بعد ذلك
التقرير وإن كان ما قدمه عنه غير صحيح.
"قلت: الجواب أنه قد عرف من
المحدثين أن مذهبهم رد المجهول وليس في كلام الترمذي هذا ما يناقض ذلك" لا
يقال قد قررت أنه أفاد كلامه عموم قبول المجهول فقال "فهو من عموم المفهوم
وفيه خلاف" فكيف يعمل به مع ما علم من مذهب المحدثين "فلو كان" كلام
الترمذي "لفظا عاما" عموم المنطوق "وجب المصير إلى الخاص" وهو ما عرف من
عرفهم "فيكف بالمفهوم" وحينئذ فلا يفيد كلام الترمذي قبول المجهول ولكنه
يبقى عليه أنه يفيد قبول المستور فقال المصنف "فأما المستور فإنه مظنون
العدالة ولو لم يكن كذلك لم يتميز منه المجهول" .
قدمنا لك تفسير
المستور من كلام ملا علي قاري في شرح شرح النخبة وقال الحافظ ابن حجر في
مراتب الرواة في خطبة التقريب السابعة من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق
وإليه الإشارة بمستور أو مجهول الحال انتهى فظاهره أن المستور هو المجهول
حاله والمصنف قال هو مظنون العدالة "لكنه غير مخبور خبرة توجب سكون النفس
الذي يسميه كثير من المحدثين علما" وهو الظن القوي "وقد ورد تسميته بالعلم
كثيرا في مثل قوله تعالى" حكاية عن أخوة يوسف حيث حكوا لأبيهم أن أخاهم سرق
{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] فإنهم لم يعلموا
سرقته لصواع الملك قطعا بل ظنوه لما وجد في متاعه فسموه علما وهذا كلام
صحيح لكنه لا يناسبه قول الحافظ ابن حجر إن المستور من لم يوثق فمن أين حصل
لنا ظن عدالته حتى نطلقها عليه وتحصل له م يطلق عليه لفظ العلم في كتاب
ابن الصلاح قسمة المجهول إلى
مجهول العدالة ظاهرا وباطنا وروايته
غير مقبولة عند الجماهير ثم قال الثاني: المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة
وهو عدل في الظاهر وهو المستور وقد قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلا في
الظاهر ولا تعرف عدالة باطنة فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية
الأول يريد بالأول المجهول العدالة ظاهرا وباطنا وهو قول بعض الشافعية وبه
قطع الإمام سليمان بن أيوب الرازي قال لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن
بالراوي إلى آخر كلامه وكلام المصنف قاض بأن المستور عدل يحصل بخبره ظن
ضعيف بخلاف الظن الحاصل عن العدل المحققة عدالته فإنه يحصل على خبرة ظن قوي
يطلق عليه العلم وكلام الحافظ ابن حجر أنه لم يوثق وكلام ابن الصلاح أنه
العدل في الظاهر.
قلت: ولا يخفي أن العدالة إنما تعرف ظاهرا بالمحافظة
على خصالها وأما الباطن فلا يعلمه إلا الله تعالى فهذا اضطراب في تفسير
المستور ينبغي تحقيقه.
واعلم أن الذي في كتب الأصول رسم العدالة باجتناب
كبائر المقبحات وما فيه خسة والإتيان بالواجبات ولم يذكروا باطنه ولا
ظاهره قالوا واختلف في رواية المجهول ويطلق عندهم على مجهول العدالة أو
الضبط أو النسب أو الاسم ونقلوا عن الحنفية وآخرين قبوله واستدلوا على أن
الأصل في دار الإسلام هو الإسلام والأصل في المسلم هو القيام بالوظائف وهو
معنى العدالة وهو قياس من الشكل الأول ينتج أن الأصل هو القيام بالوظائف
وهو معنى العدالة وحينئذ فال مجهول بل كل مسلم عدل ورد يمنع الكبرى مسندا
بأن الأصل هو الغالب والفسق في المسلمين أغلب من الإيمان لقوله تعالى:
{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:
13] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
وغير ذلك ولأنه الشاهد في كل عصر والفرد المجهول يجب حمله على الأعم
الأغلب ولهذا يرد من غلب سهوه على حفظه اتفاقا ورجحوا المجاز على الاشتراك
لغلبته فغلبه الفسق مظنة للفسق وحكم المظنة حكم المثنة بل ضبط الشارع
الأحكام بالمظنة ويأتي بقية الكالم على المسألة في محلها وإنما هذا تنبيه
على أن الذي ذكره المصنف من أن المستور هو العدل عدالة تفيد ظنا قويا وأن
خبره احسن وأن العدل في رواة الصحيح يشترط قوة عدالته بحيث يفيد ظنا قويا
يسمى علما شيء تفرد به لم يذكره أئمة الأصول كما انفرد ابن الصلاح بقوله إن
عدالة المستور ظاهرة وعدالة غيره ظاهرة وباطنة وذكر الرافعي
في الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يرجح فيها إلى أقوال المزكين. 1هـ.
فعلى
هذا كان يلزم أن يقال في رسم الصحيح ما رواه العدل ظاهرا أو باطنا أو ما
رواه قوي العدالة كما ألزمناهما أنه كان يتعين أن يقال في رسم الصحيح
بالنسبة إلى قيد الضبط تام الضبط كما أتى به الحافظ في النخبة وتابعه
المصنف في مختصره واحترزوا به عمن خف ضبطه وهو راوي الحسن كما عرفناك وأما
العدالة فإنهم جعلوا عدالة راوي الحسن لذاته والصحيح شيئا واحدا وهنا
خالفوا ذلك فجعل المصنف المستور العدل الذي يفيد خبره ظنا غير قوي وابن
الصلاح جعله العدل ظاهرا لا باطنا نعم لأهل الحديث كلام في المجهول كثير
يأتي تحقيقه.
"وقد ورد" إطلاق "المستور في عبارات أصحابنا والمراد به
العدل كما استعمل ذلك أهل الحديث قال شيخ أحمد بن محمد الرصاص في الجوهرة
في شروط الراوي إنها أربعة أحدها أن يكون الراوي عدلا مستورا هذا لفظه ولم
أعلم أحدا اعترضه من أهل الشروح على الجوهرة" لا يخفى أنه إذا كان مستورا
بمعنى عدل عندهم يكون قوله مستورا بعد قوله عدلا تكريرا ولا يخفى أيضا أن
أهل الأصول من قبل الشيخ أحمد ومن بعده لا يجعلون كون العدل مستورا شرطا في
الرواية بل الكتب الأصولية متطابقة على شرطية العدالة في الراوي ورسموا
العدالة بما عرفت وجعل المستور شرطا يلزم منه أن كامل العدالة ليس من شروط
الرواية ولعله يقول إنه يدخل بالأولى "فالمستور في عرف المحدثين من قصر عن
المتواترة عدالتهم أو المشهور شهرة تقري من التواتر" .
اعلم لفظ ابن
الصلاح في المستور أنه المجهول الذي جهات عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر
وهو المستور هذا لفظه ثم قال وقد قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلا في
الظاهر ولا تعرف عدالته باطنا وقرر الزين كلام ابن الصلاح وقال مراد ابن
الصلاح ببعض أئمتنا هو البغوي فهذا لفظه بحروفه في التهذيب وتبعه عليه
الرافعي انتهى كلام زين الدين.
والمصنف قال إن المستور في عرف المحدثين
من قصر عن المتواترة عدا التهم أو المشهور شهرة تقرب من التواتر فعلى كلامه
لا بد أن تكون عدالته أمرا بين الأمرين وهذا غير كلام ابن الصلاح ومن تبعه
ومن تقدمه في تفسير المستور وتقدم أن الحافظ ابن حجر قال إن المستور من
روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق فلا أدري من أين
جاء هذا التفسير
الذي آتى به المصنف للمستور وزعم أنه اصطلاح المحدثين ثم هذه الرتبة التي
ذكرها رتبة مجهولة فهذا كلامه في عدالة المستور أي من حيث العدالة وأما من
حيث حفظه فقال "أو من قصر عن الحفاظ في مرتبة الإتقان والضبط العظيم" يريد
أن المستور إما مستور العدالة فهو الذي فسره قريبا أو مستور الحفظ وهو الذي
لا يبلغ ربة الإتقان والضبط وهو الذي خف ضبطه المذكور في تعريف الحسن
لذاته.
قلت: ولا خفاء أن هذا خلط لشرائط الحسن لذاته والحسن لغيره فإن
الحسن لذاته هو من خف ضبط رواته كما سلف والسحن ليغره قد يكون راويه ضعيفا
موضوعا لسوء الحفظ كرواية الترمذي عن عاصم بن عبيد الله وقد ضعفه الجمهور
ووصفوه بسوء الحفظ وحسن الترمذي حديثه وروى عن مجالد وحسن حديثه وقد ضعفه
جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وروى عن عبيد بن معقب وهو ضعيف جدا اتفق أئمة
النقل على تضعيفه وقد قدمنا هذا وزيادة عليه فيما حققناه لك من أن الحسن
عند الترمذي شرطه أن لا يتهم راويه بالكذب ولا ينفرد بالحديث.
"ونحن"
أيها الزيدية "نوافقهم" أي المحدثين "في الطرفين معا" في قبول المستور
وقبول لم يبلغ درجة المتقنين في الضبط "أما الطرف الأول" وهو الموافقة من
الزيديدة في قبول المستور "فقد ثبت نص الجوهرة" حيث جعل من شروط قبول
الراوي كونه عدلا مستورا قل إلا أنه لا يعزب عنك أن صاحب الجوهرة جعل ذلك
شرطا للراوي مطلقا سواء كان من رواة الصحيح أو الحسن وأهل الحديث على رأي
المصنف جعلوه شرطا للحسن غلا أنه لا يضر هذا فقد حصلت الموافقة في شرط
الأعم "التي هي مدرس الزيدية" في عصر المصنف "على ذلك" يتعلق بنص "مع أنه
مما لا يختلف فيه الأصحاب" من الزيدية "فإن كتبنا الأصولية مشحونة بقبول كل
من رجح حفظه على سهوه" وهذا هو المراد لمن لمي يبلغ مرتبة أهل الأنفان في
الحفظ والضبط إلا أن كلامه في عدالة المستور هذا من القسم الثاني: وهو عدم
بلوغ رتبة المتقنين في الضبط.
"واختلف أصحابنا إذا استويا فذهب المنصور
بالله إلى أنه لا يجوز طرح حديثه وأن طريق قبوله الاجتهاد ذكره" أي المنصور
بالله "في الصفوة وحكاه عنه في الجوهرة" تقدم الكلام على هذا أول الكتاب
كما تقدم على قوله "وذهب عبد الله بن زيد إلى قبوله وهذا كله يدل على قبول
من حديثه حسن والله أعلم" عند الفريقين الزيدية والمحدثين قد عرفت ما
كررناه وقررناه أن الحسن قسمان:حسن لذاته وحسن لغيره
وأن الحسن عند الترمذي الذي يصف به أحاديث كتابه أو غالبها من القسم الثاني.
وقال
الحافظ ابن حجر إنه نقل ابن الصلاح وغر واحد الاتفاق على أن الحديث الحسن
يحتج به كما يحتج بالصحيح وإن كان دونه في المرتبة وهو القسم الذي ذكره
الخطابي وقد علمت أن القسم الذي ذكره هو الحسن لذاته قال وأما الحسن الذي
ذكره الترمذي بجميع أنواعه فإنه يظهر له أن دعوى الاتفاق إنما تصح على
الأول دون الثاني: قال فإن الترمذي يطلق الحسن على الضعيف والمنقطع إذا
اعتضده قال فلا يتجه إطلاق الاحتجاج به جميعه ويؤيد هذا قول الخطيب أجمع
أهل العلم على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما
يخبر به وقد صرح أبو الحسن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في
كتابه بيان الوهم والإيهام بأن هذا القسم لا يعمل به كله بل يعمل به في
فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده
اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن إلى آخر ما قدمناه من كلامه
قريبا هذا من كلام الحافظ على نكته على كتاب ابن الصلاح ثم قال ويدل على أن
الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم أن يحتج به أنه أخرج حديثا من
طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن الحصين وقال بعده هذا حديث حسن
وليس إسناده بذلك وقد قدمنا ذلك.
"وقد نص أهل الحديث في مراتب التعديل
على أن صالح الحديث يكتب حديثه للاعتبار به ونصوا أيضا في مراتب التجريح
على أن الضعيف بمرة والمردود والمتروك وغير ذلك من العبارات فبان لك أن
الضعيف يكتب حديثه للاعتبار به بخلاف الضعيف عندهم هو صالح الحديث" أخذ
المصنف من قول الأئمة إن صالح الحديث وضعيفه يكتب حديثه أن صالح الحديث هو
ضعيف الحديث لاشتراكهما بالحكم بكتب حديثهما وفي كتاب ابن الصلاح الرابعة
أي من مراتب التعديل إذ قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار فجعل هذه
المرتبة الرابعة للتعديل وقال مراتب التجريح أولهما إذ قالوا لين الحديث
قال ابن أبي حاتم إذا جاءوا بان لين الحديث فإنه يكتب حديثه وينظر فيه
اعتبارا الثانية قال ابن أبي حاتم إذا قولوا ضعيف ليس بالقوي فهو بمنزلة
الأولى في كتب حديثه إلا أنه دون الثانية وإذا قالوا ضعيف الحدي فهو دون
لاثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به انتهى فعرفت من كلامه أن صالح الحديث من
هو في المرتبة الرابعة من مراتب التعديل وأن قولهم ضعيف ليس بقوي
هو
ثاني مراتب التضعيف وقولهم ضعيف الحديث هو ثالثها تكتب أحاديثهم للاعتبار
وإن لم يصرح بكتب حديث من هو في هذه المرتبة لكنه صرح بأنه لا يطرح حديثه
وأنه يعتبر به اعتبار بكتابته وبالجملة فقد جمع بين أهل المرتبة الرابعة من
مراتب التعديل وبين أهل المراتب الثلاث من مراتب التجريح للاعتبار
بأحاديثهم وعدم الإطراح لها لكنها وإن جمعها ما ذكر فهي متفاوتة كما ذكره
فقول المصنف إن الضعيف عندهم هو صالح الحديث غير صحيح لأن صالح الحديث من
المعدلين ومن أهل مراتب التعديل بخلاف الضعيف على أقسامه الثلاثة إن جعلنا
اللين منه وأنه مجروح للتضعيف وكونه جمع بينه وبين صالح الحديث كتب حديث كل
منهما لا يلزم منه اتحادهما فقد قالوا في أهل المراتب الثلاث من مراتب
التجريح إنه يكتب حديثهم فإن كان الضعيف هو صالح الحديث لكونه يكتب حديثه
فالضعيف من أهل مراتب التعديل كما قال المصنف "وأنه" أي الضعيف "في المرتبة
الرابعة من مراتب العدول كما سيأتي" فيلزم أنه ليس للتجريح إلا مرتبة
واحدة وهي مرتبة المتروك والكذاب ونحوهما وهو خلاف صريح كلامهم فيما يأتي
ثم المراتب مختلفة كما عرفت "فكيف برجال الحسن؟!" قد عرفت أن رجال الحسن
لذاته ليسوا بضعفاء بل هم خفيفوا الضبط فهم الذي ينبغي أن يقال فيهم عند
ذكر ضعفاء الرواة فكيف لا يقبل رجال الحسن وأما رجال الحسن لغيره ففيهم
الضعفاء وأهل سوء الحفظ فلا يقال عند قبول ضعفاء الرواة فكيف برجال الحسن
إذ هم من ضعفاء الرواة ليسوا قسما من غيرهم.
قلت: ثم لا يخفى بعد هذا كله أن كتب الحديث للاعتبار ليس دليلا على قبول رواته والعمل بروايتهم في السياق من العمل بالحسن.
وقال
ابن حجر الهيثمي في كتابه الفهرسة في ترجمة الترمذي ما لفظه اتفق الفقهاء
كلهم على الاحتجاج بالحسن وعليه جمهور المحدثين والاصوليين بل قال البغوي
أكثر الأحكام إنما ثبتت بالحسن ووافقه الخطابي وهو قسمان أحدهما حسن لذاته
وهو أن يشتهر رواته بالصدق لكنهم لم يصلوا في الحفظ والإتقان إلى رتبة رواة
الصحيح وثانيهما حسن لغيره وهو أن يكون في الإسناد مستور لم تتحقق أهليته
غير مغفل ولا كثير الخطأ في روايته ولا متهم بتعمد الكذب ولا ينسب إلى مفسق
آخر واعتضد بمنابع أو شاهد وقد قال النووي إمام زمانه في هذه الصناعة في
بعض
أحاديث ذكرها وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها
يقوي بعض بعضا ويصير الحديث حسنا ويحتج به وسبقه إلى ذلك البيهقي وغيره
ويحمل ذلك على ما ضعفه ناشي عن سوء الحفظ أو اختلاط أو تدليس مع كون رواته
من أهل الصدق والديانة أما الضعف بنحو كذبه أو شذوذه فلا يجبره شيء والحاصل
أن ما حسنه لذاته يحتج به مطلقا وما حسنه لغيره إن كثرت طرقه احتج به وإلا
فلا وقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعف حديث من حفظ على أمتي أربعين
حديثا1 مع كثرة طرقه نعم كثرة طرقه القاصرة عن جبر بعضها لبعض ترقيه عن
درجة المنكر الذي لا يعمل به في الفضائل ولا غيرها إلى رتبة الضعف الذي
يجوز العمل به في الفضائل إجماعا انتهى وهو كلام حسن.
واعلم أن ابن
الصلاح رسم الضعيف من الحديث بقوله كل حديث لم تجتمع في صفات الصحيح ولا
صفات الحديث الحسن المذكورات فيما تقدم فهو حديث ضعيف.
"وقد يرتقون" أي
الضعفاء "إلى أرفع من مرتبة الضعف ولذا قالوا في ترجمة سفيان الثوير المجمع
على ثقته وأمانته ونصحه لله ورسوله وللمسلمين إنه كان يدلس عن الضعفاء" في
الميزان سيفان بن سعيد الثوري الحجة الثبت متفق عليه مع أنه كان يدلس عن
الضعفاء ولكن له نقد وذوق ولا عبرة بقول من قال كان يدلس ويكتب عن الكذابين
انتهى.
"فهؤلاء هم الضعفاء في عرف المحدثين الذي حديثهم منجبر بالشواهد
ونحوها ويجب العمل به" قد عرفت أنهم جعلوا مراتب الجرح أربعا فقالوا في
ثلاث منها أنه يكتب حديث أهلها للاعتبار وقالوا في الرابعة وهو من أطلقوا
عليه متروك إنه لا يكتب حديثه فعلى كلام المصنف أنه لا يترك إلا من قالوا
فيه كذاب ونحوه على أنه يأتي له في إطلاقهم كذاب ونحوه بحث فعلى تقريره
الضعفاء ليسوا بمجاريح ولذا قال "ولو كان سفيان يدلس عن المجروحين لكان
مجروحا ولما أصفق" بالصاد المهملة ففاء فقاف أي اجمع "الثقات على الاحتجاج
بحديثه" وقد قال الذهبي الحجة الثبت بالاتفاق "وهم يعرفون ذلك" أي أنه لا
يدلس عن المجروحين بل إنما يدلس عن الضعفاء والضعفاء ليسوا بمجاريح هذا
تقرير مراد المصنف.
ـــــــــــــــــــ
1 العلل المتناهية 1/114. وجامع بيان العلم 1/43. وابن عساكر 2/394. وشرف أصحاب الحديث 29.
قلت:
ولا يعزب عنك أنه سيأتي لهم وقد أشرنا إليه أن ألفاظ التجريح أربع ثانيها
ضعيف ليس بقوي ثالثها ضعيف الحديث فهاتان صيغتان في التجريح فكيف يقول هذا
ضعيف وليس بمجروح هل هذا إلا تناقض نعم هؤلاء مجاريح غير كذا بين كما قال
الذهبي إن سفيان كان يدلس عن الضعفاء ولا عبرة بقول من قال كان يدلس ويكتب
عن الكذابين فالقياس على ما تفيده هذه العبارات أن يقال إن الضعفاء غير
الكذابين يقلون ويقبل من يدلس عنهم وإن كانوا مجاريح فهو جرح لا يخرجون به
عن الاعتبار وحاصله أنا نناقش المصنف في قوله إن سفيان لا يدلس عن
المجروحين مع تصريحهم أنه يدلس عن الضعفاء والضعفاء مجاريح ولذا أثبت
الذهبي تدليسه عن الضعفاء ونفي تدليسه عن الكذابين فهو يدلس عن ضعفاء
مجاريح غير كذابين.
"ولكن قليل المعرفة باصطلاحهم في عباراتهم لا يعرف
ذلك" أي لا يعرف أنهم يقبلون بعض الضعفاء بل يظن أن كل ضعيف فإن حديثه
مردود "ولهذا يتجه" بتوجه "على الراغب في علم الحديث أن يبدأ بقراءة علوم
الحديث ويمعن النظر فيها" لئلا يغلط عليهم إذا جهل اصطلاحاتهم فإن علوم
الحديث تعرفه بذلك "فتأمل ذلك فإنه مفيد جدا" أي محقق مبالغ فيه كما في
القاموس ووجه نفعه أنه إذا لم يعرف علوم الحديث واصطلاحهم أئمته غلط عليهم
فبمعرفته لاصطلاحهم الذي أودعوه علوم الحديث لا يحصل له الغلط.
"وقد ذكر
الشافعي مثل هذا في المراسيل فقال إذا جاء المرسل من طريقين مختلفين فأكثر
قبل" لتقويه "وإلا لم يقبل" لضعفه بالانفراد "وأما المجهول فليس يقوي
حديثه بمتابعة مثله" أي بمتابعة مجهول مثله قال ابن الصلاح: إن المجهول عند
أصحاب الحديث كل من لم يعرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من راو واحد
ثم مثل بجماعة.
"وقد ذكر ابن الصلاح نحو هذا الكلام فقال ليس كل ضعف في
الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت فمنه ضعف يزيله ذلك" أي مجيئه من
وجوه.
قلت: قد مثل ذلك بحديث ابن عمر في سد الأبواب إلا باب علي كرم
الله وجهه وهو في مسند أحمد من رواية أحمد عن وكيع عن هشام بن سعد عن عمرو
ابن راشد عن ابن عمر وفيه ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي
واحدة أحب
إلي من حمر النعم زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ابنته وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد وأعطاه الراية يوم خيبر
ورواته ثقات إلا أن هشام بن سعد قد ضعف من قبل حفظه وأخرج له مسلم فحديثه
في رتبة الحسن لا يما مع ما له من الشواهد وله شاهد من حديث ابن عمر أيضا
أورده النسائي في الخصائص بسند صحصح عن ابن اسحق عن العلاء ابن عرار فذكره
والعلاء وثقة ابن معين ورواه ابن أبي عاصم من طريق عبيد الله بن عمرو عن
زيد بن أبي أنيسة عن أبي اسحق سألت ابن عمر فذكره وأخرجه أحمد من حديث سعد
بن مالك.
قال الحافظ ابن حجر بإسناد حسن قال وأما ادعاه ابن الجوزي
أنهما من وضع الرافضة فدعوى عرية عن البرهان وقد أخرج النسائي في الخصائص
حديث سعد وفيه أيضا حديث زيد بن أرقم بإسناد صحيح وأخرج أيضا حديث ابن عباس
وقال وسد الأبواب غير باب علي رضي الله عنه قال فيدخل المسجد جنبا وهو
طريقه ليس له طريق غيره في حديث طويل وأخرج أحمد في مسنده أيضا هذين
الحديثين وأخرجهما الترمذي لكنه قال في حديث ابن عباس بعد أن أخرجه عن محمد
بن حميد عن ابراهيم بن المختار عن شعبة عن أبى بلخ عن عمرو بن ميمون عنه
غريب لا نعرفه عن شعبة إلا من هذا الوجه.
وتعقبه الحافظ الضياء في
المختارة بأن الحاكم والطبراني روياه من طريق مسكن بن بكير عن شعبة وهي أصح
من طريق الترمذي وأبو بلخ وثقة يحيى بن معين وأبو حاتم وقال البخاري فيه
نظر انتهى ويشهد له حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي
رضي الله عنه: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك", رواه
الترمذي1 وقد ادعى أن هذا الحديث يعارض حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين2
"لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت وإلا خوخة أبي بكر" ولكنها دعوى غير
صحيحه لأن الجمع ممكن بأن أحدهما فيما يتعلق بالأبواب وقد ورد بيان سببه في
حديث مرسل أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن بسنده عن المطلب أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يكن يأذن لأحد أن يمر من المسجد أو يجلس فيه وهو
جنب إلا علي رضي الله عنه لأن بيته كان في المسجد أي مع بيوت
ـــــــــــــــــــ
1 في: المناقب: ب 20.
2 البخاري 1/126. ومسلم في: فضائل الصحابة حديث 2. وأحمد 1/270.
النبي
صلى الله عليه وسلم: فكان يحتاج إلى استطراق المسجد وحديث أي بكر فيما
يتعلق بالخوخ فلا تعارض ولا وضع أفاد هذا الحافظ ابن حجر في نكته.
فهذا
الحديث قد كان في رواته ضعف بسوء الحفظ فجاء من طرق كثيرة أزال ذلك الضعف
وبه تعرف ما في قول ابن حجر الهيثمي إنه استقر الأمر على ضعف حديث يا علي
لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك1 فإنه قال إنه أستقر الأمر على
أنه حديث ضعيف.
وقد يكون ضعف الرواة بما قاله ابن الصلاح ونقبله عفه
المصنف بقوله "بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ واريه مع كونه من أهل الصدف
والديانة فإذا رأينا ما رواه" أي الحديث الذي رواه "قد جاء من وجه آخر
عرفنا أنه مما قد حفظ ولم يختل فيه ضبطه له" وقد حققناه بالمثال وهذا كلام
حسن "وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي
يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر قال" أي ابن
الصلاح.
"ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك" أن بمجيئه من طرق لقوة الضعف في
الراوي وتقاعد هذا الجابر عن جبره أي عن جبر ضعفه فتسميته جابرا مجاز وإلا
فإنه لم يجبر هذا الضعف "كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب"
فإن الجابر لا يقوى على زوال تلك التهمة ومثلوا ذلك بحديث من حفظ على أمتي
أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء
وفي لفظ بعثه فقيها عالما2 قال النووي إنه اتفق الحفاظ على ضعفه وإن كثرت
طرقه بعد أن قال إنه روى عن علي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن
عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم
بطرق كثيرات بروايات متنوعات قاله النووي في صدر الأربعينية التي جمعها
وسماها دعائم الإسلام.
"أو كون الحديث شاذا" أي أن الجابر يتقاعد هن زلل
الضعف عن حديث نشأ ضعفه من اتهام رواته بالكذب أو من كونه حديثا شاذا
ويأتي بيان الشاذ "انتهى كلامه" أي ابن الصلاح "وسيأتي أنه ليس يشترط في
الشاذ الذي أشار إليه إلا أن لا يكون راويه في مرتبة الثقات الإثبات من
رجال الصحيح ولا في مرتبة من دونهم من رجال الحسن كما
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
سيأتي
واضحا" ذكر ابن الصلاح كلام الأئمة في الشاذ وتعقبه ثم قال فيقول إذا
انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى
منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردوعا وإن كان لم يكن فيه
مخالفة لما رواه غيره وإنما هذا أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا
الراوي المنفرد فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به
ولم يقدح الانفراد فيه انتهى فمراده هنا بالشاذ الذي لا ينجبر هو الأول من
القسمين "فهذا بذلك على أن رجال الحسن مرتفعون عن مرتبة المجاهيل والضعفاء
بمرة انتهى" فكلام ابن الصلاح في الشاذ دل على أن رتبة رجال الحسن ليسوا من
المجاهيل ولا الضعفاء.
قلت: قد قدمنا لك أن الحسن لذاته ليس رجاله
ضعفاء ولا مجاهيل والحسن لغيره في رجاله الضعفاء وغيرهم كما حققناه لك
بالأمثلة والتنصيص على ذلك فالمصنف رحمه الله خلط اعتبارهم لصفات الحسن
لذاته بصفات الحسن لغيره كما نبهناك عليه مرارا "وقد نصوا على ذلك في علوم
الحديث فجعلوا الضعيف غير المجهول" قد قدمنا لك كلام ابن الصلاح في المجهول
وأنه قسمان قال والمجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يعرفه العلماء ومن
لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد ذكر هذا عن الخطيب البغدادي إلا أنه قال
ابن الصلاح: إن في رجال البخاري أحاديث عن قوم ليس لهم إلا راو واحد.
"وممن
ذكره وين الدين في قسم الضعيف من التبصرة ولكن يلزم هذا من قبول المنفرد
من رجال الحسن" لأنهم إذا قالوا بأن الشاذ هو من ينفرد وليس في مرتبة رجال
الصحيح ولا الحسن وأنه يرد لزم أنه إذا انفرد من هو من رجال الحسن أن يقبل
"ولا يجب مراعاة متابعة غيره" قلت: هذا ملتزم عندهم في الحسن لذاته فإنهم
لم يعتبروا في رسمه إلا خفة ضبط رواته كما عرفت فإنهم قالوا فإن خف الضبط
فالحسن لذاته وبكثرة طرق يصح فلم يجعلوا متابعة غيره له إلا شرطا لصحته لا
لحسنه وأما الحسن لغيره فقد عرفناك مرارا أنه لا يصير حسنا إلا بمتابعة
غيره "وهذا لازم على قواعد الفقهاء والأصوليين ودفع هذا من المحدثين غير
جيد والله أعلم" .
قلت: قد عرفناك غير مرة أن المحدثين لا يدفعون هذا ولا أدري كيف التبس على المصنف مع إمامته في كل فن.
"قال ابن الصلاح: وهذه الجملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث فاعلم ذلك فإنه
من
النفائس العزيزة واعلم أن رجال الحسن متى كانوا مشهورين بالصدق والعدالة
وأتت له طرق أخرى فلك أن تحكم بصحته" هذا ذكروه في الحسن لذاته هذا عندهم
هو الصحيح لغيره وقد حققه في النخبة وشرحها ولفظ ابن الصلاح1 إذا كان
الراوي متأخرا عن درجة أهل الحفظ والإتقان غير أنه من المشهورين بالصدق
والستر وروى مع ذلك حديثه من غير وجه فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك
يرقي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحة انتهى.
واعلم أنه لا بد من
تقييد عبارة المصنف وابن الصلاح بخفة ضبط من اشتهر بالصدق ليكون من قسم
الحسن وإلا كان من الصحيح لذاته فإن رجال الصحيح لذاته هم المشهورون بالصدق
والعدالة "كحديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا لولا أن
أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة2 قال ابن الصلاح" بعد سياقه لما
ساقه المصنف "محمد بن عمرو ابن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة لكنه لم
يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم بسوء حفظه" في الميزان أن محمد بن عمرو
بن علقمة بن وقاص المدني الليثي شيخ مشهور حسن الحديث مكثر عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن قد أخرج له الشيخان متابعة قال يحيى القطان أما محمد بن عمرو
فرجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث "ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته" قال أبن عدي
روى عنه مالك في الموطأ وغيره وأرجو أنه لا بأس به وقال أبو حاتم صالح
الحديث وقال النسائي ليس به بأس ذكر ذلك كله الذهبي في الميزان "فحديثه من
هذه الجهة حسن" لأنه لم يتفق على إتقانه في الحفظ فهو ممن خف ضبطه "فلما
انضم ذلك كونه" أي حديث السواك "مرويا من طرق أخرى" لفظ ابن الصلاح من أوجه
أخر مثلها عبارة الزين نقلا عنه "زال ذلك ما كنا نخشاه من جهة سوء حفظ
وانجبر به ذلك النقص اليسير فصح هذا الإسناد والتحقق بدرجة الصحيح"
قلت:
كأنه مجرد مثال وإلا فهذا الحديث أخرجه الشيخان بلفظه من حديث أبي هريرة
رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث ابن عيينة وهذا لفظ عندهما من
المتفق عليه وسينبه المصنف على ذلك.
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 47.
2 البخاري 2/5. ومسلم في: الطهارة ب 15. حديث 42. وأبو داود 46, 47. وأحمد1/221.
"قال
زين الدين: وقد أخذ ابن الصلاح كلامه هذا" الذي سلف قريبا "من الترمذي
فإنه قال بعد إخراجه" من هذا الوجه "حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عندي صحيح
قال" الترمذي "وحديث أبي سلمة إنما صح لأنه قد روى من غير وجه" لفظ الزين
وحديث أبي هريرة عوض أبي سلمة "قلت: قول إن الصلاح فصح هذا الإسناد ولم يقل
فصح هذا الحديث مشكل لأن متن الحديث صحيح متفق عليه من طريق الأعرج عن أبي
هريرة" كما قدمنا لك قريبا.
واعلم أن كلام المصنف هذا إشارة إلى فائدة
مهمة ذكرها ابن حجر في فهرسته فقال فائدة مهمة عزيزة النقل كثيرة الجدوى
والنفع وهي من المقرر عندهم أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن إذ قد يصح
السند أو يحسن الاجتماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن لشذوذ
أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق أخرى فلا تنافي بين قولهم هذا
حديث صحيح لأن مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعا
لعدم استلزام الصحة لكل فرد فرد من أسانيد ذلك الحديث فعلم أن التقييد بصحة
السند ليس صريحا في صحة المتن ولا ضعفه بل هو على الاحتمال فهو دون الحكم
بالصحة أو الحسن للمتن إذ لا احتمال حينئذ وبهذا تعرف قول المصنف رحمه الله
"وإنما انفرد محمد بن عمرو برواية الحديث من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة
فلم يتابع على الإسناد فلم يصح الإسناد وإنما توبع على الحديث فصح ولذا قال
زين الدين: وليس المراد بالمتابعة كونه رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة غير
محمد بن عمرو ولكن متابعة شيخه أبي سلمة عليه عن أبي هريرة فقد تابع أبا
سلمة عليه عن أبى هريرة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وسعيد المقبري وأبوه أو
سعيد وعطاء مولى أم حبيبة وحميد بن عبد الرحمن وأبو زرعة بن عمرو بن جرير
وهو متفق عليه من طريق الأعرج" ولما كانت المتابعة نوعين أشار إليهما بقوله
"والمتابعة قد يراد بها متابعة الشيخ وقد يراد بها متابعة شيخ الشيخ كما
سيأتي لكلام عليه في فصل المتابعات والشواهد" إن شاء الله تعالى.
* * *
مسألة
14 [في بيان شرط أبي داود]"شرط أبي داود قال ابن الصالح من مظان الحسن سنن
أبي داود" المظان جمع مظنة بكسر الطاء وهو مفعلة من الظن وقال المطرزي
المظنة العلم من ظن بمعنى علم قال في المصباح وقد يستعمل الظن بمعنى اليقين
ومنه المظنة بكسر الظاء للعلم وهو حيث يعلم الشيء قال النابغة:
فإن
مظنة الجهل الشباب "قال ابن الصلاح وروينا" في المصباح ما لفظه روى البعير
الماء يرويه من باب رمى حمله فهو راوية والهاء للمبالغة ثم أطلقت الراوية
على كل دابة يستقي عليها ومنه قيل رويت الحديث إذا حملته ونقلت:ه وتعدى
بالتضعيف فيقال رويت زيدا الحديث انتهى. "عن أبي داود أنه قال ما كان في
كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" قال
الزين أي للاحتجاج ويأتي عن الحافظ ابن حجر احتمال أنه صالح للأعم من ذلك
"وبعضها" أي بعض أحاديثه الدال عليه من حديث أصح من بعض قال أي ابن الصلاح
"ورينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه وروينا عنه أنه
يذكر ما عرفه في ذلك الباب قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ
العمل بما سكت عنه أبو داود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روى
عنه" .
قال الحافظ ابن حجر قول أبي داود وما فيه وهن شديد بينته يفهم أن
الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبينه ومن هنا أن جميع ما سكت عنه أبو
داود لا يكون من قبيل الحسن إذا اعتضد وهذان القسمان كثير في كتابه جدا
ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا وكل من هذه
الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث
الضعيف إذا لم يجد في الباب
غيره وأنه أقوى من رأي الرجال وكذلك قال
ابن عبد البر كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم
يذكر في الباب غيره ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد فيما نقله ابن المنذر
عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره
وأصرح من هذا ما روينا عنه فيما حكاه أبو العز بن كادس أنه قال لابنه لو
أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء
ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث إني أخالف ما يضعف إلا إذا كان في
الباب شيء يدفعه هذا ما روي من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه
قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه ذغل
والحديث الضعيف أحب إلى من الرأي فهذا نحو ما حكى عن أبي داود ولا عجب فإنه
كان من تلامذة الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول قوله بل حكة النجم الطوقى
عن العلامة تقي الدين بن تيمية أنه قال اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقا
لشرط أبي داود.
ومن هنا تظهر لك طريقة من يحتج بكل ما سكت عنه أبو داود
فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنه مثل ابن لهيمة
وصالح مولى التوأمة وعبد الله بن محمد بن عقيل وموسى بن وردان وسلمة بن
الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على
أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل ذلك الحديث متابع
يعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه لا سيما إن كان مخالفا لرواية من هو أوثق
منه فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير
كالحارث بن دحية وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن
البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وأسحق بن عبد الله بن أبي قروة
وأمثالهم في المتروكين وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديث
المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها ما أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم
لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما
تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه وتارة يكون لذهول منه وتارة
يكون لظهور شدة ضعفه ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي الحويرث
ويحيى بن العلاء وغيرهما وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر فإن
في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من كلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما
ليس
في رواية اللؤلؤي وإن كانت روايته عنه أشهر ثم عد أمثلة من أحاديث السنن فيها ما يؤيد ما قاله.
ثم
قال والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث
الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه والمعتمد على مجرد سكوته لا
يروى ذلك فكيف يقلده فيه هذا جميعه إن حملنا قوله وما لم أقل فيه بشيء فهو
صالح على أن مراده صالح للحجة وهو الظاهر وإن حملناه على ما هو اعم من ذلك
وهو الصلاحية للحجية وللاستشهاد أو المتابعة فلا يلزم منه أن يحتج بالضعيف
ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة هل منها أفراد أولا
عن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول إلا حمل على الثاني: وعلى كل تقدير
فلا يصلح ما سكت عنه للاحتجاج مطلقا انتهى.
"قال النووي إلا أن يظهر في
تعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك أو كما قال" لفظ الحافظ ابن
حجر نقلا عن النووي أنه قال في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها
مع أنه متفق على ضعفها فلا بد من تأويل كلامه قال والحق أن ما وجدناه في
سننه مما لم ينبه ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد فهو حسن وإن نص
على ضعفه من يعتمد أو رأي العارف في مسنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له حكم
يضعفه ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود قلت: وهذا هو التحقيق ولكنه خالف ذلك في
مواضع كثيرة في شرح المهذب وفي غيره من تصانيف فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل
سكوت أبي داود عليها فلا تعثر بذلك انتهى.
"قال ابن الصلاح: ما معناه
وعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكورا مطلقا ولم نعلم صحته عرفناه أنه من
الحسن عند أبي داود وقد يكون فيه ما ليس بحسن عند غيره" ثم ذكر بعيد هذا
مثل ما ذكره الحافظ من أنه قد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب
غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
"وقد اعترض ابن رشيد" هو أبو عبد
الله محمد بن عمر بن محمد الفهري "الأندلسي علي ابن الصلاح لأن ما سكت عنه
يحتمل عند أبي داود الصحة والحسن" لفظ الزين أنه قال ابن رشيد ليس يلزم من
كون الحديث لم ينص عليه أبو داود يضعف ولا نص عليه غيره بصحة أن الحديث عند
أبي داود حسن إذ قد يكون عنده صحيحا وإن لم يكن عند غيره كذلك.
"وقال أبو الفتح" اليعمري "هذا تعقب حسن" قلت: لا يعزب عنك بعد تحقيق ما سلف عن الحافظ ابن حجر ما في كلام ابن الصلاح وفيما تعقب به.
"قال
زين الدين" في شرح ألفيته "وقد يجاب عنه" أي عن تعقب ابن رشيد "بأنه" أي
ابن الصلاح "إنما ذكر ما لنا أن تعرف الحديث به" الذي سكت أبو داود عنه
"عنده" أي عند أبي داود "والقدر المتحقق الحسن دون الصحة وإن جاز أن يبلغها
عند أبي داود" لفظ زين الدين إنما ذكر ابن الصلاح ما لنا أن نعرف به
الحديث عنده والاحتياط أن لا يرتفع به إلى درجة الصحة وإن جاز أن يبلغها
عند أبي داود قال "لأن عبارته" أي أبي داود "فهو" أي ما سكت عنه "صالح وهي
تحتمل فإن كان يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط ما قاله ابن
الصلاح" لأن الذي سكت عنه لم يحكم له بالصحة ولا بالضعف فيكون حسنا وهو
مراده حينئذ بقوله صالح "وإن كان رأيه" أي أبي داود "كالمتقدمين أنه" أي
الحديث من حيث هو "ينقسم إلى صحيح وضعيف" وأنه لا يقول بالحسن "فما سكت عنه
فهو صحيح عنده" وإن لم تجتمع فيه شرائط الصحة التي سلفت في رسم الصحيح
وذلك هو الصحيح الأخص.
قلت: ولا يخفى أن قول أبي داود صالح حمله ابن
الصلاح على حسن فألزمه بان رشيد أنه يحتمل الأمرين الصحة والحسن والمراد
الصحة بالمعنى الأخص لأنه قابل بها الحسن فالإلزام مبني على رأي من يجعل
الحديث ثلاثة أقسام لا على رأي من يجعل الصحة شاملة للحسن كما لا يخفي فلا
بم ما قاله الزين نعم إن صح أن رأى أبي داود عدم الحسن كان ما سكت عنه
صحيحا بالمعنى الأعم فيكون فيه الصحيح بالمعنى الأخص والحسن لكن ابن الصلاح
وابن رشيد مبني على أنه يرى الأقسام ثلاثة:
قال زين الدين: "والاحتياط
أن يقال صالح" لا صحيح ولا حسن "كما عبر هو" أي أبو داود "عن نفسه" لكن لا
يخفى أن قوله صالح يحتمل أنه للاحتجاج به كما قال الزين ويحتمل أنه صالح
لأعم من ذلك من الاحتجاج والمتابعة والاستشهاد كما قاله الحافظ ابن حجر وقد
قدمنا كلامه فإن أريد الأول فالصلاحية للاحتجاج لازمة للصحيح والحسن وإن
أريد الثاني: فالصلاحية للمتابعة ليست لازمة للاحتجاج فترددت عبارته بين
كون ما سكت عنه صحيحا أو حسنا أو ضعيفا فالتعبير بصالح لم يفد تعين
الاحتجاج حتى يكون صحيحا على رأي القدماء أو حسنا على رأي المتأخرين نعم
كلامه قد أقاد أن ما سكت عنه فليس فيه وهن شديد فخرج به قسم
من
الضعيف لا يشمله صالح وتحقيق عبارته أن الذي سكت عنه ليس فيه وهن شديد وهو
يحتمل أن لا وهن فيه أصلا فيكون صحيحا أو حسنا ويحتمل أن فيه وهنا لكنه غير
شديد وحينئذ فالصواب أنه يحتمل الثلاثة بالحسن والصحة والوهن غير الشديد
لا كما قاله ابن الصلاح ولا كما قاله ابن رشيد.
"وجود الذهبي الكلام في
شرط أبي داود في ترجمته من النبلاء" ويأتي كلامه في آخر هذا البحث "وقال
الإمام أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري في شرح
الترمذي لم يرسم أبو داود شيئا بالحسن وعمله في ذلك شبه عمل مسلم" زاد
الزين الذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره "فإنه اجتنب الضعيف الواهي"
كما قال أبو داود إنه يبينه وأما مسلم فلم يأت به "وأتى" أي مسلم
"بالقسمين: الأول" وهو الصحيح "و الثاني" وهو الحسن "وحديث من مثل" أي مسلم
"به" سيأتي من مثل بهم قريبا "من القسمين الأول و الثاني موجود في كتابه"
كتاب مسلم "دون القسم الثالث" وهو الواهي بخلاف أبي داود فالثالث موجود في
كتابه لكنه بينه.
"قال" أبو الفتح "فهلا ألزم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح
مسلما من ذلك ما ألزم أبا داود فمعنى كلامهما واحد" وبين معنى كون كلامهما
واحد بقوله "وقول أبي داود إنه يخرج في كتابه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه
يعنى يشبهه في الصحة أو يقاربا فيها قال" أبو الفتح "وهو نحو قول مسلم ليس
كل الصحيح نجده عند مالك وشعبة وسفيان فاحتاج إلى أن ينزل إلى مثل حديث ليث
بن أ ي سليم وعطاء بن السائب وزياد بن أبي زياد لما شمل الكل من اسم
العدالة والصدق" ولفظ مسلم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم "وإن
تفاوتوا في الحفظ والإتقان" أي وإن تفاوت مالك وصاحباه وليث وصاحباه فإن
الثلاثة الأولين أكمل في الحال والمرتبة من الثلاثة الآخرين "ولا فرق بين
الطريقين" طريق مسلم وأبي داود "غير أن مسلما شرطه الصحيح فتحرج من حديث
الطبقة الثالثة" وهو من اشتد وهنه فإنهم خرجوا من كتابه ومراده أنه بقي في
مسلم طبقتان والرواة أهل الصحاح وأهل الحسان "وأن أبا داود لم يشترطه" أي
شرط الصحيح "فذكر ما يشتد وهنه عنده والتزم البيان عنه قال" أبو الفتح "وفي
قول أبي داود إن بعضها أصح من بعض ما يشير إلى القدر المشترك بينهما في
الصحة لما تقتضيه صيغة أفعل في الأكثر" إذ قد يخرج عن ذلك نادرا كما عرف في
النحو
وحينئذ فقد شرط أبو داود الصحة في كتابه لأن قوله صالح بمعنى صحيح كما
أرشد إليه وقوله بعضها أي بعض الأحاديث التي سكت عنها وسماها صالحة أصح من
بعض فدل أنه أراد بصالح صحيح وأراد بالصحة المعنى الأعم الشامل للحسن كما
أن مسلما أراده في تسمية كتابه بالصحيح هذا تقرير مراد أبي الفتح والتحقيق
في البحث قدمناه قريبا وأبو الفتح سوى في هذا الكلام بين مسلم وسنن أبي
داود.
"قال: زين الدين" في شرح ألفيته بعد نقله لكلام أبي الفتح
"والجواب" أي عن أبي الفتح في إلزامه لابن الصلاح "أن مسلما التزم الصحة في
كتابه فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن عنده" أي عند مسلم قلت: لا
يخفى أنه إنما ألزم ابن الصلاح أن يسمي ما سكت عنه أبو داود صحيحا لا أن
يسمى ما أخرجه مسلم صحيحا فتأمل "لما تقدم من قصور الحسن عن الصحيح" فكيف
يحكم على حديث في كتابه بالحسن بعد تصريحه باشتراطه صحة ما يخرجه نعم قول
مسلم ليس كل الصحيح نجده عند مالك وقوله فاحتاج إلى أن ينزل إلى مثل حديث
ليث بن أبي سليم بعد التزامه الصحة يدل على أن في كتابه الصحيح والأصح وإن
كان قوله كل الصحيح يفهم أن بعض الصحيح عند ليث مثلا وأن كلا من الفريقين
من مالك ومن ذكر معه وليث ومن ذكر معه أحاديثهم مستوية في الصحة لكن سياق
كلامه يأبى هذا المفهوم "وأبو داود قال إنما سكت عنه فهو صالح والصالح قد
يكون صحيحا وقد يكون حسنا" قلت: يعني إذا حمل كلامه على أن مراده صالح
للاحتجاج كما هو حمل زين الدين لا إذا حمل على الأعم من ذلك كما عرفت "عند
من يرى الحسن رتبة دون الصحيح" قيد لقوله وقد يكون حسنا ولم ينقل لنا عن
أبي داود هل يقول بذلك أو يرى ما ليس بضعيف صحيحا ولا يثبت الحسن "فكان
الاحتياط أن لا يرتفع ما سكت عنه إلى الصحة حتى يعلم أن رأيه هو الثاني
ويحتاج إلى نقل" وهو أنه يرى ما ليس بضعيف صحيحا.
قال الحافظ ابن حجر
بعد نقل جواب شيخه على أبي الفتح وقد أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن
كلام أبي الفتح بجواب أمتن من هذا فقال ما نصه هذا الذي قال ضعيف وقول ابن
الصلاح أقوى لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت فلا نعني بالحسن إلا الدرجة
الدنيا منها والدرجة الدنيا لم يخرج مسلم منها شيئا في الأصول إنما يخرجها
في المتابعات والشواهد انتهى.
قلت: ابن الصلاح لم يقل في مسلم شيئا
إنما ألزمه أبو الفتح أن يجعل مسلما كأبي داود ولا وجه عندي لإلزام أبي
الفتح له أصلا وذلك أن مسلما شرط أن لا يخرج إلا الصحيح وسمى كتابه به وقال
ما أدخلت فيه إلا ما صح وأبو داود يقول ما سكت عنه فهو صالح وهي عبارة
ليست نصا في شرطيه الصحة في المسكوت عنه بخلاف مسلم فعبارته صريحة غير
محتملة فلأي شيء يقول إن في حديثه ما يتحمل الحسن كما في حديث أبي داود
وأما قول العلائي إن درجات الصحيح متفاوتة وإنه لا يعني بالحسن إلا الدرجة
الدنيا منها وليس في مسلم منها شيء فهو مؤذن بأنه إذا أطلق الصحيح فلا يشمل
إلا درجاته التي ليس فيها درجة دنيا ومسلم قد شرط الصحة في كتابه وسماه
صحيحا وحينئذ فلا يدخل الحسن في كتابه أصلا.
قال الحافظ ابن حجر ما
معناه كلام العلائي صحيح وهو مبني على أمر اختلف نظر الأئمة فيه وهو قول
مسلم ما معناه إن الرواة ثلاثة أقسام فالأول كمالك وشعبة ونظرائهما و
الثاني: مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي يزيد وأمثالهما وكل من القسمين
مقبول لما يشمل الكل من اسم الصدق والطبقة الثالثة أحاديث المتروكين فقال
القاضي عياض وتبعه النووي وغيره إن مسلما أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم
يخرج شيئا من أحاديث القسم الثالث: وقال الحاكم: والبيهقي وغيرهما لم يخرج
مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط فلما حدث واخترمته المنية قبل إخراج
القسمين الآخرين ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن محمد بن ابراهيم
بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه
على الناس يعني الصحيح و الثاني: يدخل فيه عكرمة وابن اسحق وأمثالهما و
الثالث: يدخل فيه الضعفاء.
قلت: وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن
تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني: مروية في صحيحه لكن حرف المسألة هل
احتج بهم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا والحق أنه لم يخرج شيئا مما تفرد
به الواحد منهم وإنما يحتج بأهل القسم الأول سواء انفردوا أم لا ويخرج من
أحاديث أهل القسم الثاني: ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول
وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني: طرق كثيرة يعضد بعضها بعضا فإنه قد
يخرج ذلك وهذا ظاهر بين في كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم
الثاني: في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو
عليه
إلا تراه يخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين ومع ذلك فما
له عنده سوى مواضع يسيرة وكذا محمد بن اسحق وهو من يحور الحديث وليس له
عنده في المتابعات إلا سنة أو سبعة ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن
أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقرونا وهذا بخلاف أبي داود فإنه يخرج
أحاديث هؤلاء في الأصول محتجا بها ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي
قول أبي داود ما كان فيه وهن شديد بينته فأفهم أن الذي يكون فيه وهن غير
شديد أنه لا يبينه ومن هنا تبين أن ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل
الحسن الاصطلاحي بل هو على أقسام منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة
إلى آخر ما قدمناه في هذا البحث عن الحافظ ابن حجر.
وبهذا التحقيق يتضح
لك ما في قول المصنف "قلت: الذي تلخص من عبارة أبي الفتح اليعمري وزين
الدين بن العراقي أن ما سكت عنه أبو داود فهو في المعنى والصحة مثل حديث
مسلم" لا أدري لم زاد لفظ المعنى فإن المعاني في الحديثين قد تختلف وإن
جمعهما وصف الصحة "ولكن مسلم يسمي الحسن صحيحا كالحاكم والمتقدمين" هذا
مبني على وجود القسم الثالث: في كتابه وقد عرفت ما فيه "فيحكم" أي مسلم
"بأن كل ما في كتابه صحيح عنده على معنى أنه يجب العمل به وعلى معنى أنه
ليس فيه ضعيف وإن كان فيه ما هو حسن عند من يجعل الحسن رتبة بين الصحيح
والضعيف" لا يخفى أن هذا لا يتم على تحقيق الحافظ الذي قدمناه وجزمه بأن
مسلما لم يخرج إلا لأهل القسم الأول وهم أعلى مراتب الصحيح وأخرج لأهل
القسم الثاني: ما يكون صحيحا لغيره فليس في كتابه إلا الصحيح لذاته وهم أهل
القسم الأول والصحيح لغيره وهم أهل القسم الثاني: المتعاضدة أحاديثهم فليس
في كتابه ما هو من قسم الحسن.
ولما كان مقتضى كلام المصنف أن يوصف
أحاديث سنن أبي داود بالصحة كما وصف أحاديث مسلم بها مع قوله بأنهما
مستويان أجاب عن هذا بقوله "وإنما لم يجعل" أحاديث "سنن أبي داود صحاحا
عنده" كما جعلنا أحاديث مسلم صحاحا عنده "لأنه" أي الشأن "لم يعرف هل ذهب"
أبو داود "مذهب الحاكم والمتقدمين في تسمية الحسان صحاحا أم لا" أي بخلاف
مسلم فقد عرفنا ما عنده من تسمية الحسان صحاحا "هذا" تقرير الكلام "عند زين
الدين أما أبو الفتح" اليعمري "فجعل ما سكت عنه" أبو
داود "صحيحا كمسلم" .
لا
يعزب عنك أن أصل كلام أبي الفتح لابن الصلاح بأنه يلزمه أن أحاديث أبي
داود التي سكت عنها صحيحه كالقسم الثاني: من أحاديث مسلم لكنه ساق من
عبارته ما دل على أن ما ألزم به ابن الصلاح يراه قويا فلذا قال المصنف إنه
يسمى ما سكت عنه أبو داود صحيحا "وساعده" أي أبا الفتح "الزين" في مساواة
أحاديث أبي داود لأحاديث مسلم "وإنما اعتذر" الزين "من إطلاق التسمية" على
ما سكت عنه أبو داود بأنه صحيح "مضافة" التسمية "إلى اعتقاد أبي داود وهذا
الاختلاف الذي وقع بينهما" أي بين الزين وأبي الفتح "قليل الجدوى لم يقع
إلا في تسمية ما سكت عنه عنده" عند أبي داود "هل كان عنده يسمى صحيحا أ م
كان عنده" أي أبي داود "منقسما في التسمية إلى حسن وصحيح كاصطلاح المتأخرين
والأكثرين فإنهم قصروا اسم الصحيح على أحد قسمي المقبول وخصوا ما دونه
باسم الحسن وهذا يقتضي المساواة بين حديث مسلم وبين ما سكت عنه أبو داود من
حديث السنن" كل هذا مبني على أن مسلما قد سمى الحسن صحيحا وأنه لم يرد
بتسمية كتابه الصحيح إلا بمعنى المقبول وأنه لم يرد الصحة الاصطلاحية
الخاصة أو أرادها وغلب الحسن في التسمية ومبني على أن إطلاق صحيح على ما
سكت عليه أبو داود كإطلاق حسن عليه لا فرق بينهما في المعنى وإنما الخلاف
لفظي بين الشيخين أبي الفتح والزين ونعم بتم أنه لا فرق بينهما حيث يراد
بالصحيح في هذا الإطلاق معنى الحسن.
قلت: إلا أنه لا خفاء في أن ظاهر
قول الزين في العذر عن عدم إطلاق الصحيح على ما سكت عليه أبو داود لتحقق
الحسن دون الصحة وقوله فكان الاحتياط أن لا يرفع ما سكت عنه أبو داود إلى
الصحيح أن المراد بالصحيح هو الأخص وأن إطلاقه على ما سكت عليه رفع له إلى
رتبة هو منحط عنها وغير متحققة له وأبو الفتح قال يطلق الصحيح على ما سكت
عليه أبو داود بالمعنى الأعم فيشمل الصحيح الأخص والحسن لأن قول أبي داود
إن ما سكت عنه صالح يحتمل الأمرين كما أن مسلما أطلق الصحيح على الأمرين
معا وشملهما كتابه فابن رشيد لا يريد بالصحيح في إلزامه ابن الصلاح إلا
معناه الأخص إذ معناه المرادف للحسن قد صرح ابن الصلاح بأنه الذي يحتمله ما
كست عنه أبو داود
والتحقيق أن إلزام ابن رشيد لابن الصلاح مبني على
أن قول أبي داود إن ما سكت عليه صالح يحتمل صلاحيته للصحة بالمعنى الأخص
وبالمعنى الأعم الشامل للحسن فلما قال ابن الصلاح: إنه يحمل ما سكت عليه
على الحسن قال أبو الفتح ابن رشيد بل ويحتمل الصحة بالمعنى الأخص فحمله على
أحد محتمليه تحكم ثم قال بعد ذلك إنه يلزم ابن الصلاح حيث جعل الصالح
بمعنى السحن وحمل عليه أن يلزم مسلما بأن في حديثه الحسن لأنه أتى بعبارة
كعبارة أبي داود فإن لفظ الصحيح الذي سمى به كتابه يحتمل على أنه أراد به
الصحيح بمعناه الأخص ويحتمل أنه المراد الأعم كاحتمال لفظ صالح عند أبي
داود ثم إنه لما صرح في كتابه أنه ينقسم بانقسام الرواة إلى صحيح وأنزل منه
وأنه أتى بهما فيه دل على أنه أراد به المعنى الأعم كما أن أبا داود قال
إن الصالح المسكوت عنه بعضه أصح من بعض دل كلام كل واحد منهما على أنهما
أتيا في كتابيهما بأحاديث تفاوت رتبها إلى صحيح وأصح والأصح هو الصحيح
بالمعنى الأخص والصحيح هو الحسن فقد أراد مسلم بصحيح وصالح الصحيح بالمعنى
الأعم الشامل للقسمين كما أراد أبو داود بصالح.
وبعد هذا تعرف أن قول
الزين إن صالح يحتمل الصحيح والحسن مراده الصحيح بالمعنى الأخص ومارد
اليعمري أنه لا احتمال فيه بل هو ظاهر في المعنى الأعم كما دل له قول أبو
داود إنه أتى في كتابه بالصحيح وما يشابهه وما يقاربه أي يشابهه ويقاربه في
الصحة وقوله بعضها أصح من بعض وقد وجد في كتابه الحسن قطعا فمراده بصالح
صحيح بالمعنى الأعم كما أراد مسلم وأن قوله مسلما التزم الصحة في كتابه
يقول اليعمري نعم لكنه إلتزمها بمعناها الأعم لما قرره من كلام مسلم
واشترطها أبو داود بذلك المعنى لقوله صالح وبعضها أصح من بعض.
إذا عرفت
هذا عرفت أن جواب الزين عن اليعمري لم يوافق بحثه ومراده أن اليعمري يقول
إن الصالح بمعنى الصحيح بالمعنى الأعم وإن أبا داود كغيره يقول بانقسام
الحديث إلى الثلاثة الأقسام لكنه عبر بلفظة صالح عن قسمين وبين الثالث:
بقوله وما كان فيه وهن شديد وقوله فكان الاحتياط أن لا يرتفع ما سكت عنه
إلى الصحيح يقال عليه قد عرفت أن مراد أبي داود بما سكت عنه أي عن بيان
وهنه الشديد لأنه لم يسكت على غيره إذ قد حكم بأن الذي لم يبين وهنه صالح
فالذي سكت عنه قد جعله صالحا وليس بمسكوت عنه بل موصوف بالصالح وهو محتمل
الأمرين
كما عرفت ومنه تعرف أن أبا داود قائل برأي المتأخرين والأكثرين ويحتمل أن
يريد زين الدين إن حملنا صالحا في عبارة أبي داود على الصحيح بالمعنى الأعم
رفع له إلى فوق رتبة الحسن لأنه يشمل الصحيح بالمعنى الأخص الأحوط وصفه
بالتحقق وهو الحسن لكنه قال أبو الفتح إن أبا داود لم يرسم شيئا بالحسن
فكيف يثبت له شيئا لم يقله سيما وقد قال إنه صالح وبعضه أصح من بعض.
وبهذا
علم أن رأي أبي داود هو الثاني: أعني إدراج الحسن في الصحيح هذا وقول
المصنف إن الشيخين جعلا أحاديث مسلم وأبي داود مستوية لا يخلو عن تأمل لأن
الزين قال إن مسلما شرط الصحة فليس لنا أن نحكم على حديث خرجه أنه حسن لما
تقدم من قصور رتبة الحسن ووصف أحاديث أبي داود المسكوت عنها بالحسن الذي
رتبته أنقص من رتبة الصحيح فهذا يشعر بأنه لم يسو بينهما وأما أبو الفتح
فظاهر عبارته التسوية "فإما أن يريدوا" أي أبو الفتح والزين ومن تبعهما
"المساواة بينهما" أي بين أحاديثهما "في أن كل واحد منهما واجب القبول عند
مخرجه فذلك قريب ولا يقتضي المساواة المطلقة أو يريدوا أنهما سواء على
الإطلاق فذلك غير صحيح" لما ذكره من قوله "فإن من أنس بعلم الأثر وطالع كتب
الرجال" أي تراجم العلماء في كتب الرجال التي وضعت لبيان أحوال الرواة
وغيرهم "لم يشك أن مسلما كان أكثر احتياطا من أبي داود" في ا لرواة "كما لا
يشك أن البخاري كان اكثر احتياطا من مسلم وإن كان مقصد الكل" من الثلاثة
"حسنا فإن من تساهل منهم لم يحمله على التساهل هوى وإنما حمله أنه رأى أن
قبول ما رواه واجب ورده حرام فاحتاط كل منهم للمسلمين فجزاهم الله أفضل
الجزاء" .
ومن الأدلة أن مسلما وإن روى عن بعض الضعفاء فإنه يعتمده قوله
"وقد روى النووي في شرح مسلم أن مسلما ذكر أنه ربما أخرج الحديث في
الصحيح" أي في كتابه المسمى بالصحيح "بالإسناد الضعيف لعلوه وله إسناد صحيح
معروف عند أهل هذا الشأن فقد تركه نزولا استغناء بشهرته وهذا يدل بالنص
على أن مسلما وإن روى عن بعض الضعفاء لم يدل على أنه اعتمدهم ولذا ضعف
المحققون قول من يقول صحيح على شرط مسلم لمجرد إسناده إلى رواة مسلم" فإنه
ليس كل من في صحيحه من الرواة غير ضعيف إذ قد صرح بأن فيهم الضعيف لكن ليس
فيه حديث ضعيف "وهذا جواب واضح على اليعمري وزين الدين" عما زعماه من
مساواة حديث مسلم
لحديث أبي داود.
"واعلم أن المقصود بهذا الكلام
هو التعريف بأن حديث مسلم عند التعارض أرجح من حديث أبي داود لمن لم يتمكن
من البحث عن إسنادهما والكشف عما قيل في رجالهما وجميع ما يتعلق بهما من
علوم الحديث وذلك" أي وجه ترجيح حديث مسلم عند التعارض "لما تقدم من أن
جماعة من الثقات قد ادعوا الإجماع على صحة كتاب مسلم" يقال: كيف تتم هذه
الدعوى مع أنه قد صرح أنه قد ينزل عن الثقات وأهل الإتقان إلى من هو دونهم
فلا بد من حمل الصحة المتفق عليها على ما يشمل مراتب الصحة التي يدخل فيها
الحسن لكن ظاهر ما سلف للمصنف أن الإتقان على الصحة بالمعنى الأخص وقد تقدم
عن الحافظ ابن حجر ما نقلناه من تحقيق حال أحاديث مسلم بما يرفع درجته عن
أحاديث أبي داود.
"ولم يختلف في الترجيح لما تلقته الأمة بالقبول على
غيره من الصحيح المقبول" فإن ما تلقته الأمة بالقبول أرجح من غيره من
الصحيح الغير المتلقي والتلقي من الأمة وقع للصحيحين كما سلف ولم يقع
التلقي لسنن أبي داود فأحاديث مسلم أرجح إذا عارضها صحيح غير البخاري فكيف
إذا عارضها ما فيه الحسن ونحوه وتقدم البحث عن دعوى التلقي.
"وإنما وقع
الخلاف" بين الأمة "في أن المتلقي بالقبول هل يفيد العلم الاستدلالي أم لا
وقد مر ذلك" ومر ما فيه "فمن قال إنه يفيد العلم قدم مسلما على الإطلاق"
سواء كان من أهل البحث أو من غيرهم "ومن قال إنه يفيد الظن فإن لم يكن من
أهل الكشف" أي البحث عن أسانيد "قدمه أيضا" لأنه يجب العمل بالظن عند عدم
أقوى منه "وإن كان من أهل الكشف بحث" عن أسانيد المتعارضين من حديث مسلم
وحديث أبي داود "فإن حصل له من البحث ظن أرجح" إما بترجيح حديث مسلم أو
ترجيح حديث أبي داود "من الظن الحاصل من تلقي الأمة بالقبول صار إليه" إلى
ما رجح له لأنه لا يعمل بظن مرجوح عند وجود ظن راجح "وإن كان تلقي الأمة
بالقبول أرجح في ظنه عمل به وأهل الكشف هم المتمكنون من النظر في الأسانيد
والكشف عن أحوال الرواة" .
"فإن قيل: قد نقل الحافظ ابن النحوي في البدر
المنير والحافظ زين الدين في التبصرة عن الحافظ أبي عبد الله بن منده أنه
قال عن أبي داود إنه يخرج الإسناد
الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره
لأنه عنده أقوى من رأي الرجال" وقدمنا هذا قريبا "وهذا يقتضي أن في ما سكت
عنه ضعيفا عنده لا يجوز العمل به" لأنه لا يعمل إلا بصحيح أو حسن وهذا خارج
عنهما لأنه ضعيف لم يعضده خبر آخر بل لم نجد غيره "وذلك الضعيف" الذي صرح
أبو داود بإخراجه في كتابه "غير متميز عن غيره فوجب ترك الجميع" أي جميع ما
سكت عنه لأنه وإن كان فيه ما يصح به العمل لكنه لم يتميز عما لا يصح.
"ولم
يحل الاحتجاج بشيء منها إلا بعد الكشف عن أحوال رجالها في كتب الجرح
والتعديل وهذا خلاف ما عليه العمل" من العلماء فإنهم يحتجون بما سكت عنه
أبو داود كما تقدم "وخلاف ما نص عليه الحفاظ كابن الصلاح والنووي وزين
الدين بن العراقي وسراج الدين بن النحوي وغيرهم" فإنهم قالوا نحتج بما سكت
عنه أبو داود إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك
كما نقله المصنف عن النووي قريبا وتقدم الكلام في أن ما سكت عنه أنه يحتمل
الصحة والحسن.
"قلت: الجواب أن ذلك لا يشكل إلا على من كان لا يعرف ما
اصطلح عليه القوم في باب مراتب الجرح والتعديل وغيره من أبواب علوم الحديث
وأنت إذا بلغت هذا الباب" من الجرح والتعديل "عرفت أنهم يطلقون الضعيف على
العدل في دينه المتوسط في مراتب الحفظ والإتقان" لا يخفى أنهم إن أرادوا
هذه فهذه صفة رواة الحسن الذي خف ضبطهم "وقد نص زين الدين في مراتب التجريح
الخمس على أن الضعيف وهو في المرتبة الرابعة منها" أي من مراتب التجريح
"يكتب حديثه وحديث من في مرتبته" لا فائدة لزيادته "ومن في المرتبة الخامسة
للاعتبار بهم" وقد تقدم للمصنف هذا وتقدم ما عليه "دون أهل المراتب
المتقدمة من المجروحين" فإنه لا يكتب حديثهم لذلك.
"وروى عن أبي حاتم
في" أهل "مراتب التعديل الخمس أن أهل المرتبة الرابعة منهم يكتب حديثهم
للاعتبار بهم وهم" أي أهل المرتبة من مراتب التعديل "من قيل فيه إنه صالح
الحديث" قد عرفت أنه قال أبو داود إن ما سكت عنه من الحديث فإنه صالح
وجعلوا هذه العبارة تحتمل الصحة والحسن "أو محله الصدق أو شيخ أو وسط أو
شيخ وسط أو مقارب الحديث أو نحو ذلك" بفتح الراء وكسرها كما قال الزين
واعلم أن ابن معين قال من قيل فيه إنه ضعيف فليس بثقة ولا يكتب حديثه نقله
عن زين الدين وذكر في ذلك خلافا سيأتي بيانه "كما سيأتي إن شاء الله في
موضعه" .
"فعرفت بهذا أن الضعيف في رابعة مراتب الجرح هو صالح
الحديث في رابعة مراتب التعديل ولكنه يوصف بالضعف بالنظر إلى من فوقه من
الثقات الإثبات المتقنين ويوصف بصلاح الحديث بالنظر إلى صدقه وترفعه عن
مرتبة المغفلين المكثرين من الخطأ وترفعه عن مرتبة المجروحين والمتهمين
ويدل على ما ذكرته ما ذكروه في أقسام الضعيف كما يأتي من أن الحديث قد يسمى
ضعيفا عندهم إذا كان من طريق رجال الحسن المستورين غير أنه لم يرد له شاهد
ولا متابع ويدل على ما ذكرته ما تقدم من قول أبي الفتح بن سيد الناس إن
شرط أبي داود كشرط مسلم" لكنه لا يخفي أنه لم يرفضه المصنف فيما سلف ثم هذا
كله يتم إن كان مراد أبي داود بقوله إنه يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد
في الباب غيره الإسناد الذي ليس فيه وهن شديد الذي التزم أنه يبينه وهذا
محل تتبع لما في سنن أبي داود "و" يدل له "ما رواه" أبو الفتح "عن مسلم
قوله لي كل الصحيح تجده عند مثل مالك وشعبة وسفيان واحتاج أ ينزل إلى مثل
ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب لما يشمل الكل من اسم العدالة والصدق وإن
تفاوتوا في الحفظ والإتقان فدل هذا على أن رواة أبي هريرة الذي سكت عنهم من
أهل الصدق والعدالة عنده وأن تفاوتهم إنما هو في الحفظ والإتقان" هذا مبني
على أنه لا فرق بين رجال مسلم وأبي داود فإن المصنف جعل عبارة مسلم في
رواته دليلا على أن رواة أبي داود يتصفون بصفة رواة مسلم وهذا ينقض ما سلف
له قريبا ولا يتم على كل تقدير لما علم بالخبرة أن في رجال أبي داود ممن
يعتمدهم في الأصول رجالا لا يرتضيهم مسلم إلا في التوابع والشواهد كما قد
سبقت أمثلة من ذلك فيما قدمناه ولا يتم قوله أيضا "والضعيف منهم" أي من
رواة أبي داود "إنما هو ضعيف الحفظ ضعفا متوسطا لا يحطه إلى مرتبة من لا
يكتب للاعتبار" لكنه لا يكون حجة يعمل بحديثه.
"ولهذا جعلوا من قيل فيه
أنه ضعيف بمرة في ثالثة مراتب الحرج وجعلوه ممن لا يكتب حديثه للاعتبار
ومعنى الاعتبار عندهم الطلب التوابع والشواهد التي يعرف بها أن للحديث أصلا
ويترقى حديث الضعفاء إلى مرتبة الحسن وسوف يأتي تعريف معنى الشواهد
والتوابع والفرق بينهما في بابه إن شاء الله" ويأتي تحقيق ذلك هنالك إن شاء
الله تعالى إلا أنك قد عرفت أن أبا داود قال إنه يذكر الحديث الضعيف إذا
لم يجد في الباب غيره فيبني عليه حكم ولذا قال إنه أولى من الرأي والرأي
إنما يحتاج
إليه عند رواة الحكم فهو لا يذكره للاعتبار بل ليبني
عليه أحكاما ثم إنه مبني على أنه لم يجد في الباب غيره وأي شيء يعتبر هو به
وإن أريد أن غير أبي داود من الأئمة يعتبر به فلا يكون عذرا لأبي داود
لأنه لم يأت به إلا للحكم به.
"فالإسناد الضعيف على هذا واجب القبول عند
كثير من الأصوليين والفقهاء وإن لم يتابع راويه على روايته" ولا يكون حسنا
لذاته ولا لغيره "وأما المحدثون فيذهبون إلى قبوله متى جمع شرائط الحديث
الحسن" لذاته أو لغيره "إلا البخاري فلم يقبله كما تقدم وبوضح ما ذكرته أن
الإسناد الضعيف الذي ذكره ابن منده في السنن مقبول عندهم هو ما قدمناه عن
أبي داود من قوله إن ما لم يذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض" لا
يعزب عنك أن نقل ابن منده عن أبي داود أنه قال يخرج الحديث الضعيف إذا لم
يجد في الباب غيره وهذا نص منه أنه يخرج الضعيف وقال فيما سكت عنه إنه صالح
ثم قال وبعضها أي بعض الأحاديث التي سكت عنها أصح من بعض فعبارته تشعر بأن
الذي سكت عنه صحيح أو أصح والذي أخرجه عند عدم وجود غير ورآه أولى من
الرأي ضعيف فكيف يقول المصنف إن الذي ذكره ابن منده هو الذي قدمه عن أبي
داود فليتأمل "ولهذا قال ابن منده" الأولى قال أبو داود لأن ابن منده راو
للفظه ومراده قال راويا "إنه" أي أبا داود "يورد الإسناد الضعيف ولم يقل
الحديث الضعيف لأن الحديث في نفسه قد يقوي متنه لاجتماع الأسانيد الضعيفة
إذا كان رواتها في مرتبة رجال الحسن ولم يكونوا ضعفاء بمرة" لكنه غير خاف
عليك أنه قال أبو داود إنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد غره فأين اجتماع
الأسانيد الضعيفة التي ترقيه إلى الحسن إذ لو كان شيء يرقيه إلى مرتبة
الحسن لما قال إذا لم يجد غيره وإن أراد أن غير أبي داود وجد له أسانيد
عاضدة لحديثه الذي لم يجد غيره فلا ينفع ذلك بالنظر إلى أبي داود إذ قد أتى
بضعيف لم يعضده شيء عنده ورتب عليه حكما ومنه تعرف ما في قوله.
"ومن
نفائس هذا الفصل أن لا تظن" أيها المخاطب كما يرشد إليه قوله واهما
"الانفراد في أحاديث السنن إذا لم يورده" أ ي الحديث الدال عليه الأحاديث
"أبو داود إلا بإسناد من الأسانيد الضعيفة واهما" من ظن الانفراد في أحاديث
السنن "أنه" أي أبا داود "إنما ترك الشواهد والمتابعات لعدمها" عند أبي
داود فيظن الانفراد "و" يظن الواهم "أن شرط الحديث الحسن وجودها" أي
الشواهد والمتابعات "فليس كذلك" أي ليس كما ظنه
من أن وجودها شرط "فنصه" أي أبي داود "على أن ما سكت عنه فهو صالح يقتضي معرفته لمتابعات" وشواهد تقويه فيه بحثان:
الأول : إن هذا الذي سكت عنه هو الذي أخبر عنه بأنه صالح والصالح صحيح أو أصح عنده كما عرفت.
و الثاني : أنه لم يسكت عما لم يجد في الباب غيره بل قال إنه ضعيف.
نعم
يشكل وجود حديث في السنن مسكوت عنه فإنه يحتمل أن سكوته عنه لكونه صالحا
أو أنه ضعيف فلا يعرف الفرق بينهما إلا بأن نجد حديثا ليس في الباب غيره
فيحكم بضعفه ثم إنه مبني على أنه لا يأتي في باب من أبواب كتابه بما وهنه
شديد وإن لم تجد إلا هو وهذا كله يفتقر إلى تتبع كتاب أبي داود لأن ما سكت
عنه قد احتمل الضعف واحتمل أنه صالح "من باب معرفة اصطلاحهم ومن باب الحمل
على السلامة" هذا كلام حسن لكنه يقال عليه إنه قد صرح أبو داود أنه يأتي
بالضعيف إذا لم يجد في الباب غيره من تابع أو شاهد فحمله على السلامة إنما
هو بقبول خبره عن نفسه "فإن مثل أبي داود مع جلالته ومعرفته وأمانته" يجب
قبول خبره عن نفسه كما يجب قبول ما أخبر به عن غيره وقد أخبر عن نفسه بما
عرفت.
وأما قوله: "لا يطلق ذلك" أي لفظ صالح فيها سكت عنه "على ما لا
يستحق اسم الصحيح أو الحسن في عرفهم الشائع" فقد عرفت أنه لم يطلقه إلا على
صحيح أو حسن "فكيف وقد روى الحافظ سراج الدين بن النحوي في مقدمات كتابه
البدر المنير عن أبي داود أنه يخرج في الباب أصح الأسانيد ويترك بقيتها
تخفيفا على طلبة هذا العلم الشريف" هذا محمول على ما يخرجه في باب أحاديث
الأحكام التي يذكر فيها كثيرة وأما ما يخرجه في باب أو في حكم لا يجد فيه
إلا حديثا واحدا فإنه قد صرح بأنه ضعيف "وهذا يدل على أنه إنما نص على
صلاحية ما سكت عنه مما إسناده ضعيف لم عرف من شواهده" قد عرفت أنه نص على
صلاحية ما سكت عنه ونص على أنه يخرج الضعيف الذي لا يجد غيره في الباب ونص
على أنه يخرج ما اشتد وهنه مع بيانه وإذا كان هذا نصه فليس لنا التحكم بأن
ما سكت عنه فهو صحيح أو حسن حتى يعلم أن في الباب غيره إذ هو الذي صرح بأنه
يخرجه مع ضعفه نعم الذي لا يجد في الباب غيره قليل بالنسبة إلى مقابله فقد
يقال الحكم للأعم الأغلب وهو الصلاحية للمسكوت عنه إلا أن هذا لا يكفي في
إثبات الأحكام.
"وأما الذهبي" كأنه قسيم إماما تقدم من الأقاويل أي
هذا ما قال أئمة هذا الشأن غير الحافظ الذهبي "فقال في ترجمة أبي داود من
كتابه النبلاء قال أبو داود ذكرت في السنن الصحيح وما يقاربه فإن كان فيه
وهن شديد بينته قال الذهبي وقد وفى بذلك رحمه الله بحسب اجتهاده وبين ما
ضعفه شديد غير محتمل وكاسر" بالسين المهملة في القاموس كسر من طرفه غض أي
غض أبو داود "عما ضعفه خفيف محتمل" غير شديد.
"فلا يلزم من سكوته
والحال" عنده "هذه عن الحديث أن يكون حسنا عنده" لأنه قد سكت عما فيه ضعف
محتمل وليس هذا بداخل في باب الحسن "ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن
باصطلاحنا المولد الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح" وهو
الحسن لذاته فإنه إنما يعتبر فيه خفة الضبط كما عرفت فإنه "الذي يجب العمل
به عند جمهور العلماء أو الذي يرغب عنه البخاري" كان الأولى الإتيان بكلمة
الواو عوضا عن أو لأن الذي يرغب عنه البخاري هو الحسن لذاته "ويمشيه مسلم
وبالعكس" لا أدري ما يراد به فينظر إذ المعروف أن البخاري لا يعمل بالحسن
لذاته كما تقدم ومسلم يدخله في قسم الصحيح وعكس هذا ما أدرى ما أراد به
الذهبي "فهو" أي المذكور بالحسن لذاته "داخل في أدنى مراتب الصحيح" كما قد
عرفته من كلام العلائي وغيره "فإنه" أي الحسن لذاته "لو انحط عن ذلك" أي عن
شرائطه بالاصطلاح المولد "لخرج الاحتجاج" .
"وكتاب أبي داود أعلى ما
فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو من شطر الكتاب" وهذا كله تقرير
لكون ما كاسر أبو داود عن ضعفه المحتمل وسكت عنه لا يدخل تحت الحسن ولا
يحتج به لأنه قد انحط عن رتبته وهذا خلاف ما قاله المصنف في تقريره "ثم
يليه ما أخرجه أحد الشيخين" كأن المراد به مسلم "ورغب عنه الآخر" البخاري
"ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيدا سالما من علة وشذوذ ثم يليه ما كان
إسناده صالحا وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدا يعضد كل منهما
الآخر ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص في حفظ راويه فمثل هذا يمشيه أبو داود
ويسكت عنه غالبا ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه
بل يوهنه غالبا وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته والله أعلم انتهى بلفظه" .
واعلم أنه قد تحصل من كلام الذهبي هذا أن أحاديث أبي داود على ستة أقسام:
على
شرط الشيخين على شرط أحدهما ما كان إسناده جيدا سالما عن شذوذ وعلة ما كان
إسناده صالحا وعضده غيره ما كان إسناده ضعيفا لضعف حفظ راويه ما كان بين
الضعف.
وأنت إذا قابلت بين هذا وبين كلام المصنف وجدت بين الكلامين
اختلافا وكذا إذا قابلت بينه وبين ما نقل عن أبي داود وإنما هذا إخبار من
الذهبي عن حقيقة أحاديث السنن باعتبار ممارسته لها لا باعتبار كلام مؤلفها
وكأنه لهذا قال المصنف وأما الذهبي "كما هو معروف من عوائد الحفاظ ولقد قال
بعض حفاظ الحديث إن الحديث إذا لم يكن عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم"
اليتيم: الفرد كما في القاموس وكأن هذا من قوله كما هو معروف إلى هنا معلق
بقوله وأما الذهبي وفيه نوع خفاء وتعلقه بقوله لما عرف من شواهده أظهر وإن
كان قد بعد بتوسيطه بنقل كلام الذهبي.
"فهذا الكلام الذي أوردته يعرف
شرط أبي داود ومن أحب الكشف عما سكت عنه فهو أولى وأقرب إلى التحقيق التام
وهو طريقة أهل الإتقان من طلبة هذا الشأن وأعون كتاب على ذلك" أي على الكشف
عن أحاديث أبي داود التي سكت عليها "كتاب الأطراف للحافظ الكبير حمال
الدين أبي الحجاج المزي" بضم الميم وكسرها كما في القاموس وآخر زاي بلدة
بدمشق "لمعرفة طرق الحديث وكتاب الميزان للذهبي للكشف عن أحوال الرجال
وأقرب منها مختصر الحافظ عبد العظيم" أي المنذري "لسنن أبي داود فإنه تكلم
على جميع ما فيها مما يحتمل الكلام وبين ما فيها مما في الصحيحين وغيرهما
وصححه أو حسنه أبو عيسى الترمذي وجود الكلام على حديثهما غاية التجويد وجاء
كتابه مع كثرة فوائده صغير الحجم لم يزد على مجلد" .
ذكر الحافظ
المذكور في خطبة مختصريه المذكور عن ابن داسه أنه قال سمعت أبا داود يقول
كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما
ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت
الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ويكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث قوله صلى
الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" 1 و الثاني: قوله: "من
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" 1والثالث: قوله: "لا يكون المؤمن مؤمنا حتى
يرضي لأخيه ما يرضي لنفسه" 2 والرابع: "الحلال بين والحرام بين وبينهما
أمور مشتبهات...", الحديث3.
ثم ذكر فيها أيضا أنه حكى أبو عبد الله محمد
بن اسحق بن منده الحافظ أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم
يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال السند من غير قطع ولا إرسال وحكى عن
أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه انتهى.
وأعلم أنه قد أطال المصنف رحمه الله الكلام على شرط أبي داود ولم يسفر وجه إطالته عن شيء يعتمد عليه.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 الترمذي قي: الزهد: ب 11, وابن ماجة في: الفتن: ب 12, ومالك في: حسن الخلق: حديث 3, وأحمد 1/201.
2 البخاري 1/10. ومسلم في: الإيمان ب 17. حديث 71. وأحمد 3/176.
3 البخاري 7/30. ومسلم في: المساقاة: حديث 108. وابن ماجة 3984.
مسألة:
15 [في بيان شرط النسائي]"شرط النسائي" هو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب
النسائي1 في القاموس أن نسا بلدة وبلدة بسرخس ذكره في المعتل ولم يذكره في
المهموز "واعلم أن من الناس من يفضل كتاب النسائي في القوة والصحة على سنن
أبي داود" وقد أطلق الصحة عليه أو على النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والدار
قطني وابن منده وعبد الغني بن سعيد قال ابن الصلاح: وقد أطلق الخطيب السلفى
الصحة على كتاب النسائي انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: أطلق الحاكم الصحة
عليه وعلى كتاب أبي داود والترمذي وقال أبو عبد الله بن منده الذي خرجوا
الصحيح أربعة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأشار إلى ذلك أبو على بن
السكن "وقد روى أن له شرطا أعز من شرط البخاري" قال الحافظ الذهبي في
التذكرة إنه قال ابن طاهر سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقل قد
ضعفه النسائي فقال يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط
البخاري ومسلم "ولكنه لم يصح عنه دعوى ذلك ولا ذكر ذلك الحافظ ابن الصلاح
في علوم الحديث ولا الحافظ زين الدين بن العراقي في التبصرة بل نقل زين
الدين في التذكرة عن ابن منده أن شرط النسائي أن يخرج حديث من لم يجمع على
تركه" قد قدمنا أن هذا قاله الحافظ المنذري نقلا عن أبي داود في خطبة مختصر
السنن ولكنه قال الحافظ ابن حجر إنما أراد بذلك إجماعا خاصا وذلك أن كل
طبقة من طبقات الرجال لا تخلوا عن متشددة ومتوسطة فمن
ـــــــــــــــــــ
1
أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي القاضي الإمام الحافظ . قال الذهبي:
هو أحفظ من مسلم بن الحجاج وقال الحاكم: كان أفقه مشايخ مصر في عصره مات
سنة 303. له ترجمة في: البداية والنهاية 11/123.وشذرات الذهب 2/239. والعبر
2/123.
الأولى شعبة وسفيان الثوري وشعبة أشد منه من الثانية يحيى
بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد من عبد الرحمن ومن الثالثة يحيى
بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى أشد من أحمد ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري
وأبو حاتم أشد من البخاري فقال النسائي لا يترك الرجل عندي حتى يجمع الجميع
على تركه.
ثم قال ابن حجر فإذا تقرر ذلك ظهر أن ما يبادر إلى الذهن من
أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك فكم من رجل أخرج له أبو داود
والترمذي يجتنب النسائي إخراج حديثه. انتهى.
"قال زين الدين: هذا مذهب
متسع" قد عرفت مما نقلناه عن ابن حجر ما لا يتم معه هذا "ذكر ذلك الذهبي في
تذكرته" أي تذكرة الحفاظ "في ترجمة النسائي عن ابن طاهر عن سعد بن علي
الزجاني قوله والله أعلم" قد عرفته مما نقلناه من التذكرة عن ابن طاهر عن
الزنجاني وأن دعواه أن شرط النسائي أشد من شرط البخاري ومسلم وظاهر كلام
المصنف أن الذي في ترجمة النسائي. من التذكرة هو هذا المنقول عن ابن منده
ولم أجده في التذكرة في ترجمة النسائي.
"وقال" الذهبي "في النبلاء في
ترجمة النسائي إن ذلك صحيح" أي ما قاله سعد الزنجاني "وقال في النسائي هو
أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم والترمذي وأبي داود وهو جار في مضمار
البخاري وأبي زرعة" هذا كلام الذهبي وهو ينافي ما تقدم من أنه لم يصح عن
النسائي دعوى ذلك إلا أن يقال أن النسائي لم يدع ذلك لكن الأئمة الحفاظ
تتبعوا كتابه فوجدوه بهذه المثابة فحكموا له بهذا الحكم كما قلناه في شرط
الشيخين.
"وقد تكلم الحافظ سراج الدين" أي ابن النحوي "في أول البدر
المنير على شرطه واستقصى كلام الحفاظ فيه وروى أبو السعادات ابن الأثير في
مقدمة جامعه" يعني جامع الأصول "أن النسائي سئل قال" ابن الأثير إنه سأله
عنه بعض الأمراء أي "عن حديث سننه الكبرى أصحيح هو فقال لا فقيل له اختصر
لنا الصحيح منه وحده فصنف كتاب المجتبي واقتصر فيه على ذكر الصحيح مما في
السنن انتهى" .
قال ابن الأثير: إن ترك كل حديث مما تكلم في إسناده بالتعليل انتهى.
"قلت:
والمجتبي هو السنن الصغرى ولهذا يقول المحدثون رواه النسائي في سننه
الكبرى وهذا يقوي أنه لا يجوز العمل بحديث السنن الكبرى من غير بحث" لا
يخفى
أنه قال أئمة هذا الشأن في سنن النسائي الكبرى بقولين الأول أن
شرطه فيها أشد من شرط الشيخين الثاني: أن شرطه فيها شرط سنن أبي داود وهو
إخراج حديث من لم يجمع على تركه.
والمصنف قد أجاز العمل بما سكت عليه
أبو داود بما طول فيه الكلام فليجعل سنن النسائي مثله "وأما السنن الصغرى
المسماة بكتاب المجتبي فيجوز" أي العمل بما فيها من غير بحث "ولعلها هي
التي فصلت" أي التي قيل إن رجالها شرط النسائي فيهم أشد من شرط البخاري.
"لكن
قال الذهبي في ترجمة النسائي في النبلاء إن هذه الرواية لم تصح" أي التي
ذكرها ابن الأثير "بل المجتبي اختصار ابن السني تلميذ النسائي" وقال في
ترجمة ابن السني في تذكرة الحفاظ إ ابن السني صاحب كتاب عمل يوم وليلة
وراوي سنن النسائي كان دينا خيرا صدوقا إلى أن قال واختصر السنن وسماه
المجتبي انتهى بلفظه ولم يذكر في ترجمة النسائي أنه اختصر السنن.
"قال"
أي الذهبي "وهذا هو الذي وقع لنا من سننه سمعته ملفقا من جماعة سمعوه من
ابن باقا" ضبط بالقلم بالموحدة فألف فقاف "برواية عن أبي زرعة المقدسي
سماعا لمعظمه إجازة لفوت له محدد" أي معروف حده "في الأصل" متعلق بمحدد
"قال أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن حميد الدروي ثنا القاضي أحمد بن الحسين
الكسار أنا ابن السني عنه قال" الذهبي "وكتاب خصائص علي" ابن أبي طالب رضي
الله عنه الذي ألفه النسائي بسبب دخوله دمشق فإنه قال دخلت دمشق والمنحرف
بها عن على كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله ذكره الذهبي في
ترجمته في التذكرة "داخل في سننه الكبرى وكتاب عمل يوم وليلة من جملته في
بعض النسخ" أي نسخ سنن النسائي الكبرى وكأنه منه أخذ ابن السني كتابه عمل
يوم وليلة زاد فيه ما ليس من السنن "فمن أحب البحث عن حديثه والكشف عن
رجاله استعان بمطالعة أطراف المزي وميزان الذهبي كما تقدمت الإشارة إلى ذلك
في سنن أبي داود" وتقدم تحقيقه.
مسألة: 16 [في بيان شرط ابن
ماجه]"شرط ابن ماجه" قال الحافظ الذهبي في التذكرة في ترجمته الحافظ الكبير
المفسر هو أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني1 هو صاحب السنن والتفسير
والتاريخ لقزوين "وأما سنن ابن ماجه فإنه دون هذين الجامعين" يعني كتاب أبي
داود وكتاب النسائي " والبحث عن أحاديثها لازم وفيها حديث موضوع في أحاديث
الفضائل وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أن ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه
محتج به له معرفة وحفظ" هذا الكلام نقله الذهبي في التذكرة عن أبي يعلي
الخليلي لا من كلامه نفسه "إلى أن قال وسنن أبي عبد الله كتاب حسن لولا ما
كدره بأحاديث واهية ليست بالكثيرة انتهى كلام الحافظ الذهبي" ونقل الذهبي
عن ابن ماجه أنه قال عرضت هذه السنن على أبى زرعة فنظر فيه وقال أظن إن وقع
هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها ثم قال لا يكون فيه تمام
ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف.
وأقر هذا الكلام في التذكرة "و" لكنه
"قال" الذهبي "في ترجمته في النبلاء وقول أبي زرعة لعل لا يكون فيه تمام
ثلاثين حديثا مما في سنده ضعف أو نحو ذلك إن صح كأنما عنى بثلاثين حديثا
الأحاديث المطرحة الساقطة وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة لعلها
نحو الألف وقال فيه" في النبلاء "كان حافظا ناقدا صادقا واسع العلم وإنما
غض" بالغين والضاد المعجمتين يقال غض منه نقص ووضع من قدره كما في القاموس
"من رتبة سننه ما فيها من المناكير وقليل من الموضوعات وإنما أراد الذهبي"
بقوله قليل "تقليل الأحاديث الباطلة" ولذا قال من الموضوعات "وأما الأحاديث
ـــــــــــــــــــ
1
أبو عبد الله بن محمد بن يزيد القز ويني سمع بخراسان والعراق والحجاز ومصر
والشام وغيرها. قال الخليلي: ثقة كبير متفق عليه مجمع به مات سنة 283. له
ترجمة في: البداية والنهاية 11/52. وشذرات الذهب 2/164. ووفيات الأعيان
1/484.
الضعيفة في عرف أهل الحديث ففيه قدر ألف حديث منها كما ذكر
في النبلاء في ترجمة ابن ماجه وقدر" بتشديد المهملة أي الذهبي "الباطلة
بعشرين حديثا فيحرر من النبلاء" .
قال الذهبي في التذكرة وعدد كتب سننه
اثنان وثلاثون كتابا قال أبو الحسن بن القطان صاحب ابن ماجه في السنن ألف
وخمسمائة باب وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث. انتهى.
وقال ابن حجر في
الفهرسة إنه قال الحافظ المزي إن الغالب فيما انفرد به ابن ماجه الضعف ولذا
جرى كثير من القدماء على إضافة الموطأ أو غيره إلى الخمسة قال الحافظ أول
من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة أبو الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في الأطراف
وكذا في شروط الأئمة الستة ثم الحافظ عبد الغني في كتابه في أسماء الرجال
الذي هذا به الحافظ المزي وسبب تقديم هؤلاء له على الموطأ كثرة زوائده على
الخمسة بخلاف الموطأ وممن اعتنى بأطرافها الحافظ ابن عساكر ثم المزي مع
رجالها.
* * *
مسألة: 17 [في الكلام على جامع الترمذي]"وأما
جامع الترمذي فلم يتعرض" كأنه يريد الذهبي "لذكر شرطه لأنه" أي الترمذي "قد
أبان عن نفسه وذكر الصحيح والحسن والغريب" أي ذكره في كل حديث يسوقه.
فإن قلت: قد يجمع بين الصفات الثلاث ومع تنافيها عرفا لا يعرف الناظر في كتابه مراده فيها.
قلت: سيأتي الجواب عن هذا في كلام المنصف.
"وما
لم يصححه ولا يحسنه فالظاهر أنه عنده ليس بحجة" على أنه لا يعزب عنك ما
أسلفناه فيما صححه أو حسنه من البحث فتذكر "فمن أحب أن يعتمد على ما لم ينص
الترمذي على صحته أو حسنه لزمه البحث" عن رجال إسناده.
"وقد صنف في
الحديث غير واحد من الحفاظ" كما هو معروف في مثل تذكرة الحفاظ وغيرها
وإيراده لهذه الجملة لدفع ما يتوهم أنه لم يصنف في الأحاديث كتب معتبرة إلا
ما ذكر "وكتب التفاسير" للقرآن "والرقائق" كالكتب الوعظية من نحو الأحياء
للغزالي وإن كان يشمله أيضا قوله "والفقه" فإنه جامع لذلك مع غيره "والأصول
وغيرها تشتمل على كثير من الحديث" إذ علم الحديث هو الأدلة للأحكام
والأصول والوعظ ولبيان معاني القرآن.
"وحكم جميع ذلك موقوف" أي العمل به
"على البحث" عن صحة الحديث وحسنه وضعفه وكأن مراده بجميع ذلك ما عدا ما في
الصحيحين نحوهما مما حكم الأئمة بصحته فإن هذه الكتب فيها من أحاديث
الصحيحين "والنظر في الرجال عند من لا يقبل المرسل" مراده بالمرسل ما هو
أعم مما هو معروف عند أئمة الحديث "وللمرسل شروط تأتي في بابه إن شاء الله
تعالى" في أواخر الكتاب.
"وبالجملة فمن روى حديثا من أئمة الحديث أو غيرهم من الفقهاء وسائر أهل العلم
فإنه
لا يجوز القوم بصحة الحديث بمجرد رواية من رواه وإن كان الراوي في أرفع
مراتب الثقة" إذ مجرد روايته ليس تصحيحا "إلا بنص" منه أو من غيره "على
صحته وحده أو على صحة كتاب هو فيه أو يرسله بصيغة الجزم عند الزيدية
والمالكية والحنفية كما سيأتي في المرسل فأما مجرد الرواية فليست طريقا إلى
تصحيح الحديث لعدم إشعارها بذلك ولأن أكثر الثقات ما زالوا يروون الحديث
الضعيفة وسوف يأتي ذكر هذه المسألة" في بحث هل رواية العدل تعديل.
"وإنما
ذكرت شروط أهل السنن كلهم" كأنه جواب عما يقال إن أهل علوم الحديث لم
يذكروا إلا شرط الشيخين "وإن لم يكن من جملة علوم الحديث" كأنه يريد مما لم
يذكره من ألف في هذا الفن وإلا فإنها من علوم الحديث "لأن ابن الصلاح وزين
الدين ذكرا شروط البخاري ومسلم وأبي داود" وبه تعرف أن مراد المصنف بقوله
شروط أهل السنن ليس إلا النسائي وابن ماجه وأبو داود قد ذكروا شرطه
والترمذي لا شرط له كما ذكره المصنف "والمستدركين على البخاري ومسلم
المستخرجين لأحاديثهما" الظاهر في عبارته أن المستخرجين صفة للمستدركين
ولكن قد عرفت مما سبق أن المستدركين هم الذي تتبعوا أحاديث كتابي الشيخين
وانتقدوا رجالا من رواتهما كما صنعه الدار قطني وغيره وأما المستخرجون
فليسوا بمستدركين كما عرف من ذكرهم وذكر شروطهم فيما تقدم على أن
المستدركين لم يذكر لهم شرطا فيما سبق ولا ذكره الزين ولا ابن الصلاح.
"وذكر زين الدين شرط النسائي باختصار كثير فرأيت ذكر شروطهم الجميع أكثر مناسبة" وأكمل إفادة "والله أعلم" .
* * *
مسألة:
18 [في ذكر شرط المسانيد]"شرط المسانيد" جمع مسند والمعروف في التصريف جمع
مفعل على مفاعل ولكن جمعه مع الياء شائع قال زين الدين: في ألفيته في هذا
البحث:
ودونها في رتبة ما جعلا على المسانيد فيدعى الجفلى بفتح الجيم
والفاء معا مقصور وهي الدعوى العامة للطعام فإن الدعوة له عند العرب قسمين
الجفلى وهي العامة التقوى وهي الخاصة "واعلم أن المسانيد دون السنن في
القوة وأبعد منها عن رتبة الصحة" ولذا قال الزين ودونها أي دون السنن في
الرتبة وفسر الزين الرتبة بالصحة كما قاله المصنف ووجهه أن من شأن المسند
أن يذكر فيه ما ورد عن ذلك الصحابي جميعه فيجمع الضعيف وغيره بخلاف المرتب
على الأبواب فإن مؤلفه لا يورده لإثبات دعواه في الترجمة إلا الحديث
المقبول وسيشير المصنف إلى هذا ولا خفاء أن عبارتهما تفيد أن السنن كلها
بعيدة عن رتبة الصحة والذي قرره قريبا خلاف هذا وكأنه من باب التغليب.
قلت:
إلا أنه لإخفاء أن في المسانيد حسانا بل فيها صحيح وحسن بعضه قد يكون أرجح
من أحاديث السنن فالتحقيق أنه لا يتم ترجيح مجموع من السنن على مجموع من
المسانيد كمسند أحمد مثلا على مجموع من السنن كسنن أبي داود وإنما يتم
ترجيح أفراد على أفراد كحديث معين من السنن على حديث من أحاديث المسند أو
عشرة على عشرة أو نحو ذلك.
وإذا عرفت هذا فينبغي أن يحمل كلامهم على أن
أغلب أحاديث السنن أرفع رتبة من أغلب أحاديث المسانيد إلا أن فيه بعد هذا
بحثا وهو أنها تقل الفائدة في هذا الترجيح عند العمل فإنه إذا تعارض مثلا
حديث من مسند أحمد وحديث من سنن ابن ماجه وقد علم أن فيه ضعيفا كثيرا وعلم
أن في مسند أحمد حسنا فلا ترجيح
لحديث ابن ماجه لجواز أنه من
الأحاديث الضعيفة وجواز أن حديث المسند من الحسان فيتوقف العمل على البحث
فعرفت أنه لم يأت الترجيح الجملي بفائدة.
ولا يقال فائدته أن يحمل الفرد
المتنازع فيه على الأعم الأغلب كما عرف في الأصول والأغلب في أحاديث ابن
ماجه الحسن وفي أحاديث مسند أحمد الضعيف لأنا نقول مثل هذا لا يكفي في
إثبات الأحكام الشرعية إنما يجري ذلك في الأبحاث اللفظية كقولهم إذا تعارض
الاشتراك والمجاز حمل اللفظ على المجاز لأنه الأغلب ولا يقال الأحكام
اللفظية ترتب عليها أيضا أحكام شرعية فإذا كفى ذلك هنالك فليكف هنا فيكون
هذا فائدة الترجيح الجملي لأنا نقول هذا لا يطرد.
واعلم أني قلت: هذا
بحثا مني وبعد أعوام رأيت البقاعي قد نبه على هذا فقال بعد بيان كلام الزين
والتفرقة بين السنن والمسانيد ما لفظه وليس ذلك من مسلم طردا ولا عكسا
فإنه قد ينتقي صاحب المسند فلا يذكر إلا مقبولا كما صنع الإمام أحمد فإنه
قال انتقيته من سبعمائة ألف وخمسين ألف حديث فما كان ينبغي أن يمثل به لما
دون السنن وانه قال أي الزين إن في مسند أحمد الموضوع وقد هي شيخنا ذلك
وصنف كتابا في المسند وكذا البزار انتقى مسنده وإذا ذكر ضعيفا بين حاله في
بعض الأحايين وربما اعتذر عن إيراده بأنه ما وجد في الباب غيره أو بغير ذلك
وكذا اسحق بن راهويه يخرج أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي إذا عرفت هذا عرفت
أنه يتعين تأويل كلامهم بما قررناه.
"وشرط أهلها" أي أهل المسانيد "أن
يفردوا حديث كل صحابي على حدة" بكسر المهملة الأولى يقال هذا على حدته وعلى
وحده أي توحده أي يأتون بحديث كل صحابي على انفراد "من غير نظر إلى
الأبواب" التي تلائم الحديث كما يصنعه غيرهم من المؤلفين على الكتب
والأبواب "ويستقصون جميع حديث ذلك الصحابي كله" القاعدة: تقديم كل على
أجمع: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} لأن كلا وجميعا هنا
تأكيد لحديث وأن لم يساقا مساقه في اللفظ وكأنه لذلك اغتفر الترتيب ولا فرق
بين جميع وأجمع "سواء رواه من يحتج به أو لا فقصدهم حصر جميع ما روى عنه"
ومن هنا ضعفت رتبته عن رتبة السنن.
"كمسند أبي داود الطيالسي" هو الحافظ
الكبير سليمان بن داود بن الجارود الفارسي الأصل البصري سمع ابن عون وشعبة
بطبقتهم وعنه أحمد بن حنبل وغيره من أهل
طبقته قال الفلاس ما رأيت
أحفظ منه وقال ابن مهدي كان هو أصدق الناس قال الذهبي قلت: كان يتكل على
حفظه فغلط في أحاديث مات سنة أربع ومائتين وكان من أبناء الثمانين "ويقال
إنه أول مسند صنف" قال البقاعي الذي حمل قائل هذا القول عليه تقدم عصر أبي
داود على أعصار من يصنف المسانيد وظن أنه الذي صنفه وليس كذلك فإنه ليس من
تصنيف أبي داود وإنما جمعه بعض الحفاظ الخراسانيين جمع فيه ما رواه يونس
ابن حبيب خاصة عن أبي داود قال ويشبه هذا مسند الشافعي فإنه ليس من تصنيفه
وإنما لقطه بعض الحفاظ النيسابوريين من مسموع الأصم من الأم وسمعه عليه.
انتهى.
"ومثل مسند أحمد بن حنبل" فإنه من أجمع المسانيد للحديث وهو إمام الحفاظ وعلم الزهاد أفردت ترجمته في مصنفات.
"و"
مسند "أبي بكر بن أبي شيبة" قال في حقه الذهبي الحافظ الكبير العديم
النظير الثبت التحرير عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحب المسند والمصنف
وغير ذلك سمع من ابن المبارك وابن عيينه وطبقتهم وعنه البخاري ومسلم وأبو
داود وابن ماجه وعوالم قال الخطيب كان أبو بكر متقنا حافظا صنف المسند
والأحكام والتفسير مات سنة خمس وثلاثين ومائتين.
"و" مسند "أبي بكر
البزار" بفتح الموحدة فزاي مشددة هذا هو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن
عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل.
"و" مسند "أبي
القاسم البغوي" قال الذهبي هو الحافظ الكبير مسند العالم أبو القاسم عبد
الله بن عبد العزيز مولده في رمضان سنة أربع عشر ومائتين سمع علي بن
المديني وأحمد بن حنبل وخلقا كبيرا أزيد من ثلاثمائة شيخ وجمع وصنف معجم
الصحابة والجعديات وطال عمره وتفرد في الدنيا.
"وغيرهم ومن أوسعها مسند
بقي" بالموحدة فمثناة تحتية بزنة تقي ابن مخلد بالخاء المعجمة آخره مهملة
بزنة مقتل قال فيه الذهبي الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرطبي صاحب
المسند الكبير والتفسير الجليل الذي قال فيه ابن حزم ما صنف تيسير مثله
أصلا مولده في رمضان سنة إحدى ومائتين قال وكان إماما علامة مجتهدا لا يقلد
أحدا قدوة ثقة حجة صالحا عابدا مجتهدا أواها منيبا عديم النظير في زمانه
قال أبو الوليد القرطبي ملأ بقاع الأندلس حديثا وعن بقي قال:
لقد
غرست للمسلمين غرسا بالأندلس لا يقلع إلا بخروج الدجال وكان مجاب الدعوة
وقيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاثة عشرة ركعة وسرد الصوم وحضر
سبعين غزوة مات في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين.
"ومسند الحافظ
البارع أبي الحسين بن محمد الماسرخسي" قال الذهبي هو الحافظ البارع أبو علي
كذا في التذكرة وفي نسخ التنقيح أبو الحسين ولعله غلط الحسين بن محمد بن
أحمد الماسرخسي النيسابوري صنف المسند الكبير مهذبا معللا في ألف جزء
وثلثمائة جزء وجمع حديث الزهري جمعا لم يسبقه إليه أحد وكان يحفظه مثل
الماء وصنف الأبواب والشيوخ والمغازي والقبائل وخرج على صحيح البخاري كتابا
وعلى صحيح مسلم وأدركته المنية ودفن علم كثير بدفنه مولده سنة ثمان وتسعين
ومائتين ومات في تاسع رجب سنة خمس وستين وثلثمائة "قال الذهبي فرغ مهذبا
معللا في ثلاثة آلاف جزء" قد سمعت قول الذهبي إنه ألف جزء وثلثمائة جزء.
"وهذه
المسانيد الكبار هي التي يذكر فيها طرق الأحاديث وما لها من المتابعات
والشواهد التي اختصرها أهل الصحاح" والسنن "تسهيلا على الطالبين" ثم اختصرت
الصحاح بحذف أسانيدها وجمع متونها ثم ضمت إليها السنن كل ذلك تسهيلا
للطالبين ثم مراده بالصحاح ما يشمل السنن.
"قال زين الدين: وقد وعد ابن
الصلاح مسند الدارمي في جملة المسانيد فوهم في ذلك لأنه مرتب على الأبواب
لا على المسانيد" قال الذهبي في حق الدرامي هو الإمام الحافظ شمس الإسلام
بسمرقند أبو عبد الله بن عبد الرحمن صاحب المسند العالي ثم قال وله المسند
وكتاب الجامع وأثنى عليه وسمي كتابه مسندا كما سماه ابن الصلاح وكأنه سماه
مؤلفه بالمسند وإن لم يكن على ترتيب المسانيد قال الحافظ ابن حجر اشتهر
تسميته بالمسند كما سمي البخاري كتابه بالمسند الصحيح وإن كان مرتبا على
الأبواب لكون أحاديثه مسندة إلا أن مسند الدارمي كثير الأحاديث المرسلة
والمعطلة والمنقطعة والمقطوعة قال هو ليس دون السنن في المرتبة بل لو ضم
إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجه فإنه أمثل منه بكثير انتهى.
مسألة:
19 [في الكلام على الأطراف]"قد مر الكلام في ذكر الأطراف وهي من جملة ما
اصطلح على تسميته أهل الحديث" وجعله نوعا من التأليف له صفة يمتاز بها عن
غيره "فيحسن ذكرها" إذ قد صارت من جملة علوم الحديث "وإن لم يتعرض لها ابن
الصلاح وزين الدين" في كتابيهما.
"وشرط أهل كتب الأطراف أن يذكروا حديث
الصحابي مفردا كأهل المسانيد إلا أنهم لا يذكرون من الحديث إلا طرفا" لا
كأهل المسانيد يذكرون الحديث كله "يعرف به ثم يذكرون جميع طرق الشيخين وأهل
السنن الأربع وما اشتركوا فيه من الطرق وما اختص به كل واحد منهم" أي ما
اختص به أحد مؤلفي الكتب الستة من طرق ذلك الحديث.
"وإذا اشترك أهل
الكتب الستة في رواية حديث أو بعضهم أو انفرد بعضهم ذكروا" أي أهل الأطراف
"أين ذكر كل واحد منهم ذلك الحديث في كتابه" فيعرف موضعه ليقرب البحث عنه
"وإن ذكره" أي الواحد من أهل الكتب الستة "مفرقا في موضوعين أو أكثر ذكروا"
أي أهل الأطراف "كل واحد من الموضوعين فيسهل بذلك معرفة طرق الحديث والبحث
عن أسانيده" وهذا أعظم فوائد تأليف الأطراف فإنه "يكتفي الباحث بمطالعة
كتاب منها" أي من الأطراف "عن مطالعة جميع هذه الكتب الستة" إذا كان مقصوده
معرفة طرق الحديث لأنها قد جمعت الأطراف لا إذا كان مقصوده معرفة ألفاظ
المتون فإنها لا تكفي فيها لعدم اشتمالها على جميع ألفاظها "ويتمكن بالنظر
فيها من معرفة موضوع الحديث منها" بنص صاحب الأطراف على محلها.
"وقد صنف فيها غير واحد من الحفاظ وأجل ما صنف فيه" أي في هذا الفن "كتاب
الحافظ
أبي الحجاج المزي" تقد ضبطه وهو إمام كبير ختم الحافظ الذهبي تذكرة الحفاظ
بترجمته فقال شيخنا العالم الحبر الحافظ الأوحد محدث الشام ثم ذكر قراءته
ورحلته إلى أن قال وكان ثقة حجة كثير العلم حسن الأخلاق كثير السكوت قليل
الكلام جدا صادق اللهجة لم تعرف له صبوة كان متواضع حليما صبورا مقتصدا في
ملبسه ومأكله كثير المشي في مصالحه ترافق هو وابن تيمية كثيرا في سماع
الحديث وفي النظر وكان ذا سماحة ومروءة باذلا لكتبه وفوائده ونفسه كثير
المجلس توفي في صفر سنة اثنين وأربعين وسبعمائة.
"قال الشيخ مجد الدين
الشيرازي" هو مؤلف قاموس أبو الطاهر الفيروز باذي كان يدعي أنه من ولد
الشيخ أبي اسحق صاحب المهذب ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة وأقبل على الطلب
في فنون العلم وأقبل على اللغة وعظم شأنه وألف كتبا نفيسة منها القاموس
وشرح البخاري ولم يتم خرج في آخر أمره إلى اليمن وتزوج الملك الأشرف ببنته
وولاه قضاء اليمن وتوفي بها في مدينة زبيد وقبره معروف ووفاته في شوال سنة
سبع عشرة وثمانمائة "وأما تحفة الأشراف لمعرفة الأطراف للحافظ الكبير الشيخ
جمال الدين فإنه كتاب معدوم النظير مفعم الغدير" بضم الميم فيعن مهملة
بزنه مكرم أي مملوء من أفعم الإناء إذا ملأه "يشهد لمؤلفه على إطلاع كثير
وحفظ بتير" بموحدة فمثناة فوقية فمثناة تحتية فراء في القاموس البتير
القليل والكثير.
"والعلماء يقولون محدث ما له أطراف كإنسان ما له أطراف
وقد قصد" أي أبو الحجاج المزي "بوضعه" أي وضع كتاب الأطراف "تحصيل الكتب
المعتبرة التي هي دواوين الإسلام المشتهرة" وهي الأمهات الست "بأسانيدها في
مختصر وليس قصده ذكر تمام متون الأحاديث وسردها وإنما يذكر الراوي أولا
وطرفا من الحديث إلى أن يتميز عن غيره من الأحاديث ثم يقول رواه فلان بسند
كذا وفلان بسند كذا إلى أن يفرغ من ذكر من رواه من آهل الكتب فإذا نظره
المحدث عرف من أول نظرة بدا بدا" كذا في النسخ ولعله تصحيف بادئ بدء أو
بادي بدا ومعناه أول شيء كما في القاموس وفيه لغات أخر "علوه" مفعول عرف
والمارد علو سنده "ونزوله بالنسبة إلى كل مصنف" من الأئمة الستة.
"وقد سبقه إلى ذلك الحافظ أبو مسعود الدمشقي وأطرافه أيضا كتاب نفيس مفيد
وله
فضل التقدم وكتاب الشيخ جمال الدين المزي اجمع وانفع واجل قدرا وارفع
وسئلت عنهما" أي عن أطراف أبي مسعود وأطراف المزي "في وقت فقلت: بينهما
بون" بفتح الموحدة وتضم مسافة ما بين الشيئين "كثير بلا مراء" بلا ممارة
ولا جدال "وأشبه شرج" بالشين المعجمة مفتوحة فراء ساكنة فجيم "شرجا لو أن
أسيمرا" بالسين المهملة قال الزمخشري في مستقصى الأمثال شرج اسم موضع
والأسمير تصغير الأسمر جمع سمرة قاله لقيم بن لقمان المادي حين أوقد له
أبوه هذا الشجر في أخدود حفره على طريقه أراد سقوطه فيه وهلاكه حسدا له
ففطن له لما لم ير السمر في مكانه يضرب في تشابه الشيئين وبينها أدى تخالف
"وتكافأت" المكافأة المساواة "الغواني" بالغين المعجمة جمع غانية في
القاموس الغنية المرأة التي تطلب ولا تطلب والغنية بحسنها عن الزينة أو
التي غنيت ببيت أبوها ولم يقع عليها سباء أو الشابة العفيفة ذات زوج أو لا
"لو أصبى" وفيه أصبته وتصبته شاقته إلى الصبا فحن إليها "غيره عزه" بفتح
المهملة وتشديد الزاي وهي لغة بنت الظبية والمراد هنا المرأة التي أصبت
"كثيرا" وشبب بها في أشعاره وقصته معروفة وهو بصيغة تصغير كثير.
* * *
مسألة:
20 [في بيان المراد بصحة الإسناد وحسنه]"المراد بصحة الإسناد وحسنه" وضعفه
اعلم أن "من أساليب أهل الحديث أن يحكوا بالصحة والحسن والضعف على الإسناد
دون متن الحديث فيقولون إسناد صحيح دون حديث صحيح ونحو ذلك" أي حسن أو
ضعيف "لأنه قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو علة كما
سيأتي في الشاذ والمعلل وهذا كثير ما يقع في كلام الدار قطني والحاكم"
والحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع
شرائطهما ولا يصح المتن لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق
أخرى.
"قال ابن الصلاح: غير أن المصنف المعتمد" أي الذي هو عمدة وقدوة
"منهم" أي من أهل الحديث "إذا اقتصر على قوله إنه صحيح الإسناد ولم يذكر له
علة ولم يقدح فيه فالظاهر منه الحكم له بأنه" أي متن الحديث "صحيح في نفسه
لأن عدم العلة هو الأصل والظاهر" قال عليه الحافظ ابن حجر قلت: لا نسلم أن
عدم العلة هو الأصل إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح ماذا
كان قولهم صحيح الإسناد يحتمل آن يكون مع وجود علة لم يتحقق عدم العلة فكيف
تحكم له بالصحة وقوله عن المصنف المعتمد إذا اقتصر إلى آخره يوهم أن
التفرقة التي فرقها أولا تختص بغير المعتمد وهو كلام ينبو عن السمع لان
المعتمد هو قول المعتمد وغير المعتمد لا يعتمد.
والذي يظهر لي أن الصواب
هو التفرقة بين من يفرق في وصف الحديث بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين
من لا يفرق فمن عرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك ويحمل
إطلاقه على الإسناد والمتن معا وقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله انه
لا يصف الحديث دائما أو غالبا إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال في
حقه ما قاله المصنف آخرا والله أعلم ومراده بالإطلاق عدم ذكر السلامة بعد وصفه بالصحة وبالتقييد ذكرها وهو كلام متجه.
"قال
زين الدين: وكذلك إذا اقتصر على قوله انه حسن الإسناد ولم يتعقبه بضعف
قلت: هذا الكلام" من الشيخين "متجه لأن الحفاظ قد يذكرون ذلك لعدم العلم
ببراءة الحديث من العلة لا لعلمهم بوجود علة" غذ لو علموا بوجودها ما جاز
السكوت عن الإعلال "ويصرحون لهذا كثيرا فيقول أحدهم هذا حديث صحيح الإسناد
ولا أعلم له" أي للمتن الدال عليه ذكر الإسناد ولا يصح جعل الضمير للإسناد
"علة على أن الأصوليين والفقهاء وكثيرا منهم" أي من المحدثين "يقبلون
الحديث المعل كما سيأتي" قد عرفت مما سبق أنه لا بد في الصحيح من عدم العلة
أو الشذوذ كما ذكر في رسمه عند المحدثين وأنه لا يشترط فقد العلة عند
الفقهاء إلا إذا كانت قادحة فراجع ما قدمناه ثم القبول له لا يلزم منه أنه
صحيح فإنهم يقبلون الحسن كما قال زين الدين: في ألفيته:
والفقهاء كلهم تستعمله والعلماء الجل منهم يقبله أي: الحسن.
* *
مسألة:21
[في بيان المراد من الجمع في وصف الحديث بين الصحة والحسن]"جمع الحديث بين
الصحة والحسن" أي جمع بعض الأئمة لوصف الحديث بالأمرين "استشكل الجمع بين
الحسن والصحة في حديث واحد كقول الترمذي" في جامعه "حديث حسن صحيح" وقد
يزيد غريب ولم يذكره المصنف لأن الغرابة لا تنافي الصحة والحسن ومثله وقع
للبخاري على ما ذكره السخاوي ويعقوب بن شيبة فإنه جمع بين الصحة والحسن
والغرابة في مواضع من كتابه وكأبي على الطوسي فإنه جمع بين الصحة والحسن في
مواضع من كتابه المسمى بـ الأحكام وكذا في شرح النخبة لملا علي قاري وإنما
استشكل "لأن الحسن قاصر على الصحيح" بخفة ضبط رواته "كما سبق" في تعريفه
"فكيف يجمع إثبات القصور" بوصفه الحسن "ونفيه" أي القصور بوصفه بالصحيح "في
حديث واحد" وهل هذا إلا تناقض؟!.
"قال زين الدين: وقد أجاب ابن الصلاح
بجوابين ثم جوز جوابا آخر" لفظ زين الدين: وقد أجاب ابن الصلاح بجواب ثم
جوز جوابا آخر. انتهى. ولفظ ابن الصلاح وجوابه أن ذلك راجع إلى الإسناد
فإذا روى الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح
استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح أي أنه حسن بالنسبة إلى إسناد صحيح
بالنسبة إلى إسناد آخر على أنه غير مستنكر أن يكون بعض من أراد ذلك أراد
بالحسن معناه اللغوي وهو ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب دون المعنى
الاصطلاحي الذي نحن بصدده انتهى بلفظه فعرفت أنه جواب بجواب واحد وجوز
جوابا آخر جعله علاوة للأول فكأن ما في نسخ التنقيح من قوله جوابين وجوز
جوابا آخر سبق فلم أو غلط من النساخ.
"وضعف الجوابين الشيخ تقي الدين
فمزجت" بالزاي والجيم من المزج وهو الخلط "الجوابين" أي جوابي ابن الصلاح
"بردهما" للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وقد أفاد
ذلك قوله "قال ابن الصلاح: غير مستنكر أن يراد بالحسن معناه اللغوي دون الاصطلاحي" قد قدمناه تفسير ابن الصلاح اللغوي.
"قال
الشيخ تقي الدين" ردا عليه "يلزم عليه الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ
أنه حسن" إذ قد تميل إليه النفس ولا يأباه القلب مع انه لا يطلق عليه الحسن
عندهم فلو أرادوا المعنى اللغوي لأطلقوا الحسن على الموضوع قال الحافظ ابن
حجر هذا الإلزام عجيب لأن ابن الصلاح إنما فرض المسألة حيث يقول القائل
حسن صحيح فحكمه بالصحة يمتنع معه أن يكون موضوعا.
"قال ابن الصلاح: وهو
جوابه الأول" كما عرفته مما سقناه من كلامه أو يريد أي الترمذي ونحوه
بالحسن "لما اختلف سنده فهو صحيح بالنظر إلى إسناد حسن بالنظر إلى إسناد
آخر قال الشيخ تقي الدين" رادا عليه "ويرد عليه الأحاديث التي قيل فيها حسن
صحيح وليس لها إلا مخرج واحد" أي سند واحد فلا يتم الجواب قال الشيخ تقي
الدين "وفي كلام الترمذي في مواضع يقول هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من
هذا الوجه" فهو تصريح بأنه لا يعرف له إلا طريق واحد فكيف يتم الاتصاف
بالأمرين لإسناد واحد؟ وذلك "كحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي
هريرة إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا قال فيه الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا
من هذا الوجه على هذا اللفظ" وحينئذ فلا يتم ما أجاب به ابن الصلاح.
"قلت: يمكن الجواب على الشيخ تقي الدين في هذا الاعتراض" أي على مجرد ما مثل به وغيره بأجوبة:
الأول
: "بأن الترمذي أراد انه لا يعرف الحديث بذلك اللفظ كما قيد به في هذا
المثال, و" أراد أنه "قد ورد معناه بإسناد آخر" أخذا من مفهوم قوله على هذا
اللفظ.
و الثاني : قوله: "أو يريد" أي الترمذي بقوله لا نعرفه إلا من
هذا الوجه "من ذلك الوجه كما يصرح به في غير حديث" أي لا نعرفه حسنا صحيحا
إلا من هذا الوجه ونعرفه من وجه آخر بغير تلك الصفة مثل أن يكون الحديث
صحيحا غريبا الأمن هذا الوجه وتعرفه من وجه آخر بغير تلك الصفة "مثل أن
يكون الحديث صحيحا غريبا من حديث أبي هريرة أو من حديث تابعي أو من دونه"
فيقول لا نعرفه أي صحيحا غريبا إلا من هذا الوجه "ويكون صحيحا" أي حديث
التابعي أو غيره "مشهورا من غير تلك الطريق" ولا تنافي بين الصحة والغرابة
بهذا الاعتبار.
و الثالث : قوله: "أو يردوا انه لا يعرف الحديث عن ذلك الصحابي الذي رواه عنه
إلا
بذلك الإسناد" فقوله لا يعرف إلا من هذا الوجه أي عن ذلك الصاحبي "وله
إسناد آخر عن صحابي آخر" يصح به وصفه بالصحة والحسن "وهذا" أي رواية صحابي
آخر بإسناد آخر يصحبه وصفه الصحة والحسن وهذا أي رواية صحابي آخر بإسناد
آخر "هو المسمى بالشاهد" فإنه شاهد لهذا الحديث الذي تفرد بروايته صحابي
بإسناد له "وإنما عدم التابع وهو روايته" أي ذلك الحديث بعينه "عن ذلك
الصحابي" من طريق أخرى فالفرق بين الشاهد والتابع انه في الأول يختلف
الصحابي والطريق و الثاني تختلف الطريق ويتحد الصحابي وسيأتي تحقيقهما.
"وقد
عرف من طريقة المحدثين تسمية الحديث المروي عن صحابيين بحديثين وان كان
لفظه أو معناه واحدا فلما اصطلحوا على ذلك رأي الترمذي أن ذلك الشاهد حديث
آخر ليس هو هذا الحديث" وان اتحد لفظا أو معنى "إذ لا دليل على أن
الصحابيين" اللذين روياه "سمعاه مرة واحدة من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم" بل يجوز انه صلى الله عليه وسلم كرره في مجالس فسمع كل في مجلس غير
مجلس الآخر فعدوه حديثين باعتبار تكرره منه صلى الله عليه وسلم ولا يخفي
انه لا دليل على انهما سمعاه كل واحد في مجلس بل هو محتمل لاتحاد المجلس
ولتعدده فالحكم له بأحدهما تحكم.
"ثم أجاب الشيخ تقي الدين في الاقتراح
بعد رد الجوابين" اللذين أجاب بهما ابن الصلاح "المذكورين" فيما تقدم
تقريبا "بجواب" على الإشكال في جمع الترمذي مثلا بين الوصفين "حاصله أن
الحسن لا يشترط فيه القصور من الصحة" وهذا دفع لعلة الإشكال لأنه قال
المصنف والزين ويغرهما أن وجه إشكال وصف الحديث بالحسن والصحة معا هو قصور
الحسن عن الصحيح فمنع الشيخ تقي الدين كون العلة القصور لا مطلقا ولذا قال
"إلا حيث انفرد الحسن فإن بالحسن حينئذ" أي حين إذ يفرد الحسن عن الصحة في
صفة الحديث "المعنى الاصطلاحي" في الحسن وهو الذي يلزمه القصور عن رتبة
الصحيح "وأما أن ارتفع" أي الحديث "إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة
تبعا للصحة" لوجود صفاته في ضمن صفاتها "لأن وجود الدرجة العليا" وهي الصحة
التي هي عبارة عما ذكره بقوله "وهي الحفظ والإتقان لا تنافي وجود الدرجة
الدنيا" التي هي صفة الحسن التي هي "كالصدق" وخفة الضبط وإذا لم تنافه
"فيلزم أن يقال" في صفة الحديث "حسن باعتبار الصفة الدنيا" ويقال فيه "صحيح
باعتبار الصفة العليا" ولا يخفي أن معنى كونه حسنا اصطلاحا أن رواته ممن
خف ضبطهم وكونه
صحيحا أيضا أن رجاله مناهل الضبط التام ومعلوم انه لا يقال صحيح إلا وهم من آهل الضبط التام فكيف تلاحظ خفة الضبط؟.
وحاصله
أن لازم الحسن خفة ضبط رواته ولازم الصحيح تمام ضبط رواته أي عجم خفته فما
معنى وجود لازم الحسن فيمن تم ضبطه وإتقانه فإن أريد هذا اللازم للحسن غير
مراد هنا كما يفيده قوله أن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة فهو عائد
إلى أن المراد بالحسن الصحيح وان قوله حسن صحيح بمثابة قوله صحيح ولكنه لا
يناسبه قول الشيخ تقي الدين لان وجود الدرجة العليا لا تنافي وجود الدرجة
الدنيا فإنه على هذا التقدير ما عديمه إلا الدرجة العليا لتنافى وجود
الدرجة الدنيا فإنه على هذا التقدير ماعدتمة إلا الدرجة العليا ويؤيد كون
هذا الأخير مراده قوله "قال ويلزم على هذا" أي على عدم اشتراط قصور الحسن
عن الصحة "أن يكون كل صحيح عنده" أي عند الترمذي "حسنا" فعلى هذا الحسن
عندهم ثلاثة أطلا قات تارة يطلق على ما يطلق عليه الصحيح ويشترط فيه شرائط
وتارة ما خف ضبط رواته وهو الحسن لذاته وتارة على ما حسنه بالقياس إلى
غيره.
قلت: وهذا خلاف ما تقرر فيما سلف أن الترمذي ربما أتى في كتابه بالحسن لغيره كما صرح به كلامه المنقول عنه فيما سلف.
"ويؤيده"
أي يقوي إطلاق الحسن على الصحيح "قولهم حسن في الأحاديث الصحيحة وهذا
موجود في كلام المتقدمين انتهى" كلام ابن دقيق العيد الذي نقله عنه الزين
في شرح ألفيته.
"وقد وافقه" أي الشيخ تقي الدين "على هذا" الذي زعمه من
أن كل صحيح عند الترمذي حسن الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر "ابن
المواق" بتشديد الواو وآخره قاف "فإنه قال: وكل صحيح عند الترمذي حسن وليس
كل حسن صحيحا قلت: تلخيص هذا أن الحسن يدخل تحت الصحيح دخول النوع تحت
الجنس كالإنسان تحت الحيوان" قلت: لا يذهب عنك أنه قد تقدم في كلام الشيخ
تقي الدين أن الصحيح أخص من الحسن قال الشيخ تاج الدين التبريزي ودخول
الخاص في حد العام أمر ضروري.
وقال زين الدين: أنه اعتراض متجه ونظره
المصنف بما تقدم له ورددناه وهنا قال المصنف أن الحسن يدخل تحت الصحيح دخول
الإنسان تحت الحيوان فجعل الحسن
خاصا والصحيح عاما والذي تقدم خلاف
هذا هو أن الصحيح أخص لأنه الحسن وزيادة كالإنسان فإنه الحيوان وزيادة
وعبارتهم هنا قاضية بأخصية الصحيح فإنه قال أن كل صحيح حسن كما تقول كل
إنسان حيوان فكان المتعين أن يقول المصنف أن الحسن يدخل تحته الصحيح
بالضمير في تحته فيستقيم الكلام ويدل له قوله "وقد تقدم فيه نظر" يشير إلى
ما تقدم له من قوله ردا على الزين لما قال أن اعتراض تاج الدين متجه.
قلت:
بل هو اعتراض غير متجه لأن العموم والخصوص إنما نقع على الحقيقة في الحدود
إلى آخر كلامه وتقدم ما تعقبناه به "وهو غير وارد هنا لأنه" أي الذي مضى
"إشكال على صحة هذا" أي هذا القوم بالعموم والخصوص في رسوم هذه الأقسام "لا
على صحة التسمية" التي هي المراد هنا "ممن اعتقد صحة هذا" أي العموم
والخصوص في هذه الرسوم كأنه يريد أن هذه التسمية تفرعت عن اعتقاد العموم
والخصوص في رسوم هذه الأشياء فلا يرد الإشكال على الفرع على من اعتقد صحة
الأصل "وهذا لطيف" جدا "فتأمله وأورد" أبو الفتح اليعمري هو "ابن سيد
الناس" على ابن المواق كما صرح به زين الدين والمصنف قال "على هذا" وهو ما
سلف عن ابن دقيق العيد وابن المواق "أن الترمذي شرط في الحسن أن يروى من
وجه آخر ولم يشترط ذلك في الصحيح فانتفى أن يكون كل صحيح حسنا انتهى" .
قال الحافظ ابن حجر وهو تعقب وارد ورد واضح على من زعم التداخل بين النوعين.
قلت:
تقدم للمصنف الرد على ابن المواق بأن الترمذي يشترط في رجال الصحيح من قوة
العدالة وقوة الحفظ والإتقان ما لا يشترط في رجال الحسن إلى آخر كلامه
فأفاد أنه لا يقول الترمذي كل صحيح حسن.
"قال زين الدين: فعلى هذا" أي
على كون كل صحيح حسن "الأفراد الصحيحة" أي التي لم ترو إلا من وجه واحد
"ليست حسنة عند الترمذي" لأنها لم ترو من وجه آخر وهو شرط الحسن عند
الترمذي وذلك "كحديث الأعمال بالنيات" فإنه فرد بالنسبة إلى أول رتبة منه
وما بعدها من رتبة فإنه تفرد به عنه صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ثم
تفرد به عم عمر علقمة واستمر التفرد إلى يحيى بن سعيد "و" حديث "السفر قطعة
من العذاب" فإنه تفرد به مالك "و" حديث "نهى عن بيع الولاء وعن هبته" فإنه
تفرد به
عبد الله بن دينار.
"قال" أي زين الدين "وجواب ما اعترض
به" أي ابن سيد الناس "أن الترمذي إنما يشترط ذلك في الحسن" أي مجيء الحسن
من وجه آخر "إذا لم يبلغ مرتبة الصحيح فإن بلغها لم يشترط ذلك" فليس شرطه
ذلك في الحسن مطلقا "بدليل قوله" أي الترمذي "في مواضع" من جامعه "هذا حديث
حسن صحيح غريب فلما ارتفع إلى" رتبة "الصحة اثبت" له "الغرابة باعتبار
فرديته" انتهى كلام الزين فهذا صريح في أنه يصف الحديث بأنه حسن إذا بلغ
رتبة الصحيح وأن لم يأت إلا من وجه واحد قال المصنف "وعندي جواب آخر" يوجه
به جمع الترمذي بين الحسن والصحة في صفة حديث واحد "وهو أن يريد الترمذي أن
الحديث صحيح في إسناده ومتنه" مبتدأ خبره "حسن في الاحتجاج به على ما قصد
الاحتجاج به فيه ويكون هذا الحسن هو الحسن اللغوي دون الاصطلاحي" .
تقدم
تفسير الحسن اللغوي بأنه ما تميل إليه النفس ولا يأباه القلب وهو صفة
اللفظ وليس مدلولها الاحتجاج به ولا يرد على هذا ما أورده الشيخ تقي الدين
على ابن الصلاح حيث حمل الحسن على اللغوي وهو "من لزوم تحسين الموضوع لأن
الموضوع" وأن كان قد يكون حسنا لغة لكنه "لا يحسن الاحتجاج به لأن ابن
الصلاح أطلق الحسن اللغوي" وقد قيده المصنف به لإخراج الموضوع "ولم يقيده"
ابن الصلاح "بحسن الاحتجاج فورد على إطلاقه والله أعلم" .
قلت: إلا أنه
لا يخفى أن زيادة قيد حسن الاحتجاج ليس من مدلول الحسن اللغوي كما أشرنا
إليه فهذا معنى للحسن آخر ليس لغويا ولا هو الاصطلاحي المعروف وقال الحافظ
ابن حجر نقلا عن غيره وقيل يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين
مختلفين وهما الإسناد والحكم فيريد حسن باعتبار إسناده صحيح باعتبار كونه
من قبيل المقبول وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة.انتهى.
"وهذا
الجواب عندي أرجحها لأنه لا يرد عليه شيء من الإشكالات" إلا ما عرفته من
أنه ليس مدلوله ذلك لغة وكذلك يرد عليه أنه كان الحديث صحيح الإسناد ولامتن
فالاحتجاج به معلوم لا يفتقر إلى ذكره ولأنه لم يأتي في اصطلاحهم وصف
الحديث بالحسن مرادا به حسن الاحتجاج به ولا يحمل كلامهم إلا على اصطلاحهم,
ولأنه
قد يكون الحديث صحيح الإسناد والمتن ويخلو عن الحسن اللغوي بأن يكون لفظه
غريبا فإن الغريب لا تميل إليه النفس ثم أنه كان الأولى على تقدير إرادة ما
ذكره المصنف أن يقال صحيح حسن لا حسن صحيح لأن الاحتجاج فرع عن صحته.
"فإن
قيل: يرد عليه" أي على هذا الجواب "أنه يلزم منه أن يقول" أي الترمذي "في
الحديث الحسن هذا حديث حسن حسن مرتين أحدهما يعني بها الحسن الاصطلاحي
والأخرى يعني بها الحسن اللغوي" قد عرفت مما سلف أن الإشكال وارد على جمع
الوصف للحديث بين صفتي الحسن والصحة وأنه أجاب المصنف بأن المراد بالحسن
الاحتجاج به وبالصحة صحة إسناده لو متنه حسن للاحتجاج به وهذا السؤال وارد
على انفراد بصفة الحسن أو ليس فيه إشكال ومعلوم أنه لا يريد أن السؤال هذا
وارد على محل الإشكال وأنه يريد أنه يلزم أن يقال حديث حسن صحيح واحتمال
إرادته هذا تكلف.
"فالجواب أنه يجوز أن يريدهما" أي الحسن اللغوي
والاصطلاحي "بلفظ واحد كما لو صرح بذلك فقال هذا حديث إسناده والاحتجاج به"
قد عرفت أن الاحتجاج به ليس معناه اللغوي "لأن الحسن الاصطلاحي بعض أنواع
الحسن اللغوي" قد ينازع في هذا ويقال بينهما عموم وخصوص من وجه لوجود الحسن
اللغوي في الموضوع ووجود الحسن الاصطلاحي فيما كان في لفظه غرابة
واجتماعها فيما حسن إسناده وفيما تميل النفس إليه ولا يأباه القلب "وليس
الحسن مشتركا بينهما مع أن كثيرا من العلماء أجازوا في المشترك" لو فرضناه
مشتركا بينهما "أن يعبر به عن كلا معنييه وهو اختيار الأصحاب" يريد الزيدية
وعبر ذلك هنا وفيما سلف وقدمنا رأيه في هذا "في لفظة مولي في حديث من كنت
مولاه فعلى مولاه" أخرجه جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم من حديث
ابن عباس وابن أبي شيبة وأحمد من حديث ابن عباس عن بريدة وأحمد وابن ماجه
عن البراء والطبراني وابن جرير وأبو نعيم عن جندع الأنصاري وابن قانع عن
حبشي بن جنادة وأخرجه أئمة لا يأتي علهم العد عن جماعة من الصحابة وقد عده
أئمة من المتواتر "وهذا بحث أصولي" أي كون المشترك يطلق على معنييه أولا
فإنه من مسائل الخلاف في الأصول الفقهية لكن لا يخفى أن هذا يتوقف على
معرفة رأي الترمذي في اللفظ المشترك.
واعلم أنه قد أجاب الحافظ ابن
حجر جوابا حسنا عن جمع الترمذي بين صفتي الحسن والصحيح للحديث فقال في
النخبة وشرحها فإن جمعا فالمتردد في الناقل هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو
قصر عنها وهذا حيث التفرد بتلك الرواية وألا يحصل التفرد فباعتبار إسنادين
أحدهما حسن والآخر صحيح قال وعلى هذا فما قيل حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح
فقط إذا كان فردا لأن كثرة الطرق تقوي أي تقوي الحديث من رتبة الصحيح إلى
رتبة الأصح.
"ثم أني بعد" أي بعد ما ذكرت ما سلف فحذف المضاف إليه وبنيت
بعد على الضم "وقفت على كلام جيد يتعين المصير إليه" إلا أنه كلام في وصف
الترمذي للحديث بالحسن وليس له إلا طريق واحد مع قول الترمذي في الحسن إنه
الذي يروي من غير وجه مع سائر ما ذكر من شروطه مع أنه يقول في بعض الأحاديث
حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه لا أنه كلام في إشكال جمعه بين الحسن
والصحيح الذي هو الإشكال الأصلي وقد أجاب عنه ابن حجر بأجوبة آخر وما
تعقبها ثم قال وفي الجملة أقوى الأجوبة جواب ابن دقيق العيد "ذكره" أي
الكلام الجيد "حافظ العصر" أي عصره وعصر المصنف فإنهما كانا في عصر واحد
وتوفي المصنف قبله فإنه توفي في اليوم الرابع والعشرين من شهر محرم غرة سنة
أربعين وثمانمائة وتوفي الحافظ في اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة
اثنين وخمسين وثمانمائة "العلامة الشهير بابن حجر في شرح مختصره" يريد شرج
النخبة "في علم الحديث فقال ما لفظه فإن قيل قد صرح الترمذي بأن شرط الحسن
أن يروي من غير وجه فكيف يقول في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من
هذا الوجه" فإن هذا ينقضي بأن هذا الحسن لم يرد إلا من طريق واحد كما هو
شرط الغريب.
"فالجواب أن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقا" بما نقله عنه
المصنف قريبا ناسبا له إلى ابن حجر "وإنما عرف بنوع خاص منه وقع في كتابه
وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى" مضمومة إليه من صحيح وغريب فلا يرد
ما أورده ابن سيد الناس اليعمري من إيراده الذي سلف قريبا "وذلك فإنه يقول
في بعض الأحاديث حسن وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب وفي بعضها حسن صحيح
غريب إلى آخر الأقسام" اختصر المصنف عبارة ابن حجر وعبارته هكذا وفي بعضها
حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب وفي بعضها حسن صحيح غريب "وتعريفه" أي
الترمذي "إنما
وقع على الأول" وهو حيث يفرد الحسن هذا كلامه ثم قال
"وعبارته" أي الترمذي "ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه وما قلنا في
كتابنا حديث حسن فإنما أرادنا بأن حسن إسناده عندنا وكل" استئناف وهو هكذا
في الترمذي وفي شرح النخبة نفلا عن الترمذي لأن كل إلى آخره "حديث" يروى
"ولا يكون راويه متهما بكذب" لفظ الترمذي ولا يكون في إسناده من يتهم
بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروي إلى آخره فوقع تقديم وتأخير وإبدال فيما
نقل من عبارته كأنه نقل بالمعنى "ويروى من غير وجه" أي بل من اوجه كثيرة
والمراد فوق الواحد "نحو ذلك ولا يكون شاذا" تمامه فهو عندنا حديث حسن وما
كان يحسن حذف المصنف له لأنه خبر قوله كل حديث.
ثم قال الحافظ بعد هذا
فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو
حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريفه كما لم يعرج على تعريف ما
يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط وكأنه ترك ذلك استغناء به لشهرته عند أهل
هذا الفن واقتصر على تعريف ما يقول في كتابه حسن فقط لغموضه وأما لأنه
اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله عندنا ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل
الخطابي.
وبهذا التقرير يندفع كثير من الإيرادات التي طال البحث فيها
ولم يسفر وجه توجيهها انتهى كلام الحافظ وهو حسن إلا أنه مبني على أنه لم
يقل الترمذي حسن فقط إلا في حديث يرويه من وجوه فليطالع الترمذي وقد تتبعت
مواضع فوجدت كلام الحافظ في إفراده الحسن صحيحا ولم استوف ذلك.
* * *
مسألة:
22 [في بيان القسم الثالث: وهو الحديث الضعيف]"القسم الثالث" من الثلاثة
الأقسام وقد تقدم الصحيح والحسن وهذا القسم "في الضعيف قال ابن الصلاح: ما
لم يجمع صفات الصحيح ولا صفات الحسن فهو ضعيف قال زين الدين" تعقبا له "ذكر
الصحيح غير محتاج إليه في بيان الضعيف لأن ما قصر عن الحسن فهو عن الصحيح
أقصر" وأجاب عن ذلك بعض من عاصر الحافظ ابن حجر فقال مقام التعريف يقتضي
ذلك إذا لا يلزم من عدم وجود وصف الحسن عدم وجود وصف الصحيح إذ الصحيح
بشرطه السابق لا يسمى حسنا فالترديد متعين قال ونظيره قول النحويين إذا عرف
الحرف بعد تعريف الاسم والفعل فالحرف ما لا يقبل شيئا من علامات الاسم ولا
من علامات الفعل انتهى.
وأقول: النظير غير مطابق لأنه ليس بين الاسم
والفعل والحرف عموم ولا خصوص بخلاف الصحيح والحسن فقد قررنا فيما مضى أن
بينهما عموما وخصوما وأنه يمكن اجتماعهما وانفراد كل منهما بخلاف الاسم
والفعل والحرف.
والحق أن كلام المصنف يعني ابن الصلاح معترض وذلك أن
كلامه يقتضي أن الحديث حيث تنعدم فيه صفة من صفات الصحيح يسمى ضعيفا وليس
كذلك لأن تمام الضبط مثلا إذا تخلف صدق أن صفات الصحيح لم تجتمع ويسمى
الحديث الذي اجتمعت في الصفات سواء حسنا ولا ضعيفا وما من صفة من صفات
الحسن إلا وهي إذا انعدمت كان الحديث ضعيفا ولو عبر بقوله حديث لم تجتمع
فيه صفات القبول لكان اسلم من الاعتراض وأخصر انتهى.
"وإن كان بعضهم
يقول أن الفرد الصحيح لا يسمى حسنا على رأي الترمذي فقد تقدم رده" هذا من
كلام زين الدين دفعا لما يقال لو اقتصر ابن الصلاح على قوله ما لم يبلغ
صفات الحسن للزم أن يدخل الفرد الصحيح في رسم الضعيف لأنه لم يبلغ
صفات الحسن فلذا لم يسم حسنا فأجاب زين الدين بأنه قد تقدم رد هذا وأنه يسمى الفرد الصحيح حسنا.
"قلت:
لا اعتراض على ابن الصلاح فإنه لا يلزمه أن يحد الضعيف على رأي غيره وإنما
كان يرى أن كل صحيح حسن أو كان الدليل على أن كل صحيح حسن قاطعا ملتزما
لكل مكلف أن يسميه بذلك" قد عرفت أن زين الدين قال في اعتراضه أن ذكر دعم
بلوغ الحديث رتبة الحسن يفيد أنه لم يبلغ درجة الصحيح لأن الصحيح أخص من
الحسن وإذا انتفي الأعم انتفى الأخص ضرورة انتفاء الأخص عند انتفاء الأعم
والمصنف اعترضه بأنه لا يرد على ابن الصلاح ما أورده إلا بأحد الأمرين
الأول أن يكون رأي ابن الصلاح أن كل صحيح حسن أو بأن يقوم على ذلك دليل
قاطع ولم يوجد الأمرين كما أفاده قوله "وليس كذلك" أي ليس واحد من الأمرين
موجودا "وإنما هذا الكلام في اصطلاح أهل الأثر ولم يصطلحوا كلهم على أن كل
صحيح حسن" هذا كلام جيد إلا أن الذي تفيده عبارة ابن الصلاح أنه يقول بأن
الصحيح أخص من الحسن فإنه قد تقدم عنه انه قسم الحسن إلى قسمين وأفاد فيما
ذكره أخصية الصحيح ثم قال في آخر كلامه ومن أهل الحديث من لا يفرد نوع
الحسن ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به وهذا مع
ما فصله هنالك يقضي بأن ابن الصلاح رأيه رأي من يقول بأن كل صحيح حسن فيتم
الاعتراض عليه على أنه وان سلم أنه يقول أن الصحيح والحسن متحدان
فالاعتراض وارد عليه لا غناء ذكر أحدهما عن الآخر.
"فهذا كلام جملي في
تعريف الضعيف وأما التفضيلي فتقول شروط الصحيح والحسن ستة" وهي الضبط
والعدالة والاتصال وفقد الشذوذ وفقد العلة وعدم العاضد عند الاحتياج كذا
عدها البقاعي وهي شروط القبول وشروطه شروط الحسن والصحيح "فإذا اختل شرط
منها فأكثر ضعف الحديث" .
فلت يشكل هذا بما إذا قدم تمام الضبط فإنه من
شروط الصحيح وإذا فقد بأن خف صار الحديث حسنا وعبارة الزين أقسام الضعيف ما
فقد فيه شط من شروط القبول قسم وشروط القبول هي شروط الصحيح والحسن انتهى
فلا إشكال في عبارته ولا يرد عليه ما ذكرنا لأنه إذا خف الضبط فالحديث
مقبول لأنه حسن فلا يكون الحديث ضعيفا على هذا الكلام إلا إذا فقد فيه شروط
الصحيح وشروط
الحسن ولا يشكل.
"فالضعيف باعتبار اختلال شرط من شروطهما ستة أسباب :
أحدها:
عدم الاتصال" الذي هو أول شروط الصحيح زاد الزين حيث لم يتميز المرسل بما
يؤكده وكأن المصنف اكتفى عن هذا الشرط بقوله "على الخلاف كما سيأتي" في بحث
المرسل.
"وثانيها: عدم عدالة الرجال" وهو ثاني شروط الصحيح قلت: وهذه
عبارة الزين وكان الأحسن أن يقال الرواة ليشمل النساء تغليبا ولا يتأنى ذلك
في لفظ الرجال.
"وثالثها: عدم سلامتهم من كثرة الخطأ وكثرة الغفلة"
وهذه عبارة الزين وقال الحافظ ابن حجر بل التعبير هنا باشتراط الضبط أولى
انتهى قلت: وجهه أنه يوافق ما سلف في رسم الصحيح من قولهم نقل عدل ضابط.
"ورابعها: عدم مجيئه من وجه آخر حيث كان في الإسناد مستور لم تعرف أهليته وليس متهما بالكذب" عبارة الزين وليس متهما بالغلط.
قال
الحافظ ابن حجر وكذا إذا كان فيه ضعف بسبب سوء الحفظ أو كان في الإسناد
انقطاع خفيف أو خفي أو كان مرسلا كما قررنا ذلك في الكلام الحسن المجبور.
"وخامسها: الشذوذ" .
"وسادسها: العلة" وسيأتي بيان معنى الشذوذ والعلة.
"والضعيف
باعتبار هذه الأسباب أقسام كثيرة" قال الحافظ ابن حجر تلخيص التقسيم
المطلوب أن قيد الأوصاف راجع إلى ما في راويه طعن أو في سنده سقط فالسقط
إما أن يكون في أوله أو في آخره أو في أثنائه وبيانه في كلام المصنف "لأن
عدم الاتصال" أي اتصال الحديث بالراوي "يدخل تحت قسمان: المرسل" زاد زين
الدين الذي لم يجبر "والمنقطع على الخلاف فيهما كما سيأتي" بل ويدخل فيه
المدلس والمعلق والمعلل "وما انضم إليه سبب آخر مع السبب المتقدم" وهو عدم
الاتصال "قسم آخر" باعتبار ما انضم إلى الأول "ويدخل تحته" تحت هذا القسم
"اثنا عشر قسما لأن فقد العدالة" الذي هو السبب الثاني: من الستة الأسباب
إذا انضم إلى السبب الأول "يدخل فيه الضعيف" إذ الضعيف مفقود العدالة
"والمجهول" فإنه مفقودها أيضا "وهذه أقسامه" أي أقسام القسم الذي انضم إليه
سبب آخر من الأسباب الستة بعد عدم الاتصال وهي
اثنا عشر:
"الأول: المنقطع" ويقال له المقطوع كما يأتي وهو قول التابعي وفعله.
"الثاني:
المرسل" يأتي أنه قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عند
أكثر المحدثين ويأتي فيه خلاف فهذان قسمان فقد فيهما الاتصال.
"الثالث: مرسل في إسناده ضعيف" هذا مما انضم إليه سبب آخر مع السبب المتقدم ومثله.
"الرابع: منقطع فيه" راو "ضعيف" يأتي بيانه.
"الخامس: مرسل فيه" راو "مجهول" يأتي تقسيمه إلى مجهول عين وعدالة.
"السادس منقطع فيه" راو "مجهول" إلى هنا أقسام فقد السبب الأول مع فقد الثاني.
وهذه أقسام فقد السبب الأول أيضا مع فقد الثالث: الأول منها قوله:
"السابع مرسل فيه" راو "مغفل" يأتي بيانه "كثير الخطأ وإن كان عدلا" إذا لا ملازمة بين العدالة وعدم التغفيل.
"الثامن" وهو الثاني مما فقد فيه الأول و الثالث "منقطع فيه مغفل كذلك" أي كثير الخطأ وإن كان عدلا.
"التاسع" وهو الأول مما فقد فيه الأول الرابع "مرسل فيه مستور" يأتي بيانه "ولم ينجبر بمجيئه" أي الخبر "من وجه آخر" .
"العاشر" وهو الثاني مما فقد فيه الأول والرابع "منقطع فيه مستور ولم يجيء من وجه آخر" .
"الحادي عشر" وهو الأول مما فقد فيه الأول ووجد فيه الخامس "مرسل شاذ" .
"الثاني عشر" وهو الثاني مما فقد فيه الأول ووجد في الخامس "منقطع شاذ" .
"الثالث عشر" هو الأول مما فقد فيه الأول ووجد فيه السادس "مرسل معل" من العلة يأتي بيانها.
"الرابع عشر" وهو الثاني مما فقد فيه الأول ووجد فيه السادس "منقطع معل" .
"فهذا ما اجتمع فيه سببان مضعفان" هما عدم الاتصال وما انضم إليه.
واعلم
أنها أربعة عشر قسما لأنك تضم عدم الاتصال إلى كل واحد من الخمسة الأسباب
تحصل خمس صور ثم تضم المنقطع إلى كل واحد من الخمسة تحصل خمس
أخرى
كانت عشرا ثم قد عرفت أن الضعيف والمجهول قد دخلا تحت فقد العدالة فتضم عدم
الاتصال إليهما يحيصل قسمان ثم تضم المنقطع إليهما يحصل قسمان كانت أربعة
عشر وهي التي سردها المصنف.
إذا عرفت هذا نظرت ما المراد من قول المصنف
إنه يدخل تحت هذا القسم اثنا عشر فإن الحاصل أربعة عشر وعبارة المنصف
والأعداد هي بعينها عبارة الزين وأعداده.
"وما اجتمع فيه ثلاثة" مضعفات
"يدخل تحته عشرة أقسام وهي هذه" ما عدا أربعة منها "مضمومة" في التعداد
"إلى ما تقدم" من الصور الأربعة عشر أولها:
"الخامس عشر" مرسل شاذ وفيه عدل مغفل كثير الخطأ" فقد فقد فيه الأول من الستة الأسباب و الثالث: ووجد فيه الخامس من ذي الثلاثة.
"السادس عشر: منقطع شاذ فيه مغفل كذلك" أي كثير الخطأ فقد فقد فيه الأول و الثالث: ووجد فيه ما وجد في المثال الأول- الخامس عشر.
"السابع عشر مرسل معل فيه ضعيف" فقد فقد فيه الأول و الثاني: ووجد فيه السادس.
"الثامن عشر منقطع معل ضعيف" هو كالذي قبله فقدا ووجودا وإنما خالفه بأنه منقطع.
"التاسع عشر: مرسل معل فيه مجهول" فقد فقد الأول و الثاني: ووجد فيه السادس.
"العشرون: منقطع معل فيه مجهول" هو كالذي قبله فقدا ووجودا وإنما تفاوتا انقطاعا وإرسالا.
"الحادي والعشرون: مرسل معل فيه مغفل كذلك." أي كثير الخطأ فقد فيه الأول ووجد فيه الثالث: والسادس.
"الثاني والعشرون: منقطع معل فيه مغفل كذلك" هو كالذي قبله فقدا ووجودا.
"الثالث والعشرون: مرسل معل فيه مستور ولم ينجبر" فقد فيه الأول ووجد السادس والرابع مع شرطه.
"الرابع والعشرون: منقطع معل فيه مستور كذلك" أي لم ينجبر بمجيئه من وجه آخر وهو كالذي قبله فقدا ووجودا.
لا
يخفى أنه قد سبق للمصنف أن في اجتماع الثلاثة عشر صور والرابع والعشرون
العاشر منها لكن الخامس والعشرون السادس والعشرون منها كما ترى قوله:
"الخامس والعشرون: مرسل شاذ معل" فقد فيه الأول ووجد فيه الخامس والسادس.
"السادس والعشرون منقطع شاذ" معل هو كالأول فيما ذكر.
ولا
يخفى أنها صار أقسام ما اجتمع فيه ثلاثة اثني عشر قسما وأما زين الدين فعد
العشر الصور إلى الرابع والعشرون ثم قال وهكذا فافعل إلى آخر الشروط فخذ
ما فقد فيه شرط الأول وهو الاتصال مع شرطين آخرين غير ما تقدم وهما السلامة
من الشذوذ والعلة ثم خذ ما فقد فيه شرط آخر مضموما إلى فقد هذه الشروط
الثلاثة وهي هذه ثم ذكر الخامس والعشرين والسادس والعشرين والسابع والعشرين
والثامن والعشرين.
"السابع والعشرون: مرسل شاذ معل فيه مغفل كثير الخطأ" فهذا اجتمعت فيه أربعة كما اجتمعت في قوله.
"الثامن
والعشرون: منقطع شاذ معل فيه مغفل كذلك" أي كثير الخطأ فهذان مثالان لما
اجتمعت فيه أربعة وقدمنا كلام الزين في هذا وأما المصنف فسرد ما تراه من
غير تنبيه.
ثم قال زين الدين: بعد هذا ثم عد فابدأ بما فقد فيه شرط واحد غير ما بدأت به أولا وهو ثقة الراوي وتحته أقسام وهما:
"التاسع والعشرون: ما في إسناده ضعيف" .
"الثلاثون: ما فيه مجهول" فهذان القسمان فقد فيها عدالة الراوي.
ثم قال زين الدين: ثم زد على فقد عدالة الرازي فقد شرط آخر غير ما بدأت به وتحته قسمان وهما:
"الحادي والثلاثون: ما فيه ضعيف وعلته" .
"الثاني والثلاثون: ما فيه مجهول وعلته" .
ثم
قال زين الدين: ثم كمل هذا العمل الثاني: الذي بدأت فيه بفقد الشرط المثنى
به كما كملت الأول أي تضم إلى فقد هذين الشرطين فقد شرط ثالث ثم عد فابدأ
بما فقد فيه شرط آخر غير المبدوء به والمثنى به وهو سلامة الرازي من الغفلة
ثم زد عليه وجود الشذوذ أو العلة أو هما معا ثم عد فابدأ بما فقد فيه
الشرط الرابع وهو عدم مجيئه من وجه آخر حيث كان في إسناده مستور ثم زد عليه
وجود العلة ثم عد فابدأ بما فقد فيه الشرط الخامس وهو السلامة من الشذوذ
ثم رد عليه وجود العلة بعد ثم
اختم بفقد الشرط السادس ويدخل تحت ذلك عشرة أقسام وهي:
"الثالث: والثلاثون: شاذ معل فيه عدل مغفل كثير الخطأ" .
"الرابع والثلاثون: ما فيه مغفل كثير الخطأ" زاد الدين معل كثير التساهل.
"الخامس والثلاثون: شاذ في مغفل كذلك" أي كثير الخطأ.
"السادس والثلاثون: معل فيه مغفل كذلك" كثير الخطأ.
"السابع والثلاثون: شاذ معل فيه مغفل كذلك" كثير الخطأ.
"والثامن والثلاثون: ما في إسناده مستور لم تعرف أهليته ولم يرو من وجه آخر" .
"التاسع والثلاثون: معل فيه مستور كذلك" أي لم تعرف أهليته ولم يرو من وجه آخر.
"الأربعون: الشاذ" .
"الحادي والأربعون: الشاذ المعل" .
"الثاني والأربعون: المعل" .
"فهذه
أقسام الضعيف باعتبار الانفراد والاجتماع ذكرها الحافظ زين الدين قال: وقد
تركت من الأقسام التي يظن أنه ينقسم إليها بحسب اجتماع الأوصاف عدة أقسام
هي اجتماع الشذوذ ووجود ضعيف أو مجهول أو مستور في سنده لأنه لا يمكن
اجتماع ذلك على الصحيح لأن الشذوذ تفرد الثقة ولا يمكن وصف ما فيه راو ضعيف
أو مجهول أو مستور بأنه شاذ والله أعلم" انتهى كلام زين الدين.
"قلت:
ومن أقسام الضعيف ما له لقب خاص كالمضطرب والمقلوب والموضوع والمنكر وهو
بمعنى الشاذ كما سيأتي" قلت: هذا بلفظ كلام الزين فلا وجه لفصل قوله.
"قال
زين الدين: وعد أبو حاتم محمد بن حبان البستي أنواع" الحديث "الضعيف تسعة
وأربعون نوعا" هذا نقله زين الدين من كلام ابن الصلاح ولفظه وأطنب أبو حاتم
البستي في تقسيمه فبلغ به خمسين قسما إلا واحدا قال عليه الحافظ ابن حجر
لم أقف على كلام ابن حبان في ذلك وتجاسر بعض من عاصرناه فقال هو في أول
كتابه في الضعفاء ولم يصب ذلك فإن الذي قسمه ابن حبان في أول كتاب الضعفاء
له تقسيم الأسباب الموجبة لتضعيف الرواة لا تقسيم الحديث الضعيف ثم إنه بلغ
الأقسام المذكورة عشرين قسما لا تسعة وأربعين والحاصل أن الموضع الذي ذكر
فيه ابن حبان ذلك لم نعرف موضعه انتهى.
"قلت: لعله" أي ابن حبان "عد ما ترك الزين مما تحتمله القسمة العقلية ويمنع عرفهم من اجتماعه والله أعلم" حتى أبلغها تسعة وأربعين.
فائدة: قال الحافظ ابن حجر: تنبيهات :
الأول : قولهم ضعيف الإسناد أسهل من قولهم ضعيف على حد ما تقدم من قولهم صحيح الإسناد وصحيح ولا فرق.
الثاني
: من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا يريد زين الدين في منظومته
وشرحها أن يتفق العلماء على العمل بمدلول الحديث فإنه يقبل حتى يجب العمل
به وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول.
ومن أمثلته قول الشافعي رحمه
الله وما قلت: من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه يروى عن النبي صلى
الله عليه وسلم: من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله ولكنه قول العامة لا أعلم
منهم فيه خلافا وقال في حديث لا وصية لوارث. لا يثبته أهل العلم بالحديث
ولكن العامة تلقته بالقبول وعملت به حتى جعلته ناسخا لآية الوصية للوارث.
ثم
ذكر الثالث : من التبيهات وعد فيه ما قيل فيه إنه أو هي الأسانيد كما عدوا
فيها سلف ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد وطول به فلم يذكره وقد ذكره الحاكم
في كتابه علوم الحديث.
* * *
مسألة: 23 [في بيان الحديث
المرفوع]"المرفوع" قدم على ما بعده لشرفه بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم
وهو من أنواع علوم الحديث جعله ابن الصلاح النوع السادس.
"اختلف في حد
المرفوع فالمشهور أنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قولا له أو
فعلا" قلت: أو تقريرا أو هما كما قررناه في حواشي شرح غاية السول "سواء
أصافه إليه صحابي أو تابعي أو من بعدهما سواء اتصل إسناده أم لا فعلى هذا"
التفسير "يدخل فيه المتصل والمرسل والمنقطع والمعضل" والمعلق أيضا لعدم
اشتراط الاتصال.
"وقال" أبو بكر "الخطيب" البغدادي: المرفوع "هو ما أخبر
فيه الصحابي عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله فعلى هذا" حيث
خصص الصحابي "لا يدخل فيه مراسيل التابعين ومن بعدهم" .
قال الحافظ ابن
حجر مقتضاه يعني كلام الخطيب أن يكون في السياق إدراجها وعند التأمل يتبين
أن الأمر بخلاف ذلك لأن ابن الصلاح لم ينقل عبارة الخطيب بلفظها وبيان ذلك
أن الخطيب قال في الكفاية وصفهم للحديث بأنه مسند يريدون أن إسناده متصل
بين راويه وبين من أسند عنه إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما
أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم: ثم قال والحاصل أن المسند عند الخطيب
ينظر فيه إلى ما يتعلق بالسند فيشترط فيه الاتصال وإلى ما يتعلق بالمتن فلا
يشترط فيه الرفع إلا من حيث الأغلب في الاستعمال فمن لازم ذلك إن الموقوف
إذا اتصل سنده قد يسمى مسندا ففيالحقيقة لا فرق عند الخطيب بين المسند
المتصل إلا في غلبة الاستعمال ثم نقل كلام ابن عبد البر والحاكم ثم قال بعد
ذلك والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم إن المسند
عندهم من سمع النبي
صلى الله عليه وسلم: بسند ظاهره الاتصال فمن سمع
أعم من أن يكون صحابيا مسلما أو في حال كفره وأعلم بعد النبي صلى الله
عليه وسلم: ومن لم يسمع يخرج المرسل وبسند يخرج ما كان بلا سند كقول القائل
من المصنفين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا من قبيل المعلق
وظهور الاتصال يخرج المنقطع لكن يدخل فيه ما كان فيه انقطاع فهو كعنعنة
المدلس والنوع المسمى بالمرسل الخفي فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يسمى
مسندا.
ومن رأي مصنفات الأئمة في المسانيد لم يرها تخرج عن اعتبار هذه
الأمور وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته والمسند ما رواه المحدث
عن شيخ يظهر سماعه منه فلم يشترط حقيقة الاتصال بل اكتفى بظهور ذلك كما
قلت:ه تفقها ولله الحمد وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع وتحصل السالمة من
تداخلها واتحادها إذ الأصل عدم الترادف والاشتراك والله أعلم انتهى.
"قال
ابن الصلاح1: ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى
بالمرفوع المتصل" انتهى كلام ابن الصلاح في هذا النوع وقد ذكر في النوع
الرابع من تفريعات النوع الثامن قوله "ومن المرفوع قولهم عن الصحابي: يرفع
الحديث أو يبلغ به" كحديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به الناس
تبع لقريش2 "أو ينميه" بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم كحديث مالك عن
أبي حازم عن سهل بن سعد كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على
ذراعه اليسرى في الصلاة3 قال أبو حازم لا أعلم إلا أنه ينمى ذلك وهذا هو
معنى نميت الحديث إلى فلان إذا أسندته إليه "أو رواية رفع" أي مرفوع بلا
خلاف كما صرح به النووي وهو تفسير لرفع الحديث.
"قال ابن الصلاح: حكم
ذلك" أي قولهم عن الصحابي يرفع الحديث "عند أهل العلم حكم المرفوع صريحا"
إلا أنه ليس في كلام ابن الصلاح لفظ رفع بل لفظ أو رواية بالتنوين ليس
بعدها لفظ.
قال الحافظ ابن حجر وكذا قوله يرويه أو رفعه أو مرفوعا وكذا قوله:
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 66.
2 مسلم 1451, وأحمد 2/243.
3 المشكاة 898, وفتح الباري 2/224.
رواه وعبارة الزين في نظمه:
وقولهم
يرفعه يبلغ به رواية ينميه رفع فانتبه وقد ذكر ابن الصلاح أمثلة ذلك "قال
زين الدين1: وإن قيلت هذه الألفاظ عن التابعي فمرسل بخلاف قول التابعي من
السنة ففيه خلاف كما يأتي" هذا كلام ابن الصلاح فإنه قال بعد قوله صريحا
قلت: وإذا قال الراوي عن التابعي يرفع الحديث أو يبلغ به فذلك أيضا مرفوع
ولكنه مرفوع مرسل والله أعلم.
تنبيه: ذكر الحافظ ابن حجر إن من أغرب
المرفوع سقوط الصيغة مع الحكم بالرفع مع القرينة كالحديث الذي رويناه من
طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن
عباس أيما عبد حج به أهله ثم عتق فعليه حجة أخرى الحديث رواه ابن أبي شيبة2
من هذا الوجه فزعم أبو الحسن ابن القطان إن ظاهره الرفع آخذه من نهي ابن
عباس عن إضافة القول إليه فكأنه قال لا تضيفوه إلي أضيفوه إلى الشارع لكن
يعكر عليه أمثلة البخاري رواه3 من طريق السفر سعيد بن محمد قال سمعت ابن
عباس يقول يا أيها الناس اسمعوا عني ما أقول لكم واسمعوني ما تقولون ولا
تذهبوا فتقولون قال ابن عباس قال ابن عباس وظاهر هذا أنه إنما طلب منهم
أمثلة يعرضوا عليه قوله ليصححه لهم خشية أمثلة يزيدوا فيه أهله ينقصوه
انتهى.
قلت: بل الظاهر مع أمثلة ابن القطان إذ ليس من طريقة ابن عباس
المألوفة أمثلة يطلب عرض ما حديث به مع كثرة تحديثه ويزيد كلام ابن القطان
قوة أمثلة هذا الحكم الذي ذكره ابن عباس ليس للاجتهاد فيه مسرح فهو من
قرائن الرفع والله أعلم ثم قال تنبيهات قد يقال ما الحكمة في عدول التابعي
عن قول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوها إلى يرفعه وما
يذكر معها قال الحافظ المنذري يشبه أمثلة يكون التابعي مع تحققه بأن
الصحابي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يشك في الصيغة بعينها
فلما لم يمكنه الجزم بما قاله له أتى بلفظ يدل على رفع الحديث.
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 1/64.
2 البيهقي 4/325, والخطيب 8/209.
3 في: مناقب الأنصار: ب 27.
قلت:
وإنما ذكر الصحابي كالمثال وإلا فهو جار حق من بعده ولا فرق ويحتمل أمثلة
يكون من صنع ذلك لطلب التخفيف وإيثار الاختصار ويحتمل أمثلة يكون شك في
ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلم يجزم بلفظ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم كذا بل كنى عنه تحرزا بأيتهما ذكر المصنف ما إذا قال
التابعي عن الصحابي يرفعه ولم يذكر ما إذا قال الصحابي عن النبي يرفعه وهو
في حكم قوله عن الله عز وجل ومثاله الحديث الذي رواه الدار وردي عن عمر بن
أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يرفعه: "إن المؤمن عندي له كل خير يحمدني وأنا انزع
نفسه من بين جنبيه" حديث حسن رواه أهل الصدق أخرجه الدارمي في مسنده1 وهو
من الأحاديث الإلهية وقد افردها جمع بالجمع انتهى.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 النسائي في: الجنائز: ب 13. وأحمد 1/297.
مسألة: 24 [في بيان المسند من أنواع الحديث]"المسند- اختلف فيه" أي في حقيقته "على ثلاثة أقوال" .
الأول
: ما أفاد قوله "فقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد1 هو ما رفع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: خاصة قال وقد يكون متصلا مثل مالك عن نافع عن
ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون منقطعا مثل مالك عن
الزهري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهذا مسند لأنه قد
أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم: وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من ابن
عباس رضي الله عنه انتهى قال زين الدين: فعلى هذا يستوي المسند والمرفوع" .
قال الحافظ ابن حجر: وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في مقابلتهم بين المسند والمرسل يقولون أسنده فلان وأرسله فلان.
والثاني
: ما أفاده قوله "وقال" أبو بكر2 "الخطيب" البغدادي "هو عند أهل الحديث
الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه قال أبو الصلاح واكثر ما يستعمل ذلك
فيا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم" قد
قدمنا لفظ الخطيب في نوع المرفوع وما حققه الحافظ ابن حجر في المسند فقول
ابن الصلاح هذا هو كما قال الحافظ ابن حجر معنى قول الخطيب إلا أمثلة اكثر
استعمالهم هذه العبارة فيما اسند عن النبي صلى الله عليه وسلم: خاصة وتقدم
تحقيقه فالمسند
ـــــــــــــــــــ
1 1/21, 23.
2 أبو بكر الخطيب
البغدادي هو: الحافظ الكبير أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي. قال أبو
إسحاق الشيرازي: يشبه بالدار قطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. مات سنة
463. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/101, وشذرات الذهب 3/311, ووفيات
الأعيان 1/27.
والمتصل سواء لإطلاقهما على كل من المرفوع والموقوف ولكن الأكثر استعمال المسند في الأول كما قاله الخطيب.
والثالث
: وما أفاده قوله "وقال ابن الصباغ: في العدة المسند ما اتصل إسناده فعلى
هذا يدخل فيه المرفوع والموقوف ومقتضى كلام الخطيب أنه ما اتصل إسناده إلى
قائله من كان فيدخل فيه المقطوع" لأنه يصدق عليه أنه اتصل إسناده من رواته
إلى منتهاه "وهو قول التابعي ومن بعده" إذا اتصل إلى أحدهما.
"قال زين
الدين1: وكلام أهل الحديث يأباه وقيل" هذا قول رابع "وهو" أي المسند "ما
رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: بإسناد متصل وبه" أي بهذا القول الرابع
"قطع الحاكم أبو عبد الله" في كتابه علوم الحديث2 فلم يحك فيه غيره "وحكاه
ابن عبد البر قولا لبعض أهل الحديث" هكذا قاله الزين.
وقال الحافظ ابن
حجر أمثلة الحاكم وغيره فرقوا بين المسند والمتصل والمرفوع بأن المرفوع
بنظر فيه إلى حال المتن مع قطع النظر عن الإسناد فحيث يصح إضافته إلى النبي
صلى الله عليه وسلم: كان مرفوعا سواء اتصل إسناده أم لا ومقابله المتصل
فإنه ينظر فيه إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن سواء كان مرفوعا أهله
موقوفا وأما المسند فينظر فيه إلى الحالين معا فيجمع شرطي الاتصال والرفع
فيكون بينه وبين كل من الرفع والاتصال عموم وخصوص مطلق فكل مسند مرفوع ولك
مسند متصل ولا عكس فيهما هذا على رأي الحاكم وبه جزم أبو عمرو الداني
والشيخ تقي الدين في الاقتراح انتهى وقد قدمنا ما قاله الحافظ ابن حجر مما
ظهر في حقيقة المسند بالاستقراء.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 1/57.
2 ص 40.
مسألة:
25 [في بيان المتصل والموصول من أنواع الحديث]"المتصل والموصول" قال
الحافظ ابن حجر ويقال له المؤتصل بالفك والهمز وهي عبارة الشافعي في الأم
في مواضع قال ابن الحاجب في التصريف له هي لغة الشافعي1 انتهى "هما" الأولى
إفراد الضمير لأنه معنى واحد وإنما تعدد لفظه واتحد معناه وهو واحد إذ
عبارة الزين2 المتصل والموصول هو "ما اتصل إسناده إلى النبي صلى الله عليه
وسلم: أو إلى واحد من الصحابة" احتراز عما لم يتصل سنده صلى الله عليه وسلم
ولا بصحابي كما قال.
"وأما أقوال التابعين إذا اتصلت الأسانيد بهم فلا
يسمونها متصلة بل يسمونها مقطوعة قال زين الدين: وإنما يمتنع هذا" أي إطلاق
المتصل على أقوال الصحابة المتصلة الأسانيد "مع الإطلاق فأما مع التقييد
فجائز شائع في كلامهم كقولهم هذا متصل إلى سعيد بن المسيب" بالتقييد يذكر
من اتصل إليه.
"قال ابن الصلاح3: وحيث يطلق المتصل يقع على المرفوع والموقوف" إذ قد اخذ في مفهومه أهله إلى أحد من الصحابة وهو الموقوف.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 لسان العرب 11/727, والنكت 1/303.
2 فتح المغيث 1/58.
3 علوم الحديث ص 40.
مسألة:26 [في بيان الموقوف]"الموقوف: هو ما قصرته" بلفظ الخطاب وهي عبارة زين الدين في نظمه فإنه قال:
وسم
بالموقوف ما قصرته1 "على واحد من الصحابة قولا له أو فعلا" والمراد من
القول هنا ه ما خلا عن قرينة تدل على أن له حكم الرفع كما يأتي والفعل
المجرد فهل يكون له حكم عند من يحتج بقول الصحابي أمثلة لا قال الحافظ ابن
حجر فيه نظر "أو نحوهما" كه يريد ما يعمل أهله يقال في حضرتهم ولا ينكرونه
والحكم فيه أنه إذا نقل في مثل ذلك حضور أهل الإجماع فيكون تقلا للإجماع
وإن لم يكن فإن خلا عن سبب مانع من السكوت والإنكار فحكمه حكم الموقوف
ويكون من باب الإجماع السكوتي "ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم" ولا قامت قرينة على رفعه "سواء اتصل إسناده إلى أو لم يتصل" قال
الحافظ واشترط الحاكم في الموقوف أمثلة يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي
وهو شرط لم يوافقه عليه أحد.
"وقال أبو القاسم" في شرح الألفية أمثلة
القاسم الفورابي يضم الفاء نسبة إلى قرية بهمذان كما في القاموس "من
الخراسانيين الفقهاء" وأطلق فإنه قال الفقهاء "يقولون" الخبر ما كان عن
النبي صلى الله عليه وسلم و "الأثر ما روى عن الصحابة" انتهى.
قال
الحافظ ابن حجر: هذا قد وجد في عبارة الشافعي في مواضع والأثر في الأصل
العلامة زاد غيره وما ظهر على الأرض من مشي الرجل قال زهير2:
والمرء ما عاش ممدود له أثر
ـــــــــــــــــــ
1 1/58/101.
2 لسان العرب 4/6, والنهاية 1/23, وفتح المغيث 1/125.
ونقل
النووي عن أهل الحديث انهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معا ويؤيده
تسمية أبي جعفر الطبري كتابه تهذيب الآثار وهو مقصور على المرفوعات وإنما
يورد فيه الموقوفات تبعا وأما كتاب شرح معاين الآثار للطحاوي فيشتمل على
المرفوع والموقوف أيضا.
"قال زين الدين: هذا مع الإطلاق وأما مع التقييد
فيجوز في حق التابعين فيقولون هذا موقوف على ابن المسيب ونحوه وفي كلام
ابن الصلاح ما يقتضي أنه يجوز مع التقييد في" حق "غير التابعين أيضا فيقال
هذا موقوف على الشافعي ونحوه" فإنه قال وقد يستعمل مقيدا في غير الصحابي
فيقال حديث كذا وكذا وقفه فلان على عطاء أو على طاووس أو نحو هذا.
"ثم
إن الآثار نوعان" هذا زيادة من كلام المصنف لم يذكره ابن الصلاح ولا زين
الدين فكان يحسن أمثلة يعنونه المصنف بلفظه قلت: على قاعدته.
"أحدهما:
ما لا يقال من قبيل الرأي فذكر الإمامان أبو طالب والمنصور بالله عليهم
السلام أنه إذا كان للاجتهاد فيه وجه صحيح أهله فاسد فموقوف وإلا فمرفوع
وهو قول الشيخ أبي الحسين البصري والشيخ الحسن الرصاص وحكة ذلك المنصور
بالله" أي عن الشيخين المذكورين "وصاحب الجوهرة" يعني حكاه عنهما "وزاد
المنصور بالله حكايته عن قاضي القضاة واحتج المنصور بالله على ذلك بأنه
مقتضى وجوب تحسين الظن بالصحابة" وأنهم لا يأتون في الأحكام إلا بما هو من
طريق الأحاديث المرفوعة أهله من طريق الاجتهاد. "وذكر جماعة من العلماء
منهم ابن عبد البر أنه" أي ما ليس للاجتهاد فيه وجه صحيح ولا فاسد "في حكم
المرفوع قالوا مثل قول ابن مسعود من أتي ساحرا أهله عرافا" عراف كشداد
الكاهن كما في القاموس وفي النهاية1 أراد بالعراف المنجم والحازي الذي يدعى
علم الغيب وقد استأثر الله به "فقد كفر بما أنزل على محمد2 ترجم عليه
الحاكم في كتاب علوم الحديث" بقوله: "باب معرفة الأسانيد التي لا يذكر
سندها قلت: وهذا المثال مما يظن أنه لا مدخل للرأي فيه وليس مما يقطع به"
أي بأنه عنه صلى الله عليه وسلم "وقد يوجد عن الصحابة ما يقطع به" أي بأنه
ـــــــــــــــــــ
1 البيهقي 8/135. والحاكم 1/8.
2 3/218.
ليس
إلا عنه صلى الله عليه وسلم "مثل ما رواه الأمير الحسين" بن محمد "في
الشفاء عن علي عليه السلام أن الحيض ينقطع عن الحبلى لأنه جعل رزقا للجنين
وإنما جعل هذا كالمرفوع حملا للصحابة على السلامة ولأن الظن يقضي برجحان
رفعه" لأنه لا يعرف إلا من طريق الوحي.
"وخالف ابن حزم وشنع في ذلك وقال
يحتمل أنه عن أهل الكتاب فقد صح: "حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج" 1 ولا
يخفى أمثلة الحديث عنهم نادر والواقع من الموقوفات التي ليس للرأي فيها
مسرح كثير وحسن الظن بالصحابي يقضي بأنه لا يطلق في مقام الأخبار عن الحكم
في أمر بطريق اجتهادي أو نص إلا عن طريق شرعي من رواية معروفة أهله اجتهاد
فإذا تعذر الثاني: تعين الأول نعم يحتمل هذا في القصص والأخبار التي لا
يعرفها الصحابي ولا هي مما يجتهد فيه أنها من أحاديث الكتابين فهذا التفصيل
هو الذي ينبغي عليه التعويل.
"النوع الثاني" : من نوعي الآثار "ما
يحتمل أنه قيل عن الرأي والاجتهاد" وهو ما كان للاجتهاد في مسرح ووفقه
الصحابي "ففيه قولان للشافعي الجديد منهما أنه ليس بحجة" لأنه قول صحابي
مجتهد "ذكره في الإرشاد والذي تقتضيه الأدلة أنه ليس بحجة" إذا لم تقم
الأدلة إلا على حجية الكتاب والسنة والقياس على خلاف فيه والإجماع على بعد
في وقوعه وأما قوله "وليس في ذلك" أي في حجية قول الصحابي "سنة صحيحة" فهو
من نفى المخاص بعد نفي العام إذ قد قدم أن الأدلة لم تقم على حجيته وأما
أتى به ليتذرع به إلى قوله "فأما ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم:
"أصحابي كالنجوم بأبيهم اقتديتهم اهتديتم" 2 فهو حديث ضعيف قاله ابن كثير
الشافعي وقال رواه عبد الرحمي بن زيد العمى" بفتح المهملة وتشديد الميم "عن
أبيه قال ابن معين هو كذاب وقال السعدي هو ليس بثقة وقال البخاري تركوه
وقال أبو حاتم حديثه متروك وقال أبو زرعة واه وقال أبو داود ضعيف أبوه ضعيف
أو وقد روي هذا الحديث من غير طريق" أي من طرق كثيرة "ولا يصح شيء منها
ذكر ذلك كله ابن كثير الشافعي في كلامه على أحاديث المنتهى" .
وذكر الحافظ ابن حجر له طرقا كثيرة في تخريجه لأحاديث مختصر ابن الحاجب.
ـــــــــــــــــــ
1 أبو داود 3662. والترمذي 2669. وأحمد 2/159. وابن أبي شيبة 9/62.
2 الميزان 1511, واللسان 2/488. والإتحاف 2/223.
وأخرجه
عن ابن عمر وجابر وابن عباس وعمر وأنس بألفاظ مختلفة وسردها برواتهما
وضعفها وذكر طريق عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن
عمر بن الخطاب وساقه بلفظه أنه صلى الله عليه وسلم قال سألت ربي عما يختلف
فيه أصحابي من بعدي فقال يا محمد أمثلة أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها
أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما اختلفوا فيه فهو عندي على هدى ثم قال هذا
حديث غريب أخرجه ابن عدي1 ثم قال وزيد العمى وأبوه ضعيفان وأبوه اضعف منه
وقد سئل البزار عن هذا الحديث فقال لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله
عليه وسلم.
"وأما ابن عبد البر فاحتج به في التمهيد وسكت عليه فلعله رأي
مجموع تلك الطرق في تقوى متن الحديث أهله عرف له شواهد ما يقوى معناه
والله أعلم" .
قلت: وذكر الحافظ في تخرج أحاديث المختصر انه ذكره ابن
عبد البر في كتاب بيان العلم عن ابن شهاب بسنده وقال هذا إسناد ضعيف الراوي
له عن نافع لا يحتج به قال الحافظ قلت: هو متفق على تركه بل قال ابن عدي
انه يضع الحديث قلت: ويريد بالراوي له ن نافع سمرة الجزري.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 ابن عساكر 6/5/285.
مسألة:
27 [في بيان المقطوع]"المقطوع هو قول التابعي وفعله قال ابن الصلاح1:
ويقال في جمعه مقاطيع ومقاطع" يعني كالمسانيد والمساند والمنقول عن جمهور
البصريين من النحاة إثبات الياء جزما وعند الكوفيين والجرمي من البصريين
تجويز إسقاطها واختاره ابن مالك "قال وجدت التعبير بالمقطوع عن المتقطع في
كلام الشافعي وأبي القسام الطبراني قال زين الدين: ووجدته أو في كلام أبي
بكر الحميدي وأبي الحسن الدار قطني2 قال ابن الصلاح: وقد حكى عن بعض أهل
العلم أنه جعل المنقطع ما وقف على التابعي واستبعده ابن الصلاح قال زين
الدين: القائل بذلك هو الحافظ أبو بكر احمد بن هرون البردعي" بموحدة مفتوحة
فراء ساكنة وإهمال الدال والعين نسبة إلى بردعة بلدة في أقصى بلاد
أذربيجان بينهما وبين بردعة اثنا عشر ميلا "حكاه في جزء لطيف له" انتهى.
* *
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 42.
2
لكن قد يعتذر للشافعي أنه قال ذلك قبل استقرار الاصطلاح وأما الطبراني
فإطلاقه ذلك يعتبر تجوزا عن الاصطلاح. تيسير مصطلح الحديث ص 99.
"فروع"
سبعة حسن إيرادهما بعد كل من المرفوع والموقوف .
"مسألة
من السنة" هذا الفرع الأول وهو "قول صحابي من السنة كذا محمول على أنه
مسند مرفوع" وادعى البيهقي انه لا خلاف بين أهل النقل في ذلك وسبقه إلى
دعواه شيخه الحاكم في المستدرك وذلك "لأن الظاهر انه لا يريد إلا سنة صلى
الله عليه وسلم وهو مذهب الزيدية ذكره المنصور بالله في الصفوة والشيخ أحمد
في الجوهرة كقول علي ابن أبي طالب عليه السلام من السنة وضع الكف على الكف
في الصلاة رواه أبو داود في رواية ابن داسة" بالمهملتين أحد رواة سنن أبي
داود "وابن الأعرابي" أحد رواتها أو إمام حافظ أثنى عليه الذهبي.
وقال
القاضي أبو الطيب هو ظاهر مذهب الشافعي لأنه احتج على قراءة الفاتحة في
صلاة الجنازة بصلاة ابن عباس على جنازة وقراءته بها وجوه وقال إنما فعلت
ليعلموا أنها سنة وجزم ابن السمعاني أنه مذهب الشافعي وقال ابن عبد البر
إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم: ما لم
يضفها إلى صاحبها كقولهم سنة الخمرين وأعلم انهم وان قالوا بأنه لا يريد
بها الصحابي إلا سنته صلى الله عليه وسلم لكنهم قال لا يضاف اللفظ إلى فإنه
نهى أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك وقالوا لا يضاف حديث أبي هريرة
الذي أخرجه أبو داود والترمذي بلفظه حذف السلام سنة1 فلا يقال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: حذف السلام سنة قال الزين في تخرج الأحياء لا
يعزو اللفظ إلى صلى الله عليه وسلم وإلا فقول الصحابي السنة كذا له حكم
المرفوع على الصحيح.
"وخالف بعضهم في ذلك منهم أبو بكر الصيرفي" من
الشافعية "وأبو الحسن الكرخي" من الحنفية "وغيرهما" كابن حزم الظاهري بل
حكاه إمام الحرمين عن المحققين ذكره في البرهان وجزم جماعة من أئمة
الشافعية بأنه الجديد من مذهب الشافعية ذكر ابن القشيري وابن فورك وغيرهما
وجزموا بأنه كان يقول في القديم إنه مرفوع وحكوا تردده في الجديد لكنه نص
في الأم وهو من الكتب الجديدة على أنه
ـــــــــــــــــــ
1 أبو داود 1004, والترمذي في: الصلاة ب 107. وأحمد 2/532.
مرفوع
فإنه قال في بابا عدد الكفن بعد ذكر ابن عباس والضاحك بن قيس رجلان من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولا ن من السنة إلا لسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال في كتبا الأم في قول سعيد بن المسيب لأبي الزناد
سنة وقد سئل سعيد عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما فقال
له أبو الزناد سنة قال سنة قال الشافعي والذي يشبه قول سعيد سنة إن يكون
أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم: قال الحفاظ ابن حجر وحينئذ فله قولا ن
في الجديد قلت: ويحتمل أنه إنما جزم في الأول لما كان القائل صحابيا قال في
الثاني: يشبه لما كان القائل تابعيا.
هذا ودليل المخالفين إن لفظ السنة
متردد بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم: وسنة غيره كما قال صلى الله عليه
وسلم: "سنتي وسنة الخلفاء الراشدين" 1 وفي الحديث: "من سن سنة حسنة كان له
أجرها" 2 جوابه أن الأظهر انهم لا يريدون إلا سنته صلى الله عليه وسلم
وذلك لأمرين الأول أنه المتبادر إلى الفهم فالحمل عليه أولى الثاني: إن
سنته صلى الله عليه وسلم أصل وسنة الخلفاء تبع لسنته والأظهر من مراد
الصحابي إنما هو بيان الشريعة ونقلها فإسناد ما قصد نقله إلى الأصل أولى من
إسناده إلى الفرع بالحمل عليه سيما إن كان قائل ذلك أحد الخلفاء الأربعة
إذ يبعد إن يرد من طريقتي كذا وقد كانوا يصرحون بما يقولونه رأيا أو
اجتهادا كقول أبى بكر أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله الحديث
واستدل أيضا لهذا القول بما في البخاري3 أن الحجاج سأل سالما: كيف نصنع في
الموقف يوم عرفة؟ قال سالم: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة قال
أبو عمر: صدق قال الزهري: فقلت: لسالم: أفعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم؟. قال: وهل يتبعون في ذلك إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
وأما
استدلال ابن حزم على ما ذهب إليه بما في البخاري4 من حديث أبى عمر أنه
قال: بحسبكم سنة نبيكم إن حُبِسَ أحدكم عن الحج فطاف بالبيت وبالصفا
والمروة ثم
ـــــــــــــــــــ
1 أبو داود 4607, والترمذي 2676, والدارمي 1/44, وأحمد 4/126.
2 الترمذي 2675, وابن ماجة 207. والدارمي 1/131, وأحمد 4/362.
3 البخاري في: الحج: ب 89.
4 في: المختصر: ب 2, 4.
حل
من كل شيء حيث يحج قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا قال ابن حزم لا
خلاف بين أحد من الأئمة أنه صلى الله عليه وسلم لما صد عن البيت لم يطف به
ولا بالصفا ولا بالمروة بل حيث كان بالحديبية وان هذا الذي ذكره ابن عمر لم
يقع منه صلى الله عليه وسلم قط فلا يخفى أنه لم يرد من السنة الفعل منه
صلى الله عليه ةآله وسلم بل لفظ سنة نبيكم تعم الفعل والقول والتقرير فكونه
صلى الله عليه وسلم لم يفعل ما ذكره ابن عمر لم يبطل كونه لم يقله أو لم
يقرره والحاصل أن ما أثبته ابن عمر أعم مما نفاه ابن حزم.
إذا عرفت هذا فقول الصحابي سنة النبي صلى الله عليه وسلم: مضيفا لها إليه مرفوع عند الجماهير قطعا إلا عند ابن حزم.
وقال
البلقيني1 في محاسن الاصطلاح أنها على مراتب في احتمال الوقف قربا وبعدا
قال: فأبعدها مثل قول ابن عباس: الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه
وسلم2 ودونها قول عمرو بن العاص: لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه
وسلم عدة أم الولد كذا3 ودونها قول عمر لعقبة بن عامر: أصبت السنة4 إذ
الأول ابعد احتمال و الثاني: اقرب احتمالا و الثالث: لا إضافة فيه قلت:
وينظر فإنه لا فرق بين الأول و الثاني: إلا زيادة التكبير من ابن عباس.
تنبيه:
لم يذكر المصنف إن حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر والعصيان الرفع
وذلك مثل قول ابن مسعود من أتى ساحرا الحديث5 ومثله قول أبى هريرة ومن لم
يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله6 وقوله في الخارج من المسجد بعد الأذان أما
هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم7 وقول عمار رضي
ـــــــــــــــــــ
1
البلقيني هو: الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير
الكناني الشافعي انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي والإفتاء وولي قضاء
الشام. مات سنة 805. له ترجمة في: إنباه الغمر 2/245. والضوء اللامع 6/85,
وشذرات الذهب 7/51.
2 مسلم 1242.
3 أبو داود 2219, وابن ماجة 2063. والدار قطني 2/419- 420.
4 أبو داود 338, والنسائي في: الغسل: ب 27. والدارمي 1/190. والبيهقي 1/231.
5 سبق تخريجه.
6 مسلم في: النكاح: حديث 110, وأحمد 2/61. والبيهقي 7/262.
7 مسلم 2/125. وأحمد 2/410.
الله
عنه من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم1 فهذا كله له حكم الرفع
ويحتمل أن يكون موقوفا لجواز التأثيم على ما ظهر من القواعد والأول اظهر
وبه جزم ابن عبد البر وادعى الإجماع عليه وجزم به الحاكم في علوم الحديث
وفخر الدين الرازي في المحصول وهذا كله فما ينسبه الصحابي إلى سقته صلى
الله عليه وسلم.
"وأما التابعي إذا قال ذلك" أي من السنة كذا "فقيل
موقوف متصل لأنهم قد يعنون بذلك سنة الخلفاء" فلا يجزم بأنهم أرادوا منته
صلى الله عليه وسلم لأنه جزم مع الاحتمال "وربما كثر ذلك فيهم حتى لا يكون
غيره راجحا وهذا جديد قول الشافعي وصححه النووي" واعلم انه على قول من يقول
بأن قول الصحابي من السنة كذا مرفوع فهو محتمل لأقسام السنة الثلاثة القول
والفعل والتقرير كما أشرنا إليه في الجواب عن دليل ابن حزم وإذا كان
محتملا فإذا عارضه قول أو فعل أو تقرير غير محتمل فهو مقدم على قوله من
السنة لعدم احتماله بخلافها.
"مسألة أمرنا ونهينا" مغير الصيغة "إذا قال
الصحابي امرنا أو نهينا" أو قال أوجب أو حرم أو أبيح وبالجملة يأتي بشيء
من الأحكام بصيغة ما لم يسم فاعله "من نوع المرفوع والمسند عند المنصور
بالله وقاضي القضاة والشيخ أبى عبد الله والشيخ الحسن" الرصاص "وحفيده
أحمد" بن محمد بن الحسن "وكذلك عند أصحاب الحديث" إلا أن المنصور بالله قال
فرق بين أمرنا وأوجب قال إن الأول حجة وشرط للثاني إن لا يكون للاجتهاد
فيه مسرح لجواز إن يرى الوجوب بطريق الاجتهاد والجمهور على أنه حجة مطلقا
"قال الزين عن ابن الصلاح وهو قول أكثر أهل العلم لأن مطلق ذلك ينصرف إلى
من له الأمر والنهي وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذكر البيهقي إجماع
أهل النقل على أنه مرفوع.
"وخالف في ذلك فريق منهم أبو بكر الإسماعيلي"
وأبو الحسن الكرخي من الحنفية وعلل ذلك بكونه مترددا بين كونه مضافا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: أو إلى القرآن أو الأمة بعض الأمة أو القياس أو
الاستنباط قال وهذه الاحتمالات تمنع من الجزم بكونه مرفوعا وأجيب بأنها
احتمالات بعيدة وعلى التنزل فما من القرآن مرفوع
ـــــــــــــــــــ
1 الترمذي 686, والنسائي 4/153. وابن ماجة 1645.
لأن
الصحابة إنما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم: وأمر الأمة لا يمكن
الحمل عليه لأنهم يأمرون أنفسهم وبضع الأمة إن أراد من الصحابة فبعيد لأن
قوله ليس حجة على غيره وإن أراد الخلفاء بخصوصهم فكذلك لأن الصحابي مأمور
بتبليغ الشريعة فيحمل على من صدر عنه الشرع وهو الرسول صلى الله عليه وسلم
وأما حمله على القياس فبعيد كحمله على الاستنباط فإنه لا يتبادر ذلك لسامع.
واعلم
أنه قال ابن الأثير في مقدمات جامع الأصول إن الخلاف فيما إذا كان قائل
ذلك من الصحابة غير أبى بكر أما إذا قاله أبو بكر فيكون مرفوعا قطعا لأن
غير النبي لا يأمر ولا ينهاه لأنه تأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم: ووجب
على الأمة امتثال أمره.
"قال الزين وجزم به أبو بكر الصيرفي في
الدلائل" يحتمل أنه جزم بمثل قول الإسماعيلي أو بمثل قول الجمهور وقر به من
الأول أنه به حزم "وذلك مثل" حديث "أمر بلال إن يشفع الأذان ويوتر
الإقامة" أخرجه البخاري وغيره1 وكذلك قول عائشة كنا نؤمر بقضاء الصوم2 "قال
ابن الصلاح: ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو
بعده" إذ المتبادر منه أن الآمر الرسول مطلقا.
تنبيه : قول الصحابي أني
لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم3 وما أسبه لأبين لكم صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرفوع وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت"
هو كقوله: أمرني الله تعالى وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية بأكل
القرا يقولون يثرب", الحديث4 لأنه لا آمر له صلى الله عليه وسلم إلا الله
سبحانه وتعالى.
"وأما إذا قال ذلك التابعي ففيه وجهان وهو كقوله من السنة سواء" وقد تقدم تحقيقه.
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: الأذان ب 1-3, ومسلم في: الصلاة حديث: 2-3-5-وأحمد 3/101.
2 مسلم في: الحيض: حديث 67, وأحمد 6/187.
3 البخاري في: الأذان ب 115. ومسلم في: الصلاة حديث 27-30. وأحمد 2/236.
4 البخاري في: المدينة ب 2, ومسلم في: الحج: حديث 488, وأحمد 2/237.
"مسألة
امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زين الدين: وأما إذا صرح" أي
الصحابي "بالآمر فقال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم فيه" أي
في كونه مرفوعا "خلافا إلا ما حكاه ابن الصباغ في العدة" وحكاه أيضا شيخه
أبو الطيب الطبري "عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لنا
لفظ النبي صلى الله عليه وسلم" قال إذ يحتمل إن يكون سمع صيغة ظنها أمرا أو
نهيا وليست كذلك في نفس الأمر.
قلت: إن عملنا يمثل هذا الاحتمال لم
تقبل إلا الرواية باللفظ النبوي وبطلت الرواية بالمعنى وهي أكثر الروايات
بل قيل لم تتواتر رواية باللفظ إلا في حديثين ولا شك إن الظاهر من حال
الصحابي مع عدالته ومعرفته الأوضاع اللغوية أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق
أنه أمر أو نهي وان لم يكن كذلك في نفس الأمر ثم هذا الاحتمال الذي استدل
به لداود يجري في الخبر إذ يحتمل أنه ظن ما ليس بخير خيرا فلا وجه لتخصيص
الأمر "وهو ضعيف مردود" بما عرفته "قال زين الدين: إلا أن يريدوا" أي داود
من وافقه "أنه ليس بحجة الوجوب ويدل تعليله" أي ابن الصباغ "للقائلين بذلك
بان من الناس من يقول المندوب مأمور به ومنهم من يقول المباح مأمور به
أيضا" وهذه المسألة مبسوطة في أصل الفقه.
"قال زين الدين: فإذا كان ذلك
مرادهم كان له وجه" قلت: قول الصحابي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم بصيغة إنشاء وهي افعلوا كذا فهو كما
لو قال الصحابي قال صلى الله عليه وسلم افعلوا ولفظ افعلوا الأصل فيه
الإيجاب عند الجمهور كما عرف فلا وجه لتأويل كلام داود إلا أن يكون مذهبه
في الأصول أن الأمر ليس للإيجاب فبحث آخر على أن افعلوا ونحوه ليس بحجة في
الإيجاب هذا كله فيما كان ذلك من الصحابي.
"فإذا قال التابعي أمرنا هل
يكون مرسلا ففيه احتمالان للغزالي وجزم ابن السباغ في الشامل أنه مرسل وحكى
فيما إذا قال ذلك ابن المسيب وجهين" كأنه خص سعيدا من التابعين لأنه قد
عرف منه أنه لا يقول ذلك إلا مرفوعا "وأما إذا قال الصحابي أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم" أي بحذف المفعول "فلم يذكرها أهل الحديث" ولا كثير من
أهل الأصول وذكرها في الفصول وجعلها مرتبة ثالثة بعد مرتبة قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم واعترض عليه بأنها ليست مرتبة غير مرتبة غير مرتبة قال
فإن الأمر
والنهي قول فإذا أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم: بصيغة الفاعل فهو إسناد للقول قطعا.
"واختلف
أصحابنا فيها فذهب قاضي القضاة إلى حمل ذلك على الاتصال وسماع الصحابي منه
عليه السلام وقال المنصور بالله لا نحكم له بذلك ونجوز أنه ثبت له ذلك
بسماع" فيتم الاتصال "أو بواسطة ثقة" فيكون مرسلا وإذا عرفت ان قوله أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قال صلى الله عليه وسلم كما سلف فهو
محتمل كما قاله المنصور بخلاف أمرنا.
"وقال الشيخ أحمد" الرصاص "يحمل
على ثبوته" أي ثبوت رفعه "عنده" عند التابعي "بطرق قاطع من سماع أو تواتر"
إذ حسن الظن يقضي بذلك إلا أنه لا يحتاج إلى القطع لأن المرسل متفق على
جوازه وإن لم يتفق على حجيته ولا يشترط فيه الجزم بل الذي يحصل بالظن.
إذا
عرفت هذا فقوله أمرنا كقوله قال لنا افعلوا وهو قول فإذا عارضه أرجح منه
قدم عليه وإلا فهر قول مقدم على الفعل والتقرير وأما أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم فهو دونه لاحتماله الارسال احتمالا قويا فإذا عارضه أمرنا
فهو أرجح.
تنبيه: أما إذا قال الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففي كتب الأصول أن الظاهر عند الأئمة من أهل البيت والمعتزلة بعض الأشعرية
سماعه منه صلى الله عليه وسلم أي فيكون مرفوعا لأنه سمعه بغير واسطة ذكر
ذلك في الفصول إلا أنه لم يستدل له على قاعدته في عدم ذكر أدلة الأقوال ولا
يخفى أن معنى ظهور اللفظ في المعنى الذي دل عليه أنه الموضوع له أو الذي
قامت عليه واضحة فلا بد من تقديم مقدمة لمدعي ظهور لفظ قال في المشافهة
والسماع هي أنه موضوع للسماع ولا يستعمل في غيره إلا مجازا والمعلوم لغة أن
قال موضوع لنسبة القول إلى فاعلة أعم من إن يكون السماع منه بلا واسطة أو
معها فانه لا خلاف انه يصح إن يقول القائل قال زيد كذا وان لم يسمعه منه
وإنما كان معرفته انه قاله بالواسطة كما يقال قال الله تعالى قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فالظاهر احتماله للأمرين لا ظهوره في أحدهما ولذا أريد
المشافهة والسماع قال قال لنا وقال لي.
"مسألة كنا نفعل ونحوه إذا
قال الصحابي كنا نفعل كذا فإما أن يقيده بزمان رسول الله صلى الله عليه
وسلم كقول جابر كنا نعزل على عهد رسول صلى الله عليه وسلم متفق عليه1 فالذي
اختاره المنصور بالله في الصفوة به الحاكم وغيره من أهل الحديث وغيرهم أن
ذلك من قبيل المرفوع وصححه الأصوليون مثل الشيخ أحمد في الجوهرة والفقيه
علي بن عبد الله" أي ابن أبي الخير شارح المختصر لابن الحاجب "وغيرهما
والرازي والآمدي وأتباعهما قال ابن الصلاح: وهو الذي عليه الاعتماد" ووجه
ذلك قوله "لأن ذلك يشعر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك
وقرهم عليه وتقريره أحد وجوه السنن المرفوعة فإنها" أي وجوه السنن "أقواله
وأفعاله وتقريراته وسكوته عن الإنكار بعد اطلاعه" هكذا في شرح زين الدين
نقلا عن ابن الصلاح وعبارته في كتابه فإنها أنواع منها أقواله صلى الله
عليه وسلم ومنها أفعله ومنها تقريراته وسكوته عن الإنكار بعد إطلاعه فقوله
وسكوته عطف على تقريره بتقدير وهي سكوته بيان الحقيقة التقرير وأنه عدم
إنكار لم علمه من قول أو فعل أو تقرير صدرت من غيره وقرف صلى الله عليه
وسلم بها ولا بد من زيادة فيه أنه لم يكن قد سبق عنه إنكارها وعلم منه ذلك
لئلا يدخل فيه سكوته عن مرور ذمي إلى كنيسة كما عرف في الأصول.
"قال" أي
ابن الصلاح "وبلغني عن البرقاني" تقدم أنه بفتح الموحدة وكسرها نسبة إلى
برقانة قري بخوارزم وقرية بجرجان وهو الإمام الحافظ شيخ الفقهاء والمحدثين
أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي شيخ بغداد سمع من خلائق
منهم أبو بكر الإسماعيلي أخذ عنه بجرجان ومن جماعة بهراة ونيسابور ودمشق
ومصر وصنف التصانيف وخرج على الصحيحين وأخذ عنه البيهقي والخطيب وجماعة
"أنه سأل الإسماعيلي" هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أبو بكر أحمد ابن
إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني كبير الشافعية بناحيته ولد سنة
سبع وسبعين ومائتين سمع من أئمة ومنه أئمة منهم الحاكم والترمذي وغيرهما
وله معجم مروي وصنف الصحيح وأشياء كثيرة وله مستخرج على البخاري بديع قال
الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره وشيخ المحدثين والفقهاء
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: النكاح: ب96, ومسلم في: الطلاق: حديث 26- 28" وأحمد 3/309.
وأجلهم
في الرياسة والمروءة والسخاء بلا خلاف بين علماء الفريقين مات غرة رجب سنة
إحدى وسبعين وثلثمائة عن أربع وتسعين سنة "عن ذلك" عن مثل قول الصحابي كنا
نفعل "فأنكر كونه من المرفوع" قال البقاعي أي أنكر هذا الإطلاق فإن لفظ
مرفوع إذا أطلق انصرف إلى كونه مضافا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
صريحا ولو سأله ما حكم هذا قال حكمه الرفع قال فيحمل عليه ابن الصلاح كلام
الخطيب من أنه يريد ليس مرفوعا لفظا وهو مثل ما تقدم من قولهم من السنة كذا
فكأنه حينئذ موافق ليسس بمخالف.
"قال زين الدين: أما إذا كان في القصة
اطلاعه" أي النبي صلى الله عليه وسلم: "فحكمه الرفع إجماعا" لأنه يعلم منه
تقريره له وبه تعرف أنه أراد بقوله في أول المسألة فأما أن يقيده بزمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلع عليه "وأما إذا لم يكن ذلك مقيدا
بوقت النبي صلى الله عليه وسلم: فذكر المنصور بالله أن ذلك ليس بمرفوع"
لعدم العلم بتقريره صلى الله عليه وسلم له "ولكنه يفيد الإجماع فيكون حجة
وكذا قال صحاب الجوهرة" لكن لا بد أن يعلم أن هذا الفعل الذي ذكره الصحابي
وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إذ لا إجماع في عصره صلى الله عليه وسلم
كما علم في الأصول وكما يأتي في قوله والإجماع من بعده ثم غايته أن يكون
إجماعا سكوتيا لأنه معلوم عادة عدم إجماع الأمة على فعل معين فالمراد كان
أكثرهم أو بعضهم يفعل والآخرون مقرون لهم فيكون إجماعا سكوتيا وفي كونه حجة
نزاع في الأصول.
"وقال" المنصور بالله "أيضا إن قولهم كانوا يفعلون
مثال هذا في إفادة الرفع في زمانه والإجماع من بعده وقال أهل الحديث ليس في
حكم المرفوع قاله زين الدين" حكاية عن أهل الحديث أيضا "وجزم به" أي بعدم
رفعه "الخطيب وابن الصلاح وجعلاه" إذا لم يقيد بعصره صلى الله عليه وسلم
"موقوفا وهو مقتضى كلام البيضاوي1" فإنه جعله موقوفا "وخالف كثير من
الأصوليين" بل من أهل الحديث كما في منظومة زين الدين وشرحها "منهم الرازي
والجويني والسيف الآمدي" فجعلوا منهم
ـــــــــــــــــــ
1 البيضاوي
هو: عبد الله بن عمر بن محمد أبو الخير قاضي القضاة ناصر الدين البيضاوي
كان إماما علامة عارفا بالفقه والتفسير صالحا متعبدا زاهدا مات سنة 685. له
ترجمة في: البداية والنهاية 13/309, وشذرات الذهب 5/392, ومرآة الجنان
4/220.
ذلك من قبيل المرفوع وإن لم يقيده بعصره صلى الله عليه وسلم.
"وقال
به أيضا كثير من الفقهاء كما قاله النووي في شرح المهذب قال وهو قوي من
حيث المعنى وقال ابن الصباغ في العدة إنه الظاهر ومثله بقول عائشة كانت
اليد لا تقطع في السرقة في الشيء التافه1" في القاموس تفه كفرح تفها وتفوها
قل وحقر والحديث أخرجه اسحق بن راهويه كما في فتح الباري.
واعلم أن
حاصل ما قيل في المسألة أنه موقوف جزما و الثاني: التفصيل إن أضافه إلى زمن
الوحي فمرفوع عند الجمهور وإن لم يضفه إلى زمنه فموقوف.
قال الحافظ ابن
حجر وبقي مذاهب الأول أنه مرفوع مطلقا قلت: وهو رأي الحاكم والجويني ومن
ذكر قال وهو الذي اعتمده الشيخان في كتابيهما وأكثر منه البخاري ومذهب ثالث
وهو التفصيل بين أن يكون الفعل مما لا يخفى غالبا فيكون مرفوعا أو يخفى
فيكون موقوفا.
وبه قطع الشيخ أبو اسحق الشيرازي وزاد ابن السمعاني في
كتاب القواطع فقال إذا قال الصحابي كانوا يفعلون كذا أو أضافه إلى عصر
النبي صلى الله عليه وسلم: وكان مما لا يخفي مثله فيحمل على تقرير النبي
صلى الله عليه وسلم: ويكون شرعا وإن كان مثله يخفي فإن تكرر حمل أيضا على
تقريره لأن الأغلب فيما يكثر أنه لا يخفى ومذهب آخر هو إن أورده الصحابي في
معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فهو موقوف حكاه القرطبي.
وفي شرح المهذب
للنووي وظاهر استعمال كثير من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه أنه مرفوع
مطلقا سواء أضافه أو لم يضفه وهذا قوي لأن الظاهر من قوله كنا نفعل أو
كانوا يفعلون الاحتجاج به على وجه يحتج به ولا يكون ذلك إلا في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويبلغه انتهى.
قال الحافظ ابن حجر ولم يتعرض
الشيخ ولا ابن الصلاح لقوله ما كنا نرى بالأمر والفلاني بأسا وكذلك جميع
العبارات المصدرة بالنفي وذلك موجود في عباراتهم وحكمه حكم ما تقدم انتهى.
"واختلفوا في قول المغيرة ابن شعبة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: الشهادات: ب 13.
وسلم
يقرعون بابه بالأظافير" أخرجه الحاكم في علوم الحديث1 "فقال الحاكم: هذا
يتوهمه من ليس من أهل الصنعة مسندا مرفوعا لذكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيه وليس بمسند بل هو موقوف وذكر الخطيب في" كتابه "الجامع بين آداب
الراوي والسامع مثل ذلك" أي مثل كلام الحاكم إلا أنه أي الخطيب رواه من
حديث أنس والظاهر أنهم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدبا وقيل لأن بابه لم يكن
له حلق يقرع بها.
"قال ابن الصلاح: بل هو مرفوع وهو بذلك أحرى" أي هو
أحق بأن يكون مرفوعا من قولهم كنا نفعل "لكونه جرى بإطلاعه صلى الله عليه
وسلم لأنه لا يخفى عليه" قرع بابه "قال الحاكم: معترف بأن ذلك من قبيل
المرفوع" لأنه قد عد قوله كنا نفعل مرفوعا فهذا أحرى منه.
"قلت: الصواب
ما ذكره الحاكم والخطيب" من الحكم يوقفه "وقد وهم ابن الصلاح في إلزام
الحاكم" حيث قال والحاكم معترف بأن ذلك من قبيل المرفوع "فإنه" أي الحاكم
"إنما جعل قول الصحابي كنا نفعل مرفوعا" وهو الذي وقع بسببه إلزام ابن
الصلاح "لأنه" أي قولهم كنا نفعل "ظاهر في قصد الصحابة إلى الاحتجاج بذلك"
وإلا لم يكن لذكره فائدة في مقام الاحتجاج به "والظن بالصحابي أنه لا يعتقد
أن ذلك حجة إلا أن يطلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم" لعلمه ب مجرد
فعلهم من حيث هو فعلهم ليس بحجة "والظن به" أي الصحابي "أيضا أنه لا يوهم
الغير ذلك" أنه حجة "وليس بصحيح" الظاهر أن يقول وليس بحجة فإنه إن فعل ذلك
"فيكون قد غر من سمعه من المسلمين في أمور الدين" والظن في الصحابة خلاف
هذا.
قلت: ولا يخفى أن هذا يشمل ما قيده الصحابي بعصره صلى الله عليه وسلم وما لم يفيده.
"وأما
قرع الصحابة لباب النبي صلى الله عليه وسلم: بالأظافير فليس فيه تعليق
لذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم" كأنه يريد ليس فيه تعليق حكم ولكنه لما
استشعر أن فيه حكما هو جواز قرع أبواب المسلمين بغير إذن منهم فدفعه بقوله
"وأما الظن لاطلاع النبي صلى الله عليه وسلم: على ذلك وتقريره عليه فيدل
على جواز
ـــــــــــــــــــ
1 ص 19. ذكر النوع الخامس.
قرع
أبواب المسلمين بغير إذن منهم فلا يؤخذ" جواز ذلك "من مجرد هذا الحديث"
فلذا قال لا تعليق له بالنبي صلى الله عليه وسلم: لأنه لا دلالة على علمه
بالقرع وتقريره "لأن القرع بالأظافير خفي الصوت فإذا اتفق مرات يسيره
فيحتمل أن لا يسمعه لا فباله على مهم من أمور الدين أو نومه أو غير ذلك" .
قلت:
لا يخفى بعد هذا أن العبارة تفيد أنه كان ذلك عادة لهم فيبعد أن لا يطلع
على ذلك مع تكرره وقد كان فيه بيته يفلي ثوبه ويعلف داجنه ويقم منزله ثم
أنهم لا يقرعونه إلا ليشعروه بأنهم في الباب "بل ليس في الحديث أنهم كانوا
يفعلون ذلك وهو في البيت فلعلهم كانوا يخفون القرع أدبا مع نساء النبي صلى
الله عليه وآله وسلم" ولا يخفى بعد هذا التأويل "وإن كان حاضرا" في بيته
"استأذنوا فقد كان أنس يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن لمن أراد
أن يدخل عليه" يقال عليه إنه كان يقع هذا تارة وهذا تارة فإنه قد يغيب
الخادم أحيانا ويكون تارة داخل المنزل فيقرعون الباب ليخرج فيستأذن لهم "بل
يحتمل أن ذلك فعل في غيبة النبي صلى الله عليه وسلم: عن المدينة" .
الظاهر
من حديث المغيرة الإخبار عن توقيرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أو تأديبهم
معه ولا يكون ذلك إلا وهو في منزله "وإنما يظن اطلاعه وتقريره لو كان ذلك
مستمرا وكان الدق قويا بحيث أن العادة تقضي برجحان سماعه" لا خفاء أن قرب
منزله من الباب يقصي بسماعه القرع بالأظافير ولو كان القرع لا يسمع لما
فعلوه ولا لنسائه كما تأوله وقد كان منزله صلى الله عليه وسلم لاصقا بالأرض
فيسمع منه خفق نعال من مرفضلا عن قرعه بابه بأدنى قارع لبعد أن يستمر
اتفاق ذلك أي الذي دل عليه كان يقرع كما قدمناه "وهو غائب" إذ الوارد إلى
منزله وهو غائب قليل وحينئذ فلا يتم التأويل بأنه كان يفعل ذلك وهو غائب بل
وهو حاضر فيتم الاستدلال فدفعه بقوله "وبعد أن يتفق ذلك كثيرا وهو في
البيت وهو لا يسمع" يقال عليه ومن أين أنه كان لا يسمع ليس في حديث المغيرة
ذلك بل إنما قرعوا ليسمع ويدل لسماعه قوله "فقد كان بيته صلى الله عليه
وسلم صغيرا في نفسه وإن كان كبيرا في قدره" لكبر قدر ساكنه صلى الله عليه
وسلم.
ولما كان ظاهر كانوا يفعلون الاستمرار كما علم في الأصول وقد نفاه
بقوله ولو كان مستمرا دفع ذلك بقوله "ولفظه كان لا تقتضي ذلك" وكأنه يريد
لفظه كان يفعل
وإلا فلفظ كان لا يفيد الاستمرار إلا إذا كان خبرها
مضارعا لا مطلق كان "فقد يطلق على التكرار اليسير الذي لا يحصل معه الظن"
أي ظن اطلاعه صلى الله عليه وسلم وتقريره ولا يخفى أن الأصل في كان يفعل
الدلالة على الاستمرار وقد يخرج عنه للقرينة كما تفيده عبارة المصنف حيث
قال فقد تطلق وأتى بقد ظاهر كلامه أن المراد استمرار القرع والحديث إنما
سيق لبيان أنها كانت عادتهم قرعه بالأظافير في إتيانهم إليه صلى الله عليه
وسلم ولا تعرض فيه لكثرة القرع نفسه أو قلت:ه بل إنما يكون بحسب الحاجة حتى
يسمع بقرعة أو أكثر "مع أن الحديث صحيح المعنى لمن أراد أن يحتج به على
مثل ذلك" أي على جواز قرع أبواب المسلمين من غير إذن منهم لكن لا يخفى أنه
لا يتم الاحتجاج إلا مع علمه صلى الله عليه وسلم وتقريره ولا حجة في مجرد
فعلهم وأما قوله "لموافقته" أي الحديث المذكور "لإجماع المسلمين المعلوم
والله أعلم" فهو خروج إلى الاستدلال بالإجماع في عصره ولا إجماع فيه وكأه
يريد أنه معلوم أن أهل المدينة كانوا يقرعون الأبواب بعضهم على بعض وعلمه
صلى الله عليه وسلم بذلك معلوم وتقريره معلوم فهو رجوع إلى الاستدلال
بتقريره صلى الله عليه وسلم بالإجماع.
"قلت: وقد ذكر بعض أصحابنا" تقدم
عن المنصور وصاحب الجوهرة أنهما يقولان "إن قول الصحابي كنا نفعل ظاهر في
دعوى الإجماع أيضا" أي كما هو الظاهر في الرفع "وذكره في الجوهرة وغيرها
لأنه يقتضى بمفهومه أنهم فعلوا ذلك كلهم أو فعله بعضهم على وجه يعلمه
الباقون ولم ينكروا" فكان إجماعا سكوتيا "وليس" ما قالاه "بجيد لأن هذه
العبارة قد تطلق كثيرا إذا فعل ذلك كثير منهم" أو فعله بعضهم على وجه يظهر
"وسكت الباقون وغن سكتوا عن غير علم بذلك" ولا يكون إجماعا سكوتيا إلا إذا
علموا ومن أين يعلم أن كل واحد علم ذلك وقد قدمنا قريبا من هذا وبحثنا في
حجية الإجماع السكوتي في الدراية حاشية الغاية بما يضمحل به القول بأنه
حجة.
"وأما إذا قال الصحابي أوجب علينا أو حضر" بالبناء المجهول "أو
نحوها" كأبيح لنا "فلم يذكرها أهل الحديث" وقد قدمنا ذكرها "وذكرها أصحابنا
في خواص الصحابة وقالوا إنها تحمل على الرفع إلا أن المنصور بالله شرط في
ذلك أن يكون مما لا مساغ للاجتهاد فيها حكاه عنه في الجوهرة" وإن كان
الظاهر أنه مرفوع والاجتهاد احتمال مرجوح.
وهاهنا فوائد يحسن ذكرها :
الأولى
: قول الصحابي كنا نرى كذا ينقدح فيها من الاحتمال أكثر مما ينقدح في
قولنا كنا نقول أو نفعل لأنها من الرأي ومستنده قد يكون تنصيصا أو
استنباطا.
الثانية : قول الصحابي كان يقال كذا قال الحافظ المنذري
اختلفوا هل يحلق بالمرفوع أو بالموقوف قال والجمهور على أنه إذا أضافه إلى
زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الحافظ ابن حجر ومما يؤكد كونه
مرفوعا مطلقا ما رواه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف قال كان يقال:
"صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر", ورواه ابن ماجه من الوجه الذي
أخرجه عنه النسائي بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم1 فدل على أنها
عندهم من صبغ الرفع والله أعلم.
الثالثة : أنه لا يختص جميع ما تقدم
بالإثبات بل يلحق به النفي كقولهم كانوا لا يفعلون كذا ومنه قول عائشة
كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وتقدم2.
"مسألة" هذا الفرع الثالث
"تفسير الصحابي" أي للقرآن "اختلف أهل العلم في تفسير الصحابي فذكر زني
الدين وابن الصلاح أنه إن كان" أي تفسير الصحابي "في ذكر أسباب النزول
فحكمه حكم المرفوع وإلا فهو موقوف وجعل" أي كل واحد منهما "هذا هو القول
المعتمد" وإليه ذهب الخطيب وأبو منصور البغدادي وتبعهما ابن الصلاح والزين.
"وأشار
ابن الصلاح إلى الخلاف ولم يعين القائل بأن مطلق تفسير الصحابي مرفوع قال
الزين وهو" أي القائل يرفع تفسير الصحابي مطلقا "الحاكم وعزاه إلى الشيخين"
فإنه قال في المستدرك ليعلم طالب العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي
والتنزيل عند الشيخين حديث مسند "قال ابن الصلاح: تعقبا للحاكم إنما ذلك في
تفسير متعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي إلى أو نحو ذلك" قال كقول جابر
كانت اليهود تقول من أتى امرأته من ديرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل
الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية3
ـــــــــــــــــــ
1 ابن ماجة 1666. والنسائي 1/316. والبيهقي 4/244.
2 سبق تخريجه.
3 علوم الحديث ص 20: ذكر النوع الخامس.
قال
الحافظ ابن حجر بعد ذكر الخلاف والحق أن ضابط ما يعتبره الصحابي إن كان
مما لا مجال فيه للاجتهاد ولا منقول عن لسان العرب فحكمه الرفع وإلا فلا
كالأخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء وعن الأمور الآتية
كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار والأخبار عن عمل يحصل به ثواب
مخصوص أو عقاب مخصوص فهذه أشياء لا مجال للاجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع
وأما إذا فسر الآية بحكم شرعي فيحتمل أن يكون مستفادا من النبي صلى الله
عليه وسلم: أو عن القواعد فلا تجزم برفعه وكذا إذا قسر مفردا فقد يكون نفلا
عن اللسان فلا تجزم برفعه وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من
كبار الأئمة كصحابي الصحيح والإمام الشافعي وأبي جعفر وأبي جعفر الطبري
وأبي جعفر الطحاوي1 وابن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي وابن عبد البر
في آخرين إلا أنه يستثنى من ذلك إذا كان المفسر له من الصحابة ممن عرف
بالنظر في الإسرائيليات كمسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وكعبد الله
بن عمرو بن العاص فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل
الكتاب فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان ربما قال له بعض
أصحابه حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تحدثنا عن الصحيفة.
"مسألة: قال" هذا هو الفرع الرابع وهو بحث ذكره زين الدين في بيتين من ألفيته2 وهما قوله:
وما رواه عن أبي هريرة محمد وعنه أهل البصرة
كرر
قال بعد فالخطيب روى به الرفع وذا عجيب "ما رواه أهل البصرة عن أبي هريرة
قال قال ثم ساق كلاما بعد هذا" بعد القول المكرر "ولم يذكر النبي صلى الله
عليه وسلم: وإنما كرر لفظ قال بعد ذكر أبي هريرة" لفظ زين الدين بعد
البيتين أي وما رواه أهل البصرة عن محمد بن سيرين3
ـــــــــــــــــــ
1
أبو جعفر الطحاوي هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك أبو جعفر الأزدي
المصري الطحاوي الحنفي قال ابن يونس كان ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف
بعده مثله مات سنة 321. له ترجمة في: البداية والنهاية 11/174, ووفيات
الأعيان 1/53. وشذرات الذهب 2/288.
2 1/99/118-119.
3 محمد بن سيرين
الأنصاري أبو بكر البصري. قال ابن سعد: ثقة مأمون عال رفيع فقيه إمام كثير
العلم والورع مات سنة 110. له ترجمة في: تاريخ بغداد 5/331. وشذرات الذهب
1/128. ووفيات الأعيان 1/453.
عن أبي هريرة قال قال فذكر حديثا ولم
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كرر لفظ قال بعد أبي هريرة فإن الخطيب
روى من طريق موسى بن هرون الحمال بسنده عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي
هريرة قال: قال: "الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه" 1 وهذا يبين
قول المصنف "فإن الخطيب روى في الكفاية عن موسى بن هرون أنه قال إذا قال
حماد بن زيد والبصريون قال قال فهو مرفوع قال الخطيب قلت: للبرقاني أحسب أن
موسى عني بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصة قال كذا نحسب قال الخطيب ويحقق
قول موسى ما قال محمد بن سيرين كل شيء حدثت عن أبي هريرة فهو مرفوع" فتبين
بهذا إن فاعل قال الثانية هو النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن هذا من
حذف الفاعل ولا يجيزه النحاة وإن علم أنه معين كما هنا.
"قال زين
الدين: ووقع في الصحيح من ذلك ما رواه البخاري في المناقب حدثنا سليمان بن
حرب: ثنا حماد" بن زيد "عن أيوب" السختياني "عن محمد" بن سييرين "عن أبي
هريرة قال: "أسلم وغفار...." الحديث2" تمامه: "وشيء من مزينة وجهينة خير
عند الله من تميم وهوازن وغطفان" "وهو عند مسلم من رواية ابن علبة عن أيوب"
أي عن محمد بن أبي هريرة "مصرح فيه بالرفع ووقع من ذلك في سنن النسائي
الكبرى من رواية ابن علية عن أيوب عن ابن أبي هريرة قال: قال: "الملائكة
تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه" ورواه الخطيب في الكفاية3 من طريق موسى بن
هرون الحمال بسنده إلى حماد بن زيد عن أيوب" أي هن محمد بن أبي هريرة وقد
قدمناه قريبا.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 1/121. وأبو داود في الصلاة ب 20 وأحمد 2/312, 468.
2 مسلم في: فضائل الصحابة حديث 190, 194. والترمذي 3952. وأحمد 2/468.
3 ص 418.
مسألة:
28 [في بيان المرسل]"المرسل" هو من أقسام علوم الحديث وهو الذي خرج من رسم
الصحيح يفصل ما اتصل إسناده وحقيقته ما أفاده قوله "هو عند الأكثرين من
المحدثين قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قطع الحاكم
وغيره من أهل الحديث1" وتخصيص القول لأنه الأكثر وإلا فلو ذكر التابعي فعلا
أو تقريرا نبويا كان دخلا فيه.
واعلم أنه يرد على هذا الرسم ما سمعه
بعض الناس حال كفره من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله
عليه وسلم وحدث عنه بما سمعه منه فإن هذا والحال هذه تابعي قطعا وسماعه منه
صلى الله عليه وسلم متصل وقد دخل في حد المرسل وحينئذ فلا بد من زيادة قيد
في الحد بأن يقال وما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: مما
سمعه من غيره.
واختلف في ما حد الإرسال لغة فقيل من الإطلاق وعدم المنع
ومنه قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ}
[مريم: 83] وذلك لأن المرسل أطلق الحديث وقيل مأخوذ من قولهم جاء القوم
إرسالا أي متفرقين لأن البعض الإسناد منقطع عن بعضه وقيل من قولهم ناقة سل
أي سريعة السير كأن المرسل للحديث أسرع فحذف بعض إسناده.
وهذا الرسم الذي ذكره المصنف هو القول الأول في رسمه.
والثاني
: قوله: "وقيل إنه يختص بما أرسله كبار كبار التابعين الذين أكثر حديثهم
عن الصحابة كابن المسيب" هو سعيد بن المسيب بفتح المثناة المشددة وروى عنه
أنه كان يقول إنه بكسرها فإنه لقي جماعة كثيرة من الصاحبة "وقيس بن أبي
حازم" مثله
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 71.
"وعبيد الله بن عدي بن الخيار" بالخاء المعجمة فمثناة تحتية آخره راء وهذا مثل به ابن عبد البر وتبعه ابن الصلاح وتبعه زين الدين.
وقال
الحافظ ابن حجر إن التمثيل به معترض لأنه كان يمكنه أن يحفظ عن النبي صلى
الله عليه وسلم: وذلك أن عبيد الله كان بمكة حين دخلها صلى الله عليه وسلم
وقد ثبت في منقولات كثيرة أن الصحابة من الرجال والنساء كانوا يحضرون
أولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يتبركون بذلك وهذا منهم لكن هل يحصل
من ثبوت الرؤية له الموجبة لبلوغه شريف الرتبة بدخوله في حد الصحبة أن
يكون ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكون مرسلا هذا محمل تأمل
ونظر.
والحق الذي جزم به أبو حازم الرازي وغيره من الأئمة أن مرسله
كمرسل غيره وأن قولهم مراسيل الصحابة مقبولة بالاتفاق إلا عند بعض من شذ
إنما يعنون بذلك من أمكنه التحمل والسماع أما من لم يمكنه ذلك فحكم حديثه
حكم غيره من المخضرمين الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: ولو مثل
بمحمد بن أبي بكر الصديق الذي لم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم:
إلا ثلاثة أشهر لكان أولى "دون صغارهم الذين لم يلقوا إلا الواحد والاثنين
من الصحابة فأكثر حديثهم عن التابعين فأحاديث هؤلاء" أي صغار التابعين
"منقطعة حكاه ابن عبد البر عن قوم من أهل الحديث ومثلهم ابن الصلاح
بالزهري" وهو محمد بن شهاب نسب إلى جده الأعلى وإلا فهو محمد بن مسلم بن
عبيد الله بن عبد الله بن شهاب "وأبي حازم" وهو سلمة دينار غير أبي حازم
الأشجعي مولى عزة فاسمه سلمان وهو من مشايخ الزهري وقد هم من اعترض على ابن
الصلاح بأنه ليس من صغار التابعين ظنا من المعترض بأنه أراد ابن الصلاح
الأشجعي وليس كذلك فإنه إنما أراد سلمة بن دينار وهو ليسمع من الصحابة إلا
من سهل بن سعد وأبي أمامة بن سهل بخلاف الأشجعي فإنه سمع من الحسن بن على
عليهما السلام.
نعم حصل الاشتباه لما لم يقيد ابن الصلاح أبا حازم بشيء
يميزه به ولكن قرينة الحال دالة على أنه المراد ولو لم يكن من القرائن إلا
تقديمه الزهري عليه في الذكر لأن أبا حازم الأشجع يفي منزلة شيوخ الزهري
أفاده الحافظ ابن حجر "ويحيى بن سعيد الأنصاري" .
"قال زين الدين"
تعقبا لابن الصلاح "التمثيل بالزهري مع التعليل بقلة من لقي من الصحابة
معترض فقد لفي الزهري من الصحابة ثلاثة عشر فأكثر" وقال ابن خلكان إنه رأي
عشرة من الصحابة انتهى. ثم عدد الزين أولئك بقوله "وهم عبد الله بن عمر
وأنس بن مالك وسهل بن سعد وربيعة بن عباد وعبد الله بن جعفر ولم يسمع منه
السائب بن يزيد وسفيان أبو جميلة وعبد الله بن عامر بن ربيعة وأبو الطفيل
ومحمود بن الربيع والمسور ابن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر وقيل إنه سمع من
جابر وقد سمع من محمود بن لبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل وثعلبة بن أبي
مالك القرظي وهو مختلف في صحبتهم وأنكر أحمد" بن حنبل "ويحيى بن معين سماعه
من ابن عمر وأثبته على بن المدني والمثبت أولى من النافي" .
قال الحافظ
ابن حجر تعقبا لسيخه الزين تمثيله أي ابن الصلاح صحيح فإنه لا يلزم من
كونه لقي كثيرا من الصحابة أن يكون من لقيهم من كبار الصحابة حتى يكون من
هو كبار التابعين فإن جميع من سموه مشايخ الزهري من الصحابة كلهم من صغار
الصحابة أو ممن لم يلقهم الزهري وإن كان روى عنهم أو ممن لم تثبت له صحبة
وإن ذكر في الصحابة أو ممن ذكر فيهم بمقتضى مجرد الرؤية ولم يثبت له سماع
فهذا حكم جميع من ذكر من الصحابة في مشايخ الزهري إلا أنس ابن مالك وإن كان
من المكثرين فإنما لقيه لأنه تأخر عمره وتأخرت وفاته ومع ذلك فليس الزهري
من المكثرين عنه ولا أكثر أيضا عن سهل ابن سعد الساعدي فتبين أن الزهري ليس
من كبار التابعين وكيف يكون منهم وإنما جل روايته عن بعض كبار التابعين لا
كلهم لأن أكثرهم مات قبل أن يطلب هذا العلم وهذا بين لمن نظر في أحوال
الرجال انتهى.
قلت: ولا يخفى أن ابن الصلاح جعل الزهري مثالا لمن وصفهم
بأنهم لم يلقوا إلا الواحد والاثنين وهذا المثال غير صحيح لملاقاة الزهري
لمن ذكر فاعترض الزين صحيح نظرا إلى عبارة ابن الصلاح وأما كونهم من صغار
الصحابة أو كبارهم فلم يذكره ابن الصلاح بل جعل كبار التابعين من كان أكثر
حديثهم عن الصحابة صفارا كانوا أو كبارا وجعل صغار التابعين من لاقوا
الواحد والاثنين من الصحابة فتدبر.
"القول الثالث" في حقيقة المرسل "أنه
ما سقط من إسناده راو فأكثر من أي موضع فعلى هذا المرسل والمنقطع والمعضل
واحد وهو مذهب الزيدية قال ابن الصلاح: وهو
المعروف في الفقه وأصوله
وبه قطع" من المحدثين "الخطيب" إلا أنه قال أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث
الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقي في رسمه
قول رابع وهو قول غير الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا
التعريف قال ابن الحاجب وقبله الآمدي والشيخ الموفق وغيرهم فيدخل في عمومه
كل من لم تصح له صحبة وإن تأخر عصره.
قال الحافظ العلائي إطلاق ابن
الحاجب وغيره يظهر عند التأمل في أثناء استدلالهم أنهم يريدون ما سقط منه
التابعي مع الصحابي وأما ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ونحو ذلك ولم أر من
صرح بحمله على الإطلاق إلا بعض غلاة الحنفيه وهو اتساع غير مرضي لأنه يلزم
منه بطلان اعتبار الإسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة وترك النظر في أحوال
الرواة والإجماع في كل عصر على خلاف ذلك ويؤيده أنه قال الأستاذ أبو اسحق
الأسفراييني المرسل رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أو تابع
التابعي عن الصحابي فأما إذا قال تابع التابعي أو واحد منا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلا يعد شيئا انتهى. "وقريب منه قول ابن القطان" قال
زين الدين: إنه قال ابن القطان إن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه.
* * *
مسألة:
29 [في بيان اختلاف العلماء في قبول المرسل]في قبول المرسل ورده أقوال ذكر
المصنف منها ثلاثة فقال: "وقد اختلف الناس في المرسل" أطلق المصنف المرسل
هنا وقيده في مختصره حيث قال واختلفوا في قبول المرسل وأنواعه مع الجزم من
الثقة ومع عدم القدح فيه من ثقة آخر ثم عد هنا أقوالا للمقبول:
الأول : قوله "فقيل تقبل مراسيل أئمة الحديث الموثوق بهم المعروف تحريهم" ويأتي الدليل على هذا.
و
الثاني : قوله "وقال الشافعي يقبل المرسل ممن عرف أنه لا يرسل إلا عن ثقة
كابن المسيب" فإنه لا يرسل إلا عن ثقة وقد لقي جماعة من الصحابة وأخذ عنهم
ودخل على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهن وأكثر روايته عن
أبي هريرة.
ثم عد للمرسل المقبول صورا:
الأولى : قوله: "أو جاء"
المرسل "عن ثقتين لكل واحد منهما شيخ غير شيخ الآخر" عبارة الشافعي فيما
نقله عنه الزين يؤدي هذا إلا أنه قدم الرتبة التي أخرها المصنف وهي:
الثانية
من الصور التي يفيدها "أو جاء مسندا" أي مرفوعا متصلا "من طريق الثقاة
بمعناه" ثم قال كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه وجعل هذه الرتبة
أقوى من التي قبلها فإنه قال في الأولى كانت هذه دلالة تقوى له رسله وهي
أضعف من الأولى فأفاد أن المرسل الذي جاء بمعناه مسندا مرفوعا أقوى من
المرسل عن ثقتين إلى آخره فإذا تعارضا قدم الأقوى.
و الثالثة منها:
قوله: "أو صح عن بعض الصحابة موقوفا" قال الشافعي:كانت هذه دلالة على أنه
لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى.
الرابعة من الصور:
قوله: "أو قال بمقتضاه عوام من أهل العلم" أي الكثير منهم "وذلك" أي قبول
المرسل على جميع هذه التقادير كما دل قوله "كله" وكأه عام لرواية كبار
التابعين أيضا مشروط "بشرطين: أحدهما أن يكون المرسل" اسم فاعل "من
التابعين الذي رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" كأن المراد الذين
رأوا أكثر أصحابه لا كلهم ولا الأقل لبعد الأول وكون الثاني: يدخل فيه صغار
التابعين لأنهم قد رأوا الأقل من الصحابة ولو واحدا وإلا لما كان تابعيا
"وثانيهما" أي الشرطين "أن يعتبر صحة حديث هذا المرسل" اسم فاعل "بأشياء
تفيد ظن صحته" عد "منها" شيئين.
الأول: "موافقته للحفاظ في سائر حديثه"
فيعرف أنه حافظ قال الشافعي إذا شارك أحدا من الحفاظ في حديثه ولم يخالفه
فإن خالف ووجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه انتهى
فأفاد أن نقص حديث من أرسل عن حديث من وافقه لا يضر ولم يفده كلام المصنف
إلا أنه قد يمكن تطبيقه عليه وأشار الزين إلى هذا بقوله:
ومن إذا شارك
أهل الحفظ وافقهم إلا بنقص اللفظ وإن كانت عبارته تفيد اشتراط نقص اللفظ
إلا أنه معلوم أنه غير مراد وإنما ألجأه إليه النظم.
"و" الثاني: "منها
أن يكون إذا سمي من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرفوعا عن روايته" قال
الشافعي فيستدل بذلك على صحة ما روى عنه ثم قال أما إذا وجدت الدلائل بصحة
حديثه كما وصفنا أحببنا أن نقبل مرسله "روى ذلك" أي كلام الشافعي "الخطيب
في الكفاية وأبو بكر البيهقي في المدخل بإسناديهما الصحيحين عن الشافعي
ذكره زين الدين فيما زاده على ابن الصلاح" قال زين الدين: إن ابن الصلاح
أطلق القول عن الشافعي بأنه يقبل مطلق المراسيل إذا تأكدت بما ذكره
والشافعي إنما يقبل مراسيل كبار التابعين إذا تأكدت مع وجود الشرطين
المذكورين في كتابي انتهى وقد حصل زبدة كلامه المصنف بما ساقه.
"وفائدة
قبول المرسل إذا أسند عن ثقات انكشاف صحته" كأنه جواب ما يقال إنه إذا
اشترط وجود المرسل مسندا فأي فائدة في مع وجود المسند ولا يخفى أن هذه
فائدة الصور الثانية مما سقناه "فيكونان حديثين" حديث مسند مرفوع وحديث
مرسل "فإذا
عارضهما مسند آخر كانا أرجح منه" لاعتضاد المرسل بالمسند المرفوع.
القول الثالث : قوله: "وذهب الزيدية والمالكية والحنفية إلى قبول المرسل" .
قلت:
ينبغي أن يستثنى من الزيدية المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني فإنه
صرح بأنه لا يقبل المراسيل ولفظه في خطبة كتابه شرح التجريد وشرطنا فيه أي
في الحديث الذي يرويه السماع والعدالة ثم قال ولقد أدركت أقواما ممن لا
يتهم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحفظون السند ويرسلون
الحديث فما قبلت أخبارهم ولا نقلت:ها عنهم وعندنا لا يحل لأحد أن يروي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعه من فم المحدث العدل فحفظه ثم
يحدث به كما سمعه ثم قال إن المراسيل عندنا وعند عامة الفقهاء لا تقبل
انتهى كلامه ولم أنقله على ترتيبه لكن هذه ألفاظه.
"وخالف في ذلك أكثر
المحدثين" فقالوا لا يقبل المرسل والقائلون بقولهم وهم من ذكرهم يقولون
بقبوله مطلقا من غير شرط من الشروط الماضية إلا أنه لا بد من الاستفسار عن
تعريف المرسل الذي قبلوه فقد مضت ثلاثة تعاريف للمصنف فلا ندري أيها المراد
هنا والظاهر أنه الثالث: وهو الذي في كتب أصول الزيدية وغيرهم لأن المرسل
هو ما سقط فيه راو أو أكثر وهو الثالث: من التعريفات التي ذكرها المصنف
وذكر أنه مذهب الزيدية وحينئذ ففي انطباق الدليل الأول على مذهبهم نظر وهو
قوله "فاحتج أصحابنا في ذلك بوجوه :
الأول : الإجماع وهو إجماع الصحابة
وإجماع التابعين" فأنه إن سلم إجماع الصحابة فإنما أجمعوا على مرسل خاص وهو
مرسل الصحابي كما يدل له قوله:
"أما إجماع الصحابة فلأنه اشتهر فيهم
وظهر وشاع ولم ينكر من ذلك أن البراء" بفتح الموحدة فراء ممدود "ابن عازب"
بعين مهملة فزاي بعد الألف فموحدة صحابي معروف "قال في حضرة الجماعة" أي من
الصحابة "ليس كل ما أحدثكم به سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
أنا لا نكذب" أي لا نقول عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله بل نحدث عمن
حدثنا عنه إلا أنك قد عرفت من تعريف المرسل أنه قول التابعي أو كبار
التابعين وليس هذا منه وكأنه يريد أنه قد حصل المعنى الذي في المرسل.
نعم على تعريف الأصوليين يقال لهذا مرسل إلا أنه لا يعلم حديث رواه
الصحابي
أنه سقط منه راو إلا بإخبار الصحابي بذلك لأن الأصول فيما يرويه أنه سمعه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم سيما إذا عرف بالأخذ عنه والملازمة مثل
أبي هريرة ونحوه "وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
ربا إلا في النسيئة" 1 ثم قال أخبرني بذلك أسامة بن زيد ذكر ذلك كله
المنصور بالله رضي الله عنه في الصفوة والشيخ أحمد في الجوهرة" ولا يخفى أن
هذا فيما أرسل عن صحابي وهو أخص من مدعي الزيدية كما أن قوله "قلت: ومن
ذلك حديث أبي هريرة في فطر من أصبح جنبا وقوله حدثني الفضل بن العباس" ولفظ
الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح
جنبا أفطر" 2 وفي لفظ له "من أصبح في رمضان جنبا فلا صوم له" وله ألفاظ أخر
فقال: ما أنا قلتها ورب الكمية لكن محمدا قالها ولما عارضته أخبار نسائه
صلى الله عليه وسلم بأنه كان يصبح جنبا ويصوم ولا يقضي3 سئل عما حدث به
فقال أخبرني الفضل ابن العباس وفي رواية أسامة بن زيد وكذلك ابن عباس أسند
حديثه المذكور لما عورض فسئل.
وإذا عرفت هذا فلا يتم إطلاق من قال إن
الصحابة كانوا يباحثون من أرسل ويطلبون منه الإسناد مستدلين بهذين الخبرين
فإن الظاهر أنهم إنما كانوا يبحثون عند ظهور المعارض ومع عدم المعارض لا
يبحثون ولا يسألون وحينئذ فيتم الاستدلال على قبول المرسل ما لم يعارض.
قلت: ولا يخفى وقد أشرنا أن الأصل فيما يرويه الصحابي الرفع فيعمل عليه ما رواه ما لم يصرح بخلافه.
"وقد
قيل إن أكثر رواية ابن عباس كذلك" أي مرسلة "لصغر سنه وقت رسول الله صلى
الله عليه وسلم" فإنه توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسن ابن عباس في
ثلاث عشرة سنة على أصح ما قيل.
"وأما إجماع التابعين" على قبول المراسيل
"فرواه العلامة محمد بن جرير الطبري" الإمام المعروف صاحب التفسير
والتاريخ الكبير وغيرهما "حكاه عنه ابن عبد البر في
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 3/98. والنسائي 7/281. وأحمد 5/202.
2 بنحوه: البخاري في: الصوم: ب 22, 35. ومسلم في: الصيام: حديث 75-78. وأحمد 1/211.
3 أحمد 6/34.